هيغل وآراءه حول علم الجمال والفن

فواد الكنجي
fouadganje@yahoo.com

2017 / 6 / 28

لما كان الفن هو نمط من ارتقاء الوعي الإنساني في التأمل الحسي الجمالي الذي يعمل من اجل التوازن بين (المضمون) و(الشكل) وتوحيد بنيانهما في (العمل الإبداعي) الذي يكفل له مخارج جمالية عبر التوازن والتوحد بينهما، لان الحكم الجمالي يكمن موضوعه بين التأمل والعقل، وهذا لا يتأتى دون وجود خبرة في عملية الإبداع الفني التي تنحصر بين (الفنان) و(العمل الفني) و(المتلقي)، ليأتي دور (علم الجمال) في المحصلة الأخيرة الذي يقوم بتحليل هذه (الخبرة) بين كل الإطراف وفق قيم و معاير العصر، لان لكل عصر معاير خاصة بعصره .
واهم ما يمكن لنا أخذه من تلك المعاير الفلسفية والتي ظلت أثارها قائمة، بحجم ما اثأر حولها أراء وبحوث ودراسات وإضافات على (فلسفة الفن) و(علم الجمال) هي أراء ومواقف الفيلسوف (هيغل، هيغل جورج فلهملم فردرش المولود في ألمانيا- شتوتغارت عام 1770)، على الفن وعلم الجمال. فـ(هيغل) الذي يعتبر اكبر فلاسفة أنجبتها الإنسانية في التاريخ، إذ تعتبر فلسفته قمة الهرم (الفلسفة) في تاريخ البشرية برمتها، بكون كل أسس ومفاهيم التي طرا على الفكر البشري، إنما دار نقدا أو إضافة حولها، واعتبر بما في ذلك الفكر الماركسي والوجودية امتدادا لأفكار (هيغل) لدرجة التي قسمت الســاحة الفلسفية بين (يمين هيغلي) و (يسار هيغلي) وقد قام جدل كبير في قراءة كتبه وتفسيرها بأشكال مختلفة، ومن أبرز كتبه هي (فينومينولوجيا الروح) و (موسوعة العلوم الفلسفية) و (حياة يسوع) و (المنطق) و (فلسفة القانون) و (فلسفة التاريخ)، فقد وصل(هيغل) إلى قمة المجد الفلسفي، وهو في (الحادية والستين) من عمره في وقت الذي لم يكن قد أصدر في حياته سوى أربعة من كتبه الكبيرة، إضافة إلى بعض دراسات متفرقة صغيرة، أما القسم الأكبر من آثاره فقد تم نـــشره بعد رحيله.
فنظرة (هيغل) إلى (الفن والجمال) تنطلق باعتبار (الفن) خطوة من خطوات العقل للوصول إلى الحقيقة بكونه شكل من إشكال كلية العقل، لان قدرة (الفن) حسب اعتقاده له إمكانيات محدودة سبب طبيعة أدواته ووسائطه الحسية ولهذا فان (الفن) لا يستطيع الوصول إلى الإدراك الكامل للوعي أو الروح إلا عن طريق (الجمال) الذي ينبع من الروح أو ذات الإنسان المتفاعلة مع (الجمال الطبيعي) الذي هو الصورة الأولى من صور الجمال, لأنه كما يقول (هيغل): ((..هو الصورة الحسية الأولى التي تتجلى فيها الفكرة))، وهذا (الجمال لا يتحقق إلا في (الجمال الفني), وقد كرس (هيغل) في هذا الصدد بحوثه في مفهوم (الفن) و(الجمال)، فوضع كل خبرته الفلسفية في تناول هذا الجانب، فهو من يعرف (علم الجمال) بوصفه هو((النظرية الفلسفية للجميل وللفن))، مؤكدا بأن نظريته لا تتوخى تحديد مفاهيم وقواعد فنية، بل كما يقول : (( .. التقاط اللحظات الأساسية التي كونت الجميل والفني على مدى تاريخ البشرية..)). و لم ينكر (هيغل) أو يلغي ما قالوه الفلاسفة ومفكرين من قبله بقدر ما حاول طرح مواقف متجددة تلاءم العصر، ليبقى كل ما طرحه من أفكار أكثر اكتمالي وشمولية ، لأنه (الجمال) في رأي (هيغل) هو(( الفكر الذي يعبر عن الوحدة المباشرة بين الذات والموضوع))، أي أن (الجمال في الفن) هو اتحاد الفكرة بمظهرها الحسي, والنظر إلى الفكرة ذاتها يكون (الحق) والنظر إلى مظهرها الحسي يكون (الجمال) لتكون وظيفة (الفن) هنا تشذيب الجوانب العرضية والطارئة في (الشكل والمحتوى) ليرفع بمقام الكائنات الطبيعية والحسية إلى مستوى المثالية لتكتسب بطابع (كلي)، لان (الفن) يرد الواقعي إلى المثالية ليرتفع به المقام إلى الروحانية لان الفكرة التي تشكلت تشكلا دالا على تصورها العقلي تتحول إلى الـ(مثال)، ‏ومن هذا المنطلق يفهم (العمل الفني) حسب نظر (هيغل ) بان(( أي عمل فني لا يكون فنيا ما لم يكن جميلا)) والجميل هو الوصول إلى (الروح المطلق) هذه الروح التي هي محور الأساسي في فلسفة (هيغل) الفنية، لان الوجود بكل ما فيه من ظواهر المادية والطبيعية والقيم الإنسانية وأفكاره إنما هي مظاهر من مظاهر( الروح ) وان قانون الذي تدور عليه هذه الظواهر هو ما يطلق عليه (هيغل) بـ(الجدل)، وهذا (الجدل) هو الذي يضيف الديمومة على إبداع (الروح) وفي خلق الوعي وإنتاج الحرية، وبكل تأكيد فان ما يأتي من إنتاج الروح يحمل طابعا متفوق جماليا يكون ارفع مما هو في الطبيعة، ومن هنا تأتي (جدلية الفن) بمنطلق (هيغل) حين يكون (الفن) مظهرا، فان (المظهر) هو دال على الجوهر، والحقيقة لا تكون مجرده إذ أنها لا تفهم ما لم تظهر في(وعي) ليدرك كنهه.
ومن هنا فان (الفن) الذي يحاكي الطبيعة ليس له قيمة فنية لأنه لا ينتج أشياء فنية متميزة إنما ما ينتج عنه ما هو إلا مهارة وصنعة ليس إلا، فـ(الفن) هو ما ينطلق من حاجة الإنسان ومن معرفته ما في الوعي بعالمه الداخلي و عالمه الخارجي على السواء بواسطة تلك الموضوعات التي يتناولها الفنان لتعكس له ذاته و فعله ليرى نفسه من خلالها، لان (الفن) الجميل هو التعبير عن مضمون روحي باطني، فيترتب عن ذلك ما يلي:
أنه كلما أفصحت الأعمال الفنية عن الباطن الروحاني، كلما نضجت في الشكل وارتقت في سلم الكمال والجمال والفن الذي يصل إلى هذه المرتبة إنما الفن يقدم للإنسان أعلى درجة من درجات الرضاء حين يرضى حاجته إلى فهم العالم خاصة به ، ولما كان يقيننا بان للإنسان له وجود مادي- و لكن يجب إن لا ننسى بان له وجود آخر هو وجود لذاته- وهذا ما نجده حينما يجعل الإنسان من نفسه موضوعا لتأمل، و هو بهذا الوصف الذي هو وصف(الروح) يبلغ وعيه بذاته و وجوده لذاته إما بطريقة (نظرية)، حيث يعكس بفكره على نفسه ليدرك فكره وما يدور في باطنه، وإما بطريقة (عملية) حيث يعرف نفسه بالنظر إلى الخارج وما يستطيع أن يؤثر به على الأشياء الخارجية.
فحينما سعى (الفنان) إلى رسم أو تصوير شكل (الإنسان) فان ذلك اعتبر اكتشافا- كما يقول (هيغل) - ساعد فن النحت و الرسم على الارتقاء من مرحلة أولية بسيطة إلى مرحلة متقدمة ومتطورة في تصوير (الروح)، لان برسم الشكل الخارجي للجسم الإنسان أدى فيما بعد بتعمق في الرؤية على الغوص إلى عمق الذات وباطن النفس ليتم (التعبير) عن الروح، ولما كان العضو الذي تتمثل فيه (الروح) بأقصى درجة إنما هي (العين)، فأن الروح لا تبصر بـ(العين) فحسب بل إنها تصبح (مبصرة) بها، بمعنى أن الذي يميز (العين) عن باقي أعضاء الجسم الإنسان هو أنها العضو الذي بها - أي العين - نكون مرئيين، ولهذا ينبغي أن يتحول العمل الفني (عينا) في كل أجزائه (الشكلية) حتى يكتسب قدرة على الدلالة على (المضمون الباطني)، أو ما في أعماق النفس، فـ(الشكل) مرتبط كل الارتباط بـ(المضمون)، بمعنى أخر، إن اكتمال الشكل مرتبط باكتمال المضمون، هذا في قياس (الفن الجميل) ولكن علينا إن ندرك بان هناك (فن) قد يكون (الشكل) متفوقا عن (مضمون) أو العكس، و قد لا ترتقي بعض أنماط (الفن) إلى (المثل العليا) الذي يكون (الشكل) موازيا مع (المضمون) وهذا لا يعنى بان هذه ألأنماط من (الفن) لا تنطوي على مضامين مميزه و يمكن تجاهلها، بل العكس، لأن لكل (عصر) نمط تفكير خاص ورؤية تختلف عن العصر أو الجيل الذي سبقه، ولهذا فان (هيغل) يعتبر هذا الأمر تعبيرا عن ارتقاء (وعي الإنساني) ومواقفه اتجاه (الفن) و(الجمال)، وهذا (الوعي) هو الذي يحدد طبيعة الإنسان ونظرته إلى (الجمال) و(الفن) ومواقفه، ومن هذه النقطة المهمة في ارتقاء الوعي الإنساني انطلقت رؤية (هيغل) لتحديد الجدلية (الديالكتيكيه) القائمة بين (الفن) و(الجمال) والذي قسم أنماط (الفن) وفق ارتقاء الوعي وطبيعة العصر التي مرت على (الفن) إلى (ثلاثة مراحل) مستندا إلى اعتبار العمل الفني تجسيدا لاتحاد (الفكرة) بمظهرها (الحسي) أي بين (الشكل) و(المضمون)، فكلما تشكلت الفكرة بطريقة جيدة حسيا ارتفعت إلى مستوى (المثال)، وهذه المراحل هي (الرمزية) و (الكلاسيكية) و (الرومانطيقية)، وهذا التقسيم الذي صنفه (هيغل) لمراحل الفن، جاء نتيجة دراساته المتعمقة في طبيعة (العمل الفني) وقيمته (الجمالية) ومن خلال المحاضرات التي كان يلقيها للطلبة، فتوصل إلى هذا التصنيف مؤكدا بان مسيرة التعبير في (العمل الفني) تتجه للوصول إلى الحقيقة الأسمى، ومن الأسمى إلى الأسمى فأكثر وأكثر لتتوافق مع مفهوم (الروح) لان الوصول إلى هذه النقطة لا يتم ما لم نصل إلى مفهوم الحقيقي لـ(ماهيته) المطلقة، وهذا يتطلب اجتياز يفرضها عليه ذلك المفهوم بالذات، وهي التي تقدم المؤشرات المتعلقة بتقسيم (مراحل الفن) عبر (الرمزية) و(الكلاسيكية) و(الرومانطيقية) وهذا التصنيف هو جوهر (الديالكتيكية) الفن عند (هيغل)، ولادة وموت .. وموت و ولادة والى ما لا نهاية فـ(الفن) حسب تصوره ينتهي حين يغطى (الفنان) على (الفن) و يطلق العنان لخيالة و تصوراته بحيث يتضاءل المضمون و تختفي الموضوعية و تصل الحضارة إلى مرحلة يموت (الفن) و يتخلى عن مهمة تقديم الحقيقة لتبد مرحة جديدة في البحث عن ماهيته وهكذا .
فان كانت مرحلة (الرمزية) تمثل مرحلة ((البحث)) عن (المثال) و عن اتحاد الفكرة بالشكل الخارجي ليتطور أمره إلى مرحلة (الكلاسيكية) التي ((تصل)) إلى (المثال) و يبلغ مرحلة اتحاد الفكرة بالشكل الخارجي و في هذا الصدد يقول (هيغل): ((.. إن المثال أو المثل الأعلى للجمال لا يتحقق بمجرد مطابقة المضمون بالشكل، و لكن ينبغي أن يكون المضمون نفسه على مستوى عال من السمو و الكمال..))، ليتم تطوره هو الأخر إلى مرحلة (الرومانطيقية) وهي المرحلة التي ((تعلو)) بالفكرة و يتسامى بـ(المثال) إلى حد يجعلها غير متحدان بالشكل الخارجي، ولتوضيح أكثر نأخذ كل مرحلة للحديث عنها بشيء من لإيجاز.
المرحلة(الرمزية)..
المرحلة الرمزية كما اشرنا سابقا هي مرحلة ((البحث)) عن (المثال) و عن اتحاد الفكرة بالشكل الخارجي، وقد ساد نمط هذا الفن من تاريخ الفن لفترة طويلة وتحديدا في (تاريخ الفن للحضارات الشرقية القديمة)، وكانت من خصائص ما تميزت بها هذه المرحلة هو (تعارض الموضوع مع الشكل الخارجي للفكرة) في وقت ذاته كان يتميز المضمون الفكري بصفات (الإبهام) و (الألغاز)، ومن هنا كان يسود فيها كم من الإسرار والتي كانت تطغي عليها الطابع السحري الجذاب، وإذ أخذنا أي عمل من تلك الإعمال الفنية فإننا نجد أن الشكل الخارجي فيها لا يقتصر على أداء المعنى المطابق له، فقد تعنى صورة (الثور) - كما جاءت في المنحوتات الحضارة (الأشورية) في وادي الرافدين- الحيوان نفسه أي شكل الثور نفسه، ولكنها قد تعنى معنى (رمزيا) حين يقصد بـ(الثور) كرمز على (القوة) أو (العظمة)، فـ(الرمز) لا يستغرق كل صفات مدلوله حين يشار إليه إلى جانب معين من جوانب الفكرة، أو حين يؤخذ بالمعنى الحرفي، ولكن تطور الرمز في الفن (الأشوري) قد وصل إلى مستوى الرمزية أللا واعية، حيث يتم اللجوء إلى تضخيم أقل الأشياء الطبيعية وينتهي إلى اللا تناسب الناتج عن تصور وحدة وجود الإلهية وضخامة المعابد و المسلات ليناسب وجود الروح، وفي هذه الرحلة من تاريخ الفن نجد بان (الرمز) يكون مجرد فكرة غامضة و غير محددة المظاهر كونه يأخذ مفهوما (لوحدة الوجود) عند القدماء الشرقيين، حيث تحمل أتفه الأشياء مضمونا روحيا متضخما أو تضفى على الطبيعة معنى لا يتناسب معها و لذلك تنتهي إلى الغرابة .
ونتيجة لتطور الوعي ظهر صراع بين (المضمون) و(الشكل) للوعي الإنساني، بحيث يمكن التفرقة بين الجانبيين وتبلغ (الرمزية) هنا مرحلة الرمزية (الواعية)، إذ أن التقارب بين (الرمزي) و(الرائع) و(الجليل) واضح لاشتراك هذه الصفات في الدلالة على ما يفوق الحس وارتباط كل منهم بحقيقة عليا كلية. وعدا (فن العمارة) تعبيرا عن هذه المرحلة حيث اعتبر أول خطوة على طريق (الفن) و هي اقل الفنون قدرة على تقديم (المضمون الروحي) لان المادة المستخدمة في هذا (الفن) هي مادة صلبة خالية من الروح .
ومن هنا فان هذه القيمة في الفن (الرمزي) قد انتقلت إلى طورها (الكلاسيكي) ولأكنها لم تعد تستعير من الطبيعة إشكالها وإنما خضع ايداء وظيفتها إلى إبداع (العقل الإنساني) .
المرحلة (الكلاسيكية) ..
يعتبر (هيغل) المرحلة الكلاسيكية بأنها(( هي مرحلة ذروة الفن)) وقد كان لـ(فن النحت) دورا بارزا في بلاغة المنطق و نسقه حسي، موفقا بين (المضمون) و(الشكل) بشكل مترابط ومتجانس إلى ابعد الحدود، حيث تبلغ الفكرة مستوى إدراك الذاتية والروحانية، فتتصف الفكرة بأنها هي الأساس والفاعل الذي تحدد (الشكل) المناسب لها و الذي يمكنه الكشف عن مبدأ الذاتية و الروحانية و هو الشكل الإنساني .
وشهدت هذه المرحلة من مراحل الفن تتطور فكرة (الروح) إلى مرتبة (التحرر) من الطبيعة وتسمو عن المتجسدات الحيوانية لتتخذ من (الشكل الإنساني) مظهرا لها وعندئذ تدرك (الروح) ذاتها منفردة ذات شخصية.
وظهور هذا الوعي نجده في فترة الحضارة( اليونانية) القديمة، فكان (الدين) عندهم هو ((الدين المطابق للفن)) وأمكن (الفن) إن يعبر عن المطلق، لتتخلص (الإلوهية) من الشكل (الحيواني) واكتسبت الشكل(الإنسانية)، وقد اتصفت (المثل العليا) عند (اليونان) بسمات الهدوء و الصفاء ولكنها كانت تفتقد إلى التعبير عن (الانفعالات الباطنية) ، لذلك تميزت آلهة (اليونان) بالبرود و اللامبالاة، فكانت تعبيرا عن كلى الأبدي، غير أن فكرة (القدر) و (الضرورة) ظلت تحوم حول رءوس هذه (الآلهة) .
وكان فن (النحت) هو الصفة المميزة و ألأقدر تعبيرا عن (المثل العليا للجمال الكلاسيكي)، لان فن (النحت) كان أقدر الفنون على التعبير عن مبدأ الذاتية و عن الشخصية اللا مبالية بالانفعالات الإنسانية، لان (فن النحت) أمكن للتشكيل إن يعبر عن (الإلوهية) تعبيرا مباشرا وذلك لان (التمثال المجسد) كان لا يشير إلى (الآلة) بواسطة المعبد بل إلى (الإله) مباشرة .
لنستشف من طبيعة (فن الكلاسيكي) في هذه المرحلة، بأنه استطاع (التحرر) من النمط الرمزي الذي كان متميزا بالغرابة و الغموض و القبح و تحقق المثل العليا للجمال في الإعمال الفنية المعبرة عن الروح (الكلاسيكية)، لتكون ابرز ملامح (فن النحت الكلاسيكي) في هذه المرحلة هي (جعل الباطن الروحاني مرئيا و يكشف المظهر الشكلي الخارجي عن الروح)، فـ(الفكرة) في المرحلة (الكلاسيكية) تصل من تطور نتيجة الوعي الفني ليتم التخلص من (الشكل) المحدود و تدرك نفسها، بكونها روحا مطلقا غير ماطرة، فتتجاوز الإشكال الحسية المحدودة و تعلو على الإشكال الخاصة بالعالم الحسي الواقعي و تتحقق في عالم (الوعي الباطني) و تهجر العالم الخارجي ومن هنا تبرز ملامح فن جديد برؤية رومانطيقية .
المرحلة(الرومانطيقية)..
إما المرحلة الرومانطيقية، هي مرحلة التي تخلصت (الفكرة) من (الشكل) كونها أدركت نفسها بكونها روحا متعالية باعتبار إن (الجمال الفني) هو الذي يكفل التوحد بين (الفكرة والشكل)، لأنه ينبع من الروح الإنسانية، وليست الرغبة هي ما يربط الفرد بالعمل الفني، لان (الحكم الجمالي) في هذه المرحة أصبح موضوع للعقل والتأمل، غير أن (التأمل الجمالي) يختلف عن (التأمل في العلم)، لأن التأمل الفني (حسي) والتأمل في العلم (جوهري)، وقد تميز (الفن) في هذه المرحلة بتوافق (الروح) مع (الذات) واعتبر (الحب) هو العاطفة المعبرة عن هذا التوافق بين (الروح) و (ذاتها)، ليتم تحرر إنسان من قيود (الإلوهية) بعد إن اتحدت الإلوهية بالإنسان، فيبلغ الوجود الحقيقي بواسطة التضحية المستمدة من الإيمان بالدين (المسيحي) حيث يتم السلام بين الخالق و الخليقة كلها .
ليفهم الموت بأنه ليس سوى نهاية الجانب الفيزيائي للوجود الإنساني وبه تتحرر النفس من كلما يقيدها بالوجود الفيزيائي الأرضي، وهذا الفهم تمثل (كأول مراحله) من مراحل تطور (الفن الرومانطيقي) والذي يتمثل حسب تفسير (هيغل) بالمرحلة (الدينية) وهى تدور حول الفداء المستمد من حياة (المسيح) في مولدة و موته و بعثة و يحاول الإنسان بقدر طاقته بلوغ مستوى (الإلوهية) و (الخلود) بواسطة التضحية و المعاناة ثم تأتى (المرحلة الثانية) لتطور مبدأ (الفن الرومانطيقي) فتتمثل في ايجابية الذات الإنسانية و تبلغ مستوى (الحرية) الذي يمكنها من إثبات شخصيتها الإنسانية بمشاعر ثلاث رئيسية هي مشاعر (الشرف) و (الحب) و (الوفاء) .
إما (المرحلة الثالثة) للفن الرومانطيقي حيث تتحرر الشخصية و يميل (المضمون) في العمل الفني إلى (التعبير) عن كل ما هو خاص فيتناول (الفن) المظاهر الجزئية و ينأى من الموضوعات الرئيسية بل يعنى بوسائل (التعبير) إلى حد إن يأخذ في استعراض مهارته و سيطرته على المادة .
وكفهم عام لمرحلة (الفن الرومانطيقي) فان (الذاتية) هي مبدأ الأساسي لهذه المرحلة، فهي اقدر على تقديم (الروح) فى وجودها الذاتي، ولما كان (فن النحت) الذي يحكم عليه المادة الصلبة ويعتمد عليه فان بحكم هذه المادة لا يمكنه الكشف عن (الذاتية) لذا فكان اتجاه نحو إبداع مجموعة من (الفنون الرومانطيقية) القادرة على تقديم النفس في تركيزها علي ما هو في (الباطن) وعلى (الذاتية) ليتم التوجه من (الفن الشكلي) إلى (الفن الموضوعي) والى (فنون الذاتية) والتي هي (التصوير) و(الموسيقى) و (الشعر) و تتميز كلها بقدرتها على تقديم الأفكار و تنوع الصور، ففن ( التصوير) يمهد هذا الفن كأول خطوة للانتقال نحو الفنون (التشكيلية) حيث فنون (الصوت) لتتحول المادة (ذات الإبعاد الثلاثة) إلى سطح و يدخل (الضوء) و (الظلال) و (الألوان) للتعبير عن باطن النفس .
ليأتي (الموسيقى) كثاني الفنون المعبرة عن المرحلة (الرومانطيقية) لان حاسة (السمع) أكثر قدرة على (التجريد) من حاسة البصر و النفس في الموسيقى حيث تتأمل حركتها الباطنية، وبذلك مهد (الموسيقى) إلى الانتقال إلى قمة الفنون في التعبير عن الروحانية وهو فن (الشعر) حيث يتحول الصوت إلى كلمة ورمز لمعنى ولذلك فان مادة (الشعر) هى الخيال و الفكر .
وقد قسم (هيغل) فن (الشعر) إلى ثلاثة أقسام، أولا (الشعر الملحمي) وثانيا ( الشعر الغنائي) وثالثا ( الشعر الدرامي المركب) الذي قسمه أيضا إلى ثلاثة أنواع (الشعر التراجيدي) و (الشعر الكوميدي) و ( الشعر الدراما )، وقد أولى (هيغل) اهتمام خاص بفن (التراجيديا) حيث اعتبره بقولة: ((..ان التراجيدية هي قصة عذاب تثير الشفقة والخوف و لا يتوجب فيها النهاية المحزنة، غير إن (العذاب) في تراجيديا ليس في حد ذاته تراجيديا وإنما يكون تراجيديا إذ ما ترتب على الصراع الذي يمس جوهر الروح، لكنة ليس صراع الخير والشر، بقدر ما هو صراع الخير مع الخير أو بين الحب من جهة و الشرف من جهة أخرى...)).
وذهب (هيغل) مفسرا أوجه الاختلاف بين (تراجيديا القديمة) و( تراجيديا الحديثة) بقوله :
((... تراجيديا الحديثة اشد عناية بتصوير الذاتية و الشخصية، إما تراجيديا القديمة تمثل القوى العليا المتحكمة في إرادة الشخصيات وكانت هذه تراجيديا أفضل بكثير من تراجيديا الحديثة)) وهذا الكلام أكده مرارا في محاضراته الخاصة في (علم الجمال) .
ومن خلال ما تقدم نستشف في مبحث (علم الجمال) عند (هيغل) في كتابه (مدخل في علم الجمال) الذي حدد موضوعه في الاستقصاء عن فكرة عامة لـ(جمال الفن) من حيث كونه (مثل عليا) والعلاقة القائمة بين (الجمال الفني وبين الطبيعة وبين الإبداع الفني الذاتي) لكي يتم تحديد (مفهوم الجمال الفني) الذي تتعقب فيه الإشكال الفنية من (الرمزية) و(الكلاسيكية) و(الرومانسية) فيضع لكل مذهب معالجاتها ليتم النظر في تمايز الجمال الفني، في مسيرة الفن نحو التحقيق الحسي لأشكاله ونحو إضافة نظام يشمل الفنون الخاصة وتنوعاتها، فيعالج (هيغل) كل أنواع (الفن) من (الهندسة المعمارية) و(الرسم) و(النحت) و(الموسيقى) و(الشعر) .
فـ(هيغل) عبر هذا المدخل الذي يعتبر حقيقة موسوعة في علم (الجمال الفني) والذي اعتبر بان هذا الجمال هو أسمى من (الجمال الطبيعي) كونه ينطلق من الروح وقصدي ومتوجها إلى (الإنسان) لكي يخلق لديه انشراحا، أما (الجمال الطبيعي) فليس منبعثا من الروح وليس قصديا، وكما يقول (هيغل) : ))ما فائدة وردة جميلة في صحراء لا تصلها عين إنسان متذوق...! ))، فالجمال هو الشعور الذي يجعلنا نحس بالارتياح عند رؤية الأشياء (الجميلة) أو سماعه أو لمسه أو شمه، إذ لا شيء (جميل) في (ذاته)، لكن (الجميل) هو ما تضفيه (الذات على الشيء)، وإذا كان (الجمال) هو ما يجعلنا نحس بالارتياح وليس شيئا آخر، فإن (الفن) هو (إنتاج للجمال وليس شيئا آخر). وقد عرف الإنسان (الفن) منذ أن أضاف إلي الشيء المادي النفعي أشياء لا منفعة مادية من ورائها بقدر ما تثر في النفس والذات بهجة لرؤيتها وهذا هو (الفن)، و(الفن) في كل عصر كانت له فلسفته الخاصة منذ فجر التاريخ والى يومنا هذا فإن (مفهوم الفن) في العصر الحديث اخذ طابعه الخاص الذي ابتعد كثير من مفهوم الذي كان يربط (الفن والجمال) كما كان السابق وفق علاقة معاصرة تربط مفهومه بعلاقة (الفن والتعبير)، فأن كان مفهوم (الفن والجمال) ارتبط دائما في (تاريخ الفن) و(تاريخ الفلسفة) ومفاهيمها، ولم يحدث انقلابا جوهريا في مفهوم (الفن) وكذلك مفهوم (الجمال) إلا بعد ظهور أسس جديدة صنفت هذا المجال بمجال بـ(العلم) فسمى بـ( علم الجمال)، وهو علم حديث وضع أسسه ومبادئه الفيلسوف والمفكر الكبير (بومجارتن) من خلال بحوث ودراسات ظهرت عام 1750 وكان لها صدى وتأثير كبير في المحافل الفلسفية والدراسات الفنية، وهي دراسات اختصت بمباحث التذوق وكل ما يتعلق بالمسائل المرتبطة بالفن والجمال ليعتبر (بومجارتن) أول مؤسس (علم الجمال) الذي ميز بين (فلسفة الجمال) و(علم الجمال) ببحوث قيمة تتعلق بالإبداع الفني أصبحت أسس لا يمكن تجاوزها في دارسات المرتبطة بعلم (الفن) و (الجمال) وقد استفاد (هيغل) من أطروحات (بومجارتن) كثيرا وعكس ذلك في فلسفته في مجال (الفن) و (الجمال) .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن