بائع الإلحاد المتجوّل - سبعة مداخل نقدية لكتاب - وهم الإله - المدخلان الرابع و الخامس

عادل عبدالله
adelabdullah59@yahoo.com

2017 / 6 / 11

بائع الإلحاد المتجول*
المدخلان الرابع و الخامس

(هل أنّ قضية الإلحاد بمثل هذا الضعف حقّاً، بحيث لا بدّ للملحدين من دعمها عن طريق مثل هذا الهراء غير الناضج)
- الفيلسوف الانكليزي المعاصر Alster McGrath –

المدخل الرابع: داوكنز في ضيافة الفلسفة
حين يكون موضوع بحثٍ ما، محدداً على نحو دقيق بوصفه ( وهم الإله )، و حين نعلم مسبقاً أنّ من تولّى مهمة كتابة البحث هذا هو عالِم بيولوجيا تطوّرية، يُشهرُ إلحاده، فلن نكون مخطئين إذا تصوّرنا بأن الطريقة المثلى للتعامل مع بحثٍ كهذا ستكون متمثلة إجرائيا بإحدى خيارين للمؤلّف، هما: إمّا إثبات أن (الإله) وهمٌ، عن طريق التعامل مع الموضوع على نحو مباشر لإثبات ذلك، من خلال تقديم أدلةٍ جديدة علمية أو فلسفية، أو إثبات ذلك أي ( وهم الإله ) من خلال تفنيد جميع الأدلة الفلسفية و العلمية التي تعتقد أنّ وجود الله حقيقة لا وهما .
ترى أيّاً من الطريقتين أتّبع داوكنز لتحقيق مطلبه ؟
أحسبُ أنّ داوكنز أتّبع الطريق الثاني، أعني: إثبات مطلبه، أيْ ( وهم الإله ) من خلال تفنيد جميع الأدلّة الفلسفية و العلمية التي تعتقد أنّ وجود الله حقيقة لا وهما. ربّما لأنّه كان على قناعة تامة (متوهّمَة) بأنّ مهام إثبات وهم الإله من خلال المعطيات العلمية المحض، قضية قد تم له إنجازها على الوجه الأكمل من خلال مؤلفاته العلمية السابقة، تحديدا كتابيه: الجين الأناني، و صانع الساعات الأعمى، لذا فإنه يُؤثر هذه المرّة أنْ تكون مهمته فلسفيةً خالصة، بعد افتراضنا أو افتراضه بأنه قد طوّر أدواته الفلسفية و عمّق قراءته لتاريخَيْ اللاهوت و الفلسفة – قدر تعلّق الأمر بمطلبه – من أجل إنجاز هذه المهمة المعرفية المعقّدة .
لكن هل كانت الإستدلالات الفلسفية و الحجج العقلية التي قدّمها داوكنز في كتابه (وهم الإله) و على مدى 400 صفحة تمتلك أيةَ قيمةٍ فكرية حقيقية يمكن لها أنْ تثبت عبر وسائل الحِجاج العقلي – المنطقي، أنّ جهوده المعرفية قد أصابتْ غايتها بنجاح و أنّ مهارة داوكنز في استخدام وسائل الفلسفة لا تقل قدْرا عن براعته في الحجاج العلمي ؟
للإجابة عن هذا السؤال، أقول مطمئنا لحُكمي: بأنني لم أجد إجابة أفضلَ و أصدقَ من تلك التي تقدّم بها الفيلسوف الإسباني - الاميركي المعاصر ( ألفن بلانتنجا ) و هي :
لقد كتب داوكنز مؤلفه، مخاطبا قرّاءه الملحدين الوجلين لحثّهم على الخروج من عزلتهم ... إنّ كتاب داوكنز يحتوي على القليل من المضمون العلمي، إنه على نحو أساسي كتاب فلسفي و لاهوتي – أو ربّما تكون مفردة "لا- لاهوتي" هي المصطلح الأفضل – و هو كتاب في علم النفس التطوري يجري متّسقاً مع اندفاع هجومي كبير من التعليق الاجتماعي لشجب الدين و آثاره المشؤومة، من وجهة نظر داوكنز .
في الواقع إنّ نسبة الإهانة insult و السخرية ridicule و الاستهزاء mockery و الحقد spleen و النقد اللاذع vitriol لهي نسبة مذهلة .
لكن، وعلى الرغم من أن واقع الكتاب يُخبر أنّ مضمونه فلسفيٌ على نحو رئيس، إلاّ انّ داوكنز ليس فيلسوفا، إنه عالم بيولوجيا، و حتى في حال أخذنا مثل هذه المسألة بالحسبان، فإن الكثير من المؤونة الفلسفية التي قدّمها، لهي بأحسن الأحوال ضحلة . في الحقيقة، ينبغي أن نقول أنّ بعضاُ من غزواته على الفلسفة لم تكنْ في أفضل أحوالها سوى حججِ طالبٍ في المرحلة الثانوية، مغرور بثقافته . لكن ربّما يكون الوصفُ هذا غير عادل بالنسبة لطلاب المرحلة الثانوية، إذ أنّ الحقيقة هي - و لندع النفخ الفارغ جانباً: إن الكثير من حجج داوكنز الفلسفية ستحصل على درجة الرسوب في امتحان الفلسفة المخصص لطلاب المرحلة الثانوية، متزامنا كلّ ذلك مع عجرفة بالغة الوضوح (1).
المدخل الخامس: كيف يمكن الردّ على كتاب داوكنز؟
تتباين أساليب الردّ على كتاب " وهم الإله " طولاً و قصراً، منهجاً و استجابة نفسية لمضمونه . فمنها ما اكتفى باتخاذ الموضوعات التي تستحق الرد عليها– موضعاً و موضوعا – حسب، و هنا سيصيح الأمر غاية في السهولة و القصر و البساطة، نظراً لأنّ عدد الموضوعات التي تستحق المناقشة العلمية أو الفلسفية الجادة – من وجهة نظر أصحاب تلك الردود – لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، و هذا ما فعله الفيلسوف الكبير " الستر مكغراث " و أشار اليه في مقدمة كتابه The Dawkins Delusion معلنا أنّ كتابه سيتبع هذا المنهج في الرد، و لذا نجده يتألف من 115 صفحة فقط . يقول مكغراث موضّحاً إشكالية كتابة ردٍّ على كتاب داوكنز: إنه لمن الصعوبة بمكان أْنْ نكتبَ ردّا على الكتاب هذا، لا بسبب من كونه يمتلك حججاً جيدةً، و لا لأنه صفّ أدلةً دامغةً لصالحه، إنّما لأنّ الكتاب هذا لا يمثّل أكثر من تجميعٍ لإفتراءات مناسبة لغايته، تمّت المبالغة فيها لإنجاز أقصى قدر من الإثارة و التنسيق الفضّ من أجل التلميح لكونها حججاً . و لدحض مثل هذه الإنتقائية العالية ينبغي علينا اللجوء لأدلة مملة و ردئية، الأمر الذي سيقود الى تأليف كتاب مضجر مخيّب، و هذا فعلٌ نزق و ردّة فعل ارتكاسية . إنّ جميع المعلومات المحرّفة المبالغ فيها لكتاب داوكنز، يمكن الطعن بها و تصحيحها، حتّى أنّ الكتاب الذي – يتبنى مهمة الرد و التصحيح – سيكون مملاً على نحو مقلق . و على افتراض أنّه كان لداوكنز الثقة الكافية في جميع أجزاء كتابه، فأنا سأتحداه بكل بساطة في موضوعاته النموذجية مانحاً القرّاء حق التوصّل الى إستنتاجاتهم الخاصة بهم، قدر تعلق الامر بالمصداقية الشاملة لأدلته و احكامه . لكن دعونا نسأل: هل أنّ قضية الإلحاد بمثل هذا الضعف حقّاً، بحيث لا بدّ للملحدين من دعمها عن طريق مثل هذا الهراء غير الناضج ؟ هذه نقطة خطرة جداً و مقلقة، إنّ داوكنز على قناعة كبيرة بأنّ وجهات النظر الخاصة به، هي من الصدق بحيث لا يكلّف نفسه عناء البحث عن غيرها، على الأخص إنْ كانت وجهات النظر تلك دينية . (2)
لذا، يقول مكغراث، إنّ كتابه المخصص للرد على داوكنز، سيكون قصيراً و مباشراً، من دون إستطراد أو إنحراف عن الموضوع الأساسي، إنّه يشرع في إنجاز شيئ واحد، نعم شيئ واحد فقط هو : تقييم أو فحص أهليّة نقد الإيمان بالله من قِبل داوكنز.
مثل هذا المنهج في الرد هو ذاته، الذي فضّل الدكتور ( وليم. ل. كريج ) إتّباعه، حين قرر أنْ يناقش من كتاب داوكنز كلّه صفحتين فقط، نعم صفحتان فقط !! هما الصفحتان 157- 158 لأنهما " فقط " الصفحتان اللتان تستحقان المناقشة، و كذا جاء ردّ البرفسور ديباك كوبرا موجزاً مكثّفاً في دراسته الموسومة " فضيحة وهم الإله " كما سنفصّل ذلك كلّه لاحقا ً، بعد أنْ نقول بأن الفيلسوف الاميركي الكبير" ألفن بلانتنجا " قد اتبع المنهج نفسه في دراسته العميقة، فضلا عن عشرات الدراسات الأخرى بالاتجاه نفسه .
ثمة نوعٌ آخر من الردود فضّل أنْ يلاحق الأفكار التي وردت في كتاب داوكنز فكرة إثر أخرى على امتداد صفحات كتابه كلّه، و هذا ما فعله بالتحديد، العالم " Rich Deem " في دراسته التفصيلية عن كتاب داوكنز أولاً، و فعله من بعد، " ديفيد مارشال " في دراسته التفصيلية المسمّاة " 160 خطأً، مبالغات فاضحة و مزاعم كبيرة مشكوك بصحتها ". وهو الأسلوب نفسه الذي أتبعه الدكتور " بيتر.س. وليامز " في دراسة رائعة له سنمّر عليها لاحقا.
قدر تعلّق الأمر بنوع ردّي على كتاب داوكنز " وهم الإله " سأتبع منهجا يجمع على نحو نسبي بين المنهجين، أعني: أنني سأتبنى المنهج التفصيلي تارة، من أجل تعريف القارئ العربي الكريم بطبيعة الموضوعات التي تضمنها كتاب داوكنز و كيف يمكن لهذا الموضوعات أنْ تكون عاطلة عن أية قيمة علمية أو فكرية حقيقية من خلال الرد الذي سأوجهه لها، مثلما أتبنى في الوقت ذاته منهج التوقف طويلا مع الموضوعات الفلسفية و العلمية التي تسحق المناقشة فعلاً، لكن لا بسبب عمقها و قوة حججها كما يُتوقع من هذه العبارة، بل لأنّ الموضوعات الجادة هذه، هي في حقيقتها أخطاءٌ علمية جسيمة أو أفكار فلسفية تتجاوز على نحو مطلق عقلانية البناء الفلسفي و تشوّه على نحو متعمدٍ الكثير من الحقائق و التقاليد الفلسفية الراسخة .
الهوامش:
: 1- ينظر،
Alvin Plantinga: The Dawkins, Confusion http://www.booksandculture.com/articles/2007/marapr/1.21.html
2- - يُنظر مقدمة كتاب:
The Dawkins Delusion ?Atheist Fundamentalism And The Denial Of The Divine .Alster McGrath And Joanna Collicutt McGrath . ivp books – 2007 .

(يتبع)
* عنوان الفصل الأول من كتابي ( فضائح العقل الملحد – دراسة في تهافت الحجج العلمية و الفلسفية لمقولة الإلحاد – ريتشارد داوكنز نموذجاً ) و قد تم نشر مقدمة الكتاب و المداخل 1 – 3 في موقع ( الحوار المتمدن ) الموقّر، و سنواصل نشر أجزاء أخرى من الكتاب .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن