التعليم والعولمة.

كريم اعا

2017 / 7 / 15

لقد شكل الحق في تكوين المنظمات العمالية قفزة نوعية في تاريخ النضال العمالي، ودفعة كبرى في نضال المستغلين ضد نظام القهر والاستغلال الرأسمالي. إلا أن التطور التاريخي لهذا الصراع أثبت بما لا يدع مجالا للشك قدرة الأعداء الرأسماليين على إفراغ هذه التنظيمات العمالية من محتواها الثوري وجعلها مدارس لتدجين العمال وترويضهم على قبول نظام يقوم على نهب قوة عملهم. وهي مؤامرة تتم في ظل تدني وعي العمال وانحياز القيادات البيروقراطية إلى صف أولياء نعمتها.
ولئن كثر الحديث عن العولمة وتأثيراتها على حياة الشعوب، فإنني أرى ضرورة التنبيه إلى خطورة تبني مفاهيم ومصطلحات دون التدقيق في حمولتها الطبقية، حتى لا نحمل ـ بدون وعي ـ الماء إلى طاحونة أعداء الطبقة العاملة وحركتها المناضلة. وسأحاول في هذه الورقة الوقوف عند أهم التحولات التي جاءت بها العولمة الامبريالية على التعليم في معاقلها (اعتمادا على مقال نيكو هارت: تبضيع التعليم) حتى تكون لنا أرضية صلبة تساعدنا في فهم مخططات الطبقات الحاكمة ببلادنا وتجعلنا قادرين على استيعاب مضامينها التصفوية الخطيرة، وقادرين على استشراف آفاق شعارها المواجهة والتعبئة حتى إفراز وضع اجتماعي جديد قوامه المساواة والديمقراطية الفعليتين، وحيث ستجد المدرسة الموحدة، الديمقراطية، العلمية والشعبية فضاء لصقل مواهب الإنسان وتفجير طاقاته الكامنة خدمة للحضارة والثقافة الكونيتين ولقيمها الإنسانية الرائعة.
1. العولمة الامبريالية عدو الطبقة العاملة:
حين نتحدث عن العولمة الامبريالية فإننا ندرك جيدا خطورة التعامل التبسيطي السطحي مع هذه القضية التي أصبحت تؤثث جزءا كبيرا من حياتنا اليومية وتنزل بثقلها على مستقبل النوع البشري برمته. وأود الإشارة إلى أنه يلزم التفكير الجدي والتعامل العلمي الرصين مع هذا الغول في محاولة لفهم جوهره واتجاهات تطوره حتى نكون قادرين على التأثير في مساره واستثمار ما يتيحه لما فيه خير الإنسانية. فمن العيب الانبطاح أمام هذا التحدي والانغماس في ما يحاول امبرياليو العالم وأجهزتهم إيهامنا أنه مستقبل الشعوب. كما أنه من الخطورة الاعتقاد بإمكانية نفي عولمة العلاقات الإنتاجية الرأسمالية وكوننتها، بل ـ وكما أسلفت ـ من الضروري التعامل مع هذا الوضع بوعي يقظ يمكننا من خدمة المشروع الإنساني الذي بشرت به الحركة العمالية منذ أواسط القرن 19.
إن العولمة الامبريالية تعبير عن سيادة نمط اقتصادي، سياسي واجتماعي مبني على الهيمنة والقهر والقوة. إنها تعبير عن أعلى مراحل التطور الرأسمالي الذي بدأ صغيرا مشجعا للمبادرة والمنافسة الحرتين، وانتهى نظاما سمته الاحتكار، تصدير الأموال، تقسيم سوق العمل الدولي، اعتماد الغزو والحروب لتحقيق الهيمنة ولتجاوز الأزمات الدورية البنيوية.
وإذا كانت أغلبية التعريفات الأكاديمية تجمع على تجليات "العولمة" الاقتصادية فإن جبن أغلبية الذين تناولوا الموضوع، إما بسبب الخوف على امتيازاتهم أو لكونهم مدافعين عن نظام القهر والاستغلال من حيث لا يدرون، جعلهم يسقطون جوهرها الطبقي وأبعادها السياسية على حياة الشعوب.
إذا كان الدافع الاقتصادي بالدرجة الأولى هو المسيطر في مخططات وتوجهات العولمة الامبريالي، فمن الطبيعي أن تمريرها بشكل لا يثير مواجهات وثورات يتطلب استثمار ما هو سياسي وما هو إيديولوجي، واستثمار جميع الأجهزة التضليلية من إعلان وتعليم ودور سينما ومسارح...إلخ. قصد إنتاج وتكريس فكر يتماهى والثقافة الاستهلاكية. وهنا الأهمية الكبيرة التي توليها الدوائر الامبريالية للتعليم سواء في بلدانها أو في البلدان التابعة لها.
إن تركيزنا على العامل الاقتصادي مرده محاولة فهم السياسي والإيديولوجي ووضعهما في السياق التاريخي لإنتاجهما. وهذا لا يعني غياب أي دور لهما بل التركيز يهدف فهم الأرضية المادية التي بدونها ينقلب الفكر إيديولوجيا خادعة.
2. عولمة أزمة النظام التعليمي:
مع انتهاء عقد الثمانينات من القرن الماضي، كثر الحديث في الأنظمة الصناعية الكبرى عن ضرورة إصلاح التعليم والنظم التربوية التي أصبحت غير قادرة على مسايرة المتغيرات الاقتصادية، السياسية والاجتماعية التي يعرفها العالم. وهكذا صرنا نسمع عن شعارات مثل: اللامركزية، ربط التعليم بمحيطه الاجتماعي والاقتصادي، استقلالية المؤسسات التعليمية، إصلاح وتطوير البرامج والمناهج، التدريس بالكفايات، الشراكة مع مؤسسات القطاع الخاص، إدخال وسائط المعلوميات والاتصال، خوصصة الخدمات التعليمية...إلخ.
ومن اللافت للنظر أن هذه الشعارات/الدعوات لم تقتصر على بلدان بعينها، بل نجدها وقد غزت العالم برمته ـ وهنا أحد مظاهر العولمة الامبريالية ـ مما يدفعنا للقول أن وراء ذلك قوى محددة ومشتركة ألا وهي ضرورة ملاءمة النظم التعليمة مع المتطلبات الجديدة للاقتصاد الرأسمالي المعولم، بما يعنيه هذا من تبضيع للخدمة التعليمية وإدخالها كإحدى أهم واجهات الاستثمار الرأسمالي المستقبلية.
3. العولمة الامبريالية وتسييد نمطها الإنتاجي:
لقد جعلت التطورات التقنية المتسارعة عملية المنافسة تأخذ طابعا تصفويا يؤدي إلى إفلاس المؤسسات الإنتاجية والنزوع نحو إعادة هيكلتها أو إغلاقها بما يعنيه ذلك من تشريد آلاف الأسر وتفقيرها، والعمل على نقل الوحدات الإنتاجية من بلد إلى آخر لمزيد من نهب قوة الطبقة العاملة.هذه التطورات جعلت الاحتكاريين يدخلون ـ وبشكل متزايد ـ المنتوجات التقنية إلى الميدان الإنتاجي وكذا إلى الأسواق بما يعنيه ذلك من ربط الاقتصاديات التابعة وشعوبها بالمركز الامبريالي.
إن السعي إلى مزيد من الإنتاجية وما يلي ذلك من طموح إلى اكتساح الأسواق، وبالتالي الميل إلى الاحتكار ليس إلا الطريق نحو إنتاج الحروب والدمار (أنتجت هذه الحروب في أفريقيا لوحدها أزيد من 25 مليون لاجئ).
ومقابل دعوة الامبريالية البلدان التابعة لتحرير أسواقها، تعمل على تقوية سياسية حمائية خصوصا في الميدان الفلاحي، حيث أن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي يدفعان ملايير الدولارات لفلاحيها، مما يمنع البلدان الفلاحية التابعة من تطوير إنتاجها وما يستتبع ذلك من استمرار المجاعة والسعي إلى المزيد من الاستدانة. والشيء نفسه يقال عما يسمى الصناعات التقليدية كالنسيج مثلا. فتحت يافطة "سياسة التنافسية والأفضلية والخروج من سياسة الحمائية التي نشأت وترعرعت فيها جميع الاقتصاديات، يحاولون إيهامنا بإمكانية تبادل حر وسوق مشتركة أو مناطق حرة، في حين يدفعون تعويضات لبرجوازيتهم ويكرسون الحمائية كواقع (حسب جوزيف ستيغليتز، نائب رئيس البنك الدولي سابقا والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد).
ها هي مرة أخرى إحدى حيل البرجوازية القديمة، فهم يحاولون أن يجعلوا التبادل شيئا طبيعيا وصحيحا حتى ننسى طبيعة نمط الإنتاج الذي يشكل قاعدة هذا التبادل والمسمى حرا. هل ننسى أن هناك استغلالا وأن حرية التبادل ستتم فقط حين يكون المنتجون أحرارا ولهم سلطة التبادل بحرية، وهو ما لن يتحقق إلا بامتلاكهم السلطة السياسية التي تخدمهم.
4. تطورات سوق الشغل:
تشكل ضرورة التأهيل والتكوين المستمرين للعمال النتيجة المنطقية للتطورات التقنية المتسارعة، بما يعنيه ذلك من مصاريف وتسريحات متزايدة. لذلك يسعى الرأسماليون لترسيم العمل بالعقود المحددة حتى يمكنهم التصرف في قوة العمل وفق حاجياتهم الإنتاجية. إنهم يدركون أن مناصب الشغل لم تعد مستقرة كما كانت من قبل، وأن طبيعتها أيضا في تغير مستمر، وهذا ما جعلهم ينادون بضرورة ربط التعليم بالمحيط الإنتاجي. وهاكم ما يقوله وزير التربية الوطنية عبد الله ساعف في هذا الباب: "فمثلا (بكالوريا + سنتين) في السنة الماضية كان فيها 395 تلميذا بأحد عشر تخصصا، فهؤلاء 395 التحقوا بالقطاع الخاص ويشتغلون الآن.وللإشارة فإن أصحاب المقاولات هم الذين طلبوا هذه التخصصات... إذن فتعزيز التعليم التقني يمر عبر فتح المنافذ على التعليم العالي وعلى سوق الشغل".
هذه إحدى واجهات أجرأة الميثاق المشؤوم: تبضيع أبناء شعبنا وجعل مؤسسة يمولها الكادحون ميدانا لتجارب رأسماليينا ومنظريهم الأوفياء.
كانت المنافسة المتوحشة واستمرار أزمة النمو الاقتصادي السبب الأول والأساسي في تخلي الدول الامبريالية عن القطاعات الاجتماعية والعمومية، أما الأنظمة التابعة لها فقد كانت لتوصيات المؤسسات المالية الامبريالية الدور الكبير في دفعها نخو هذا الاتجاه حفاظا على الحبل السري الذي يجمعها وتكريسا لعلاقات التبعية التي تشكل عمودها الفقري. ففي المغرب مثلا يصمون أذاننا بأن نفقات التسيير بقطاع التعليم تبلغ 56% في مشروع قانون المالية 2003، وأن الأجور تشكل 66% من مجموع نفقات التسيير. كما أن قطاع التعليم الابتدائي والثانوي ـ بدون التعليم العالي ـ يستحوذ على 21 % تقريبا من نفقات التسيير.
غير أننا نقول لهؤلاء أن رجال التعليم إن كانوا يأخذون حصة 21 % فهم يمثلون 60 % من عدد الموظفين، مما يعني أن العاملين بهذا القطاع يعانون الحيف من حيث أجورهم.
من جانب آخر فأي نظام يرى في قطاعات اجتماعية كالتعليم والصحة مثلا حملا يثقل كاهل ميزانية دولته ليس جديرا بأن ينعت نفسه بالوطنية أو الديمقراطية، ولا أن يمطرنا بخطابات حول خدمة الشعب لأن هذا الأخير يرزح تحت نير الأمية والجهل والفقر والبطالة وجميع مظاهر البؤس والحرمان.
إن دهاقنة الاستغلاليين يدركون جيدا أن المساس بقطاع حيوي كالتعليم لن يتم بدون صعوبات قد تصل حد المواجهة بين الجماهير المتضررة والطبقات المستفيدة من هذه المخططات، لذا نجدهم يلجؤون لخطوات وخدع كثيرا ما تنطلي على السذج وذووي النيات الحسنة وأهمها:
1. محاولة إيهام الجماهير بالحفاظ على حق التعليم والسعي إلى تعميمه عبر الخطابات الرسمية، مقابل خفض الميزانية المخصصة للقطاع. ينتج عن ذلك الحفاظ على الجانب الكمي في ميدان التعليم "الارتفاع المزعوم لأعداد المتمدرسين" مقابل التدني الواضح في جودة التعليم المقدم. وهو ما يفتح الباب مشرعا أمام نضج فكرة توجيه المتعلمين نحو التعليم المخوصص.
فسياسة تخفيض الموارد المالية الموجهة للتعليم (ضمن سياسة عامة تهدف التخفيض من كتلة الأجور في الوظيفة العمومية والتي كانت تصل إلى 13 % من الناتج الداخلي الإجمالي والتي أصبحت حسب عرابي مؤسسة صندوق النقد الدولي 11 % عن سنة 2002) يمكن تمريرها دون أن تثير انتباها يذكر في ظل تدني الوعي الجماهيري وافتقاده لطليعته، في حين أن حرمان أعداد كثيرة من ولوج التعليم الثانوي والعالي قد يكون النقطة التي ستؤجج الصراع الطبقي وتكشف زيف شعارات النظام وعمق الفوارق الطبقية، وكذا الدور الرجعي لمؤسسات الدولة وأجهزتها.
2. السعي إلى خلق نوع من الإجماع المزعوم حول المخططات المقترحة (نموذج ما سمي ميثاقا وطنيا للتربية والتكوين بالمغرب) حتى تمرر دون مقاومة تذكر. وهنا أحد أدوار التنظيم النقابي المناضل وهو السعي إلى جمع كل الأصوات المنددة بهذه المخططات والمؤمنة بدورها في التغيير والحفاظ على مكتسبات شعبنا المادية والديمقراطية. جمع هذه الطاقات لتشكل سندا للحركة الجماهيرية العامة في أفق إنتاج فعل يربط الاقتصادي بالسياسي ويكون سدا أمام العولمة الامبريالية.
هذه الإجراءات تهدف بالدرجة الأولى إلى خلق الشروط الملائمة للتخلي عن سياسة التعميم وتوجيه أنظار العائلات للبديل المزعوم: التعليم الخاص ـ في ظل وضع مأزوم تلخصه أرقا الوزير السابق عبد الله ساعف "بالمغرب 7 % فقط من التلاميذ المسجلين بالمدرسة الابتدائية يصلون إلى الجامعة، و2 % منهم فقط ينهون دراستهم الجامعية".
5ـ مزيدا من التربية على الاستهلاك:
رغم تركيزنا على دور المدرسة كفضاء لتكوين اليد العاملة فإن هذا لا يعني انتفاء دورها الايديولوجي بل إن هناك انزلاقا من هذا الأخير نحو دور اقتصادي متزايد. فبالرغم من أن المتعلم مدعو من طرف النظام القائم إلى إدراك ما يقد له كقوانين التشكيلة الاجتماعية القائمة، والتي هو مطالب للحفاظ عليها لشرعيتها المستمدة ـ حسب المدافعين عن الطبقات الحاكمة ـ من ديمقراطيتها فإن الوقائع تثبت أن لا وجود للأخيرة في ظل سلطة السوق والرأسماليين.
لقد تراجع الإيديولوجي الكبير للمدرسة لفائدة وسائط أخرى تشكل الوعي الاجتماعي المطلوب وتوجهه: الإشهار، الإعلام، التلفاز... كما نشهد تغيرا واضحا في المستهدف من العملية التربوية حيث أصبح المستهلك في مركز هذه العملية والتوجهات التعليمية الكبرى. فإحداث أسواق كبرى تتطلب أولا وقبل كل شيء قدرة زبنائها على استعمال ما تطرحه من منتجات، لذا نفهم سعي الرأسماليين الحثيث لتعميم تقنيات التواصل والإعلاميات. إنها القناة الرئيسية لتنشيط عصب اقتصادها المأزوم. وهاكم ترجمة هذا التوجه مغربيا: "فإلى جانب حملات التوعية والتوجيه لابد من إحداث مواد تساهم في التثقيف التقني، بل إن "تقنن" المواد يمكن اعتبارها بمثابة ثقافة جديدة" عبد الله ساعف.
من منا لا يزال بحاجة إلى دليل أن نظامنا التعليمي نسخة مشوهة لنا تطرحه الامبريالية في معاقلها؟
إن الأمر لا يقتصر فقط على خوصصة التعليم بل يتعداه ليشمل التأطير والمراقبة التربويين حيث، وابتداء من سنة 1993، يتم تأطير ومراقبة أزيد من 73 % من المدارس الابتدائية في إنجلترا من طرف شركات خاصة تستفيد من أزيد من 118 مليون جنيه سترليني. والأدهى من ذلك، أن هناك شركات خاصة تعرض خدمات تعويض الأساتذة المتغيبين أو المرضى. أي أفق ينتظر رجال ونساء التعليم إن لم يتكتلوا ويعوا هذه المخططات القادمة ببطء لكن بثبات.
ختاما يمكن القول أن المخططات الرامية إلى ملاءمة التعليم مع متطلبات القوى الصناعية والمالية ذات نتائج وخيمة تتمثل في جعل النظام التعليمي بدرجة تتزايد وتيرتها، أداة لخدمة الجشع الرأسمالي، إضافة إلى تعميق هوة الفوارق الطبقية بما فيها حق الوصول غلى المعارف.
إنهم يحاولون إبقاء الجماهير في وضع يكرس سيطرتهم: تعلم كيف تنتج وتستهلك وتحترم المؤسسات القائمة. فالتراجعات المسجلة تتم على حساب المعارف والمهارات التي تمكن من فهم العالم ومن السعي إلى تغييره. فالمستغلون هم من يتم حرمانهم بدرجة كبيرة من حقهم في امتلاك سلاح ثقافي هم في حاجة ماسة إليه من أجل تحررهم الاجتماعي. وسوف تبقى المدرسة العمومية مكانا للتنشئة الاجتماعية للفئات التي لا تمثل سوقا مربحة، وهذا أقصى ما يمكن أن تقدمه لوالجيها.
23 فبراير 2003



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن