اغتيال الطفولة!

محمد مسافير
moussafir.med@gmail.com

2017 / 7 / 19

شأن أي مغربي، درست في روضة الأطفال قبل سن التمدرس، ولم تكن تنعت بهذا الاسم إلا إجحافا، فقد شهدنا فيها من صنوف التعذيب ألوانا، كنت أخشاها قبل أن أكون سجينا بضيافتها، لِما كان يقتحم أذناي مما تخبئه جدرانها من ويلات، ولِما كنت أنظره في ملامح مُرتاديها من فزع ورهبة!
كل من كان يدبُّ حركةً في الشارع ينزع، على مضض، إلى السكون والجمود في حضرة المعلمة الجلاد، لم تكن تأخذها رأفة أو شفقة بأي منا ما لم ينضبط لقوانينها: أن يُجهد في الإنصات، وأن يتكلم متى أومر، وأن يقيد يديه ورجليه من الحراك حتى لا يحدث خشخشة لا ترتضيها، وأن يحفظ درسه جيدا، وأن يتجنب الابتسام، ويا ويله إن ضحك على نحو فاجر..
كانت تتفنن في طرق التعذيب، الفلقة كانت روتينا يوميا، أو أن تحكم قبضتها على عنق ضحيتها وتجبرها على الانحناء ثم تضرب بكل ما أوتيت على المؤخرة حتى تعجز الضحية عن استعمالها في الجلوس، فتجلس مقرفصة طوال الدرس، وإن اتفق لها أن تقتنص ضحيتين، فإنها تنطحهما بعضا ببعض حتى يكادا يسقطان بسبب الدوخة، وأحيانا تضربنا فوق رؤوس الأصابع بعد أن نشدها شدا، كانت تعمد إلى الطرق الأكثر إيلاما وكأنها تقتبسها من موسوعة كتبتها أنامل جلاد بمعتقلات سرية!
كان كل شيء يتم برضا الوالدين، يسلموننا إلى أياد الموت بأريحية، وإن سولت لك نفسك أن تشتكي لوالديك من الضرب فستلقاه مضاعفا بالبيت، ما عليك إلا أن تخرس، وتحرس جروحك حتى تندمل... وكم كنت أتصنع المرض عساني ألقى رأفة من أمي، وإن اتفق أن استسلمت لتوسلاتي وحاولت أن تحتفظ بي في البيت، فما كان أبي يصدق افتعالاتي، كان يشدني من أدني ويجرني جرا نحو مصيري المحتوم، فتستقبلني المعلمة أحر استقبال وأمَرَّه، تضرب وتلطم وتشهق وتنهق حتى تستنفذ ما بها من طاقة، ثم تستأنف الدرس...
ذات صيف، انضاف إلى قائمة المعذبين الأبرياء، طفل في التاسعة من العمر، حيث كانت تلتحق بنا بعض الحشود من التلاميذ الذين لم يسعفهم الحظ في قضاء إجازة الصيف، كانت تستقبل كل من هب ودب، والآباء لا يعترفون بشيء اسمه راحة التلميذ، همهم أن يطمئنوا إلى أبنائهم وهم يحملون كتبا يجيئون بها ذهابا وإيابا، أما مضمون الدرس أو جدواه فهم أبعد بكثير من أن يعيروه اهتماما، وهمها هي، أن تضيف إلى رصيدها أوراقا مالية إضافية...
حاولتْ ضرب التلميذ بعد أن اعتذر لعدم حفظه لسورة الغاشية، لكنه لم يجمد كما تعودنا أن نفعل، بل انتفض، قال لها بصوت جهور: ليس من حقك أن تضربيني!
ذهلنا لهذا الذي نراه أول مرة، تلميذ ينتفض ضد الأستاذة، ويقول ما لم نستطع أبدا قوله، كنا نرى جرأته وقاحة لا تليق بتلميذ مهذب، وفي نفس الوقت، كنا نعتبر تصرفه هذا ثأرا لنا، أما هي... فقد فتحت ثغرها عن آخره، ذهلت شر ذهول، وربما خافت في سريرتها، لكنها لم تمض في جمودها، فحاولت حفظ ماء وجهها، وانهالت عليه ضربا قاسيا، ثم طلبت من بعض من كبارنا إحكامه، وكذلك فعلوا، ثبتوه فوق الطاولة، وبدأت تجلده أسفل رجليه حتى اسودتا، حاول المقاومة أول الأمر، حاول ألا ينزف دمعة، لكن حرارة أنبوب الغاز الذي كانت تستعمله في الضرب، لم يكن إلا ليحمله على البكاء... ثم على الصراخ...
في اليوم الموالي، تغيبت المعلمة، فسَرَّنا الأمر كثيرا، علمنا فيما بعد أنها أصيبت بحجرة حادة على مستوى الرأس، لم تكن إصابة بالغة الخطورة، خيطت الفتحة التي خلفتها الضربة بست "غرزات"، الكل كان يعلم الجاني، فتسابقنا ببراءة نخبر عنه والديه، وما إن علموا بالأمر حتى سارعوا إليها لإصلاح ذات البين، وفعلا تمت التسوية دون أن نعرف الكيف...
ورغم أننا أبغلنا عن الجاني، إلا أننا كنا نضمر له احتراما لا مثيل له، كان بطلا في عيوننا، فقد استطاع مقاومة الظلم، وفي نفس الوقت، استطاع أن يطلق سراحنا لمدة أسبوع كامل من ذاك المعتقل البغيض!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن