ماركس ووايتهيد والميتافيزيقيا والديالكتيك (31)

طلال الربيعي
talalalrubaie@hotmail.com

2017 / 4 / 23

كما ذكرت في الحلقة السابفة, لمساعدته في دراسته للماركسية، سعى بريخت إلى معرفة الناس الذين يمكن أن يعلموه ألافكار الأساسية للماركسية ومنهجها البحثي. في ذلك الوقت، كان كارل كورش واحدا من كبار علماء الماركسية في ألمانيا، وكان أيضا واحدا من أكثر المتشددين الناشطين في الحركة الشيوعية. منذ بداية انخراطه في الحركة الشيوعية في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، اعتبر كورش الديالكتيك الماركسي النواة النظرية للماركسية. ووصف كورش مبادئ الديالكتيك الماركسي الثلاثة: الخصوصية التاريخية، النقد، والممارسة الثورية. يوضح مبدأ الخصوصية التاريخية ممارسة ماركس في فهم كل الظواهر الاجتماعية في حقبة تاريخية محددة، و تصور كل مجتمع وظواهر محددة تاريخيا، بدلا من الانخراط في تعميم الخطاب والنظرية.

بالنسبة إلى كورش، كان إنجاز ماركس هو تحليله للسمات المميزة والمتميزة تاريخيا للرأسمالية والمجتمع البرجوازي، وكذلك تطوره بطريقة مكنت من تحليل التشكيلات الاجتماعية المتميزة بشكل نقدي وتغييرها جذريا. ومن ناحية أخرى، إن الاقتصاد البرجوازي والنظرية البرجوازية يعالجان أشكال المجتمع البرجوازي كما لو كانت هي علاقات عالمية وأبدية وغير متغيرة، وذلك بدلا من كونها أشكال تاريخية لنظام مفعم بالتناقضات ويخضع للتحول الراديكالي. ولا يمكن حل مشاكل الاقتصاد والسياسة والثقافة من خلال وصف عام مجرد ل"اقتصاد على هذا النحو"، "لان ذلك يتطلب "وصفا تفصيليا للعلاقات الواضحة القائمة بين الظواهر الاقتصادية المحددة على مستوى تاريخي مع ظواهر محددة تظهر في وقت واحد أو في وقت لاحق في كل مجال آخر من مجالات التطور السياسي والعقائدي والفكري" (1).

بالنسبة إلى كورش، إن الديالكتيك الماركسي هو ديالكتيك نقدي يهدف إلى نقد وتغيير النظام البرجوازي القائم (2). ينظر الديالكتيك الماركسي إلى الواقع كعملية من التغيير المستمر، ويهتم بتلك التناقضات التي تجعل التحول الراديكالي ممكنا. قبل كل شيء، الديالكتيك الماركسي يدمج النظرية النقدية مع الممارسة الثورية التي من شأنها أن تحرر الطبقة العاملة وتبني الاشتراكية.

كتب كورش كتابه كارل ماركس Karl Marx، الذي يلخص وصفه للمبادئ الأساسية للماركسية (1)، وكان كورش ضيفا على عائلة بريخت في المنفى في الدنمارك، وكان هو وبريخت يخوضان مناقشات يومية للأفكار الأساسية للماركسية. وكانا يميلان إلى الاتفاق على المبادئ الأساسية، على الرغم من اختلافهما على نطاق واسع في تطبيقها. فقد انتقد كورش بشدة اللينينية وبناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، في حين ان بريخت كان أكثر تعاطفا. بالنسبة لكورش وبريخت، قدمت ماركسية ماركس "علما جديدا للمجتمع البرجوازي". وقد عبرت عن التصورات النقدية للطبقة العاملة وهاجمت افكار الطبقة البرجوازية الحاكمة. وباعتبارها قوة معارضة للمجتمع البرجوازي ومبادئه، فهي "ليست علما وضعيا (كما في اوغست كومت Auguste Comte, 1798-1857, مثلا, الذي يعتبر مؤسس علم الاحتماع واول فيلسوف علم بالمعنى المتعارف عليه حاليا), بل انها علم نقدي, وهي أيضا "نظرية عملية "تهدف إلى التحول الثوري للمجتمع البرجوازي، والتحري عن الاتجاهات التي تظهر في التطور الحالي وهو ما يمكن أن يؤدي إلى الإطاحة به، وهكذا، فهي "ليست مجرد نظرية المجتمع البرجوازي، ولكنها في الوقت نفسه، نظرية الثورة البروليتارية" (1).

حسب وجهة نظر كورش الماركسية، يمكن للمرء أن يجادل بأن المسرح الملحمي لبريخت مبني على المبادئ الماركسية للمواصفات التاريخية والنقد الذي تعلمه بريخت من كورش. في مسرحه الملحمي، سعى بريخت إلى إلقاء الضوء على السمات المحددة تاريخيا للبيئة او الوسط المحيط من أجل إظهار كيف أن هذه البيئة أثرت، وشكلت، وشدت من ازر شخصيات مسرحه او دمرتها. على عكس الدراميين الذين ركزوا على العناصر العالمية-الشمولية للحالة الإنسانية ومصيرها، كان بريخت مهتما بالمواقف والسلوكيات التي اعتمدها الناس تجاه بعضهم البعض في حالات تاريخية محددة.

وهكذا كان بريخت، في مسرحية ماهاغوني (ماهاغوني مدينة وهمية في غرب الولايات المتحدة قدمت باعتبارها سودوم وغومورا الحديثة، ودمرت بسبب عبادتها الكسب غير المشروع والاحتيال، الويسكي والدولار, 3), وفي اوبرا ثلاثة قروش (وهي اوبرا الفقراء لكونها تهدف اساسا الى تهديم الفهم الارستقراطي للاوبرا ,4), مهتما في كيفية ارتباط الناس ببعضهم البعض في المجتمع الرأسمالي. في مسرحية شجاعة أم (5)، التي يعتبرها العديد اعظم مسرحية شهدها القرن ال20 (المسرحية هي بخصوص الحرب الأوروبية 1618-1648، وطيش أي شخص يأمل الربح من خلالها, وهي تصور كيفية تعامل التجار مع الجنود والمدنيين أثناء الحرب في مجتمع الأسواق الناشئة).؛ وفي مسرحية التدابير المتخذة (6)، يصور بريخت العلاقات الثورية اثناء النضال في الصين ويظهر أن التفاني في قضية مثالية في بعض الأحيان لا يترك مجالا للاستجابة للمعاناة الفردية. ووصف بريخت هذه الممارسات بأنها "تاريخية"، ويعتقد أنه يمكن للمرء أن يتخذ أفضل موقف نقدي تجاه مجتمعه اذا كانت الانماط والمؤسسات الاجتماعية القائمة يُنظر إليها على أنها تاريخية ومؤقتة وتخضع للتغيير. يهدف بريخت في مسرحه الملحمي الى اظهار العواطف والأفكار والسلوك بكونها نتاجات أو استجابات لحالات اجتماعية محددة وليس كتعبير عن جوهر الإنسان.

ان الغرض الأساسي في المسرح الملحمي البريختي هو ال Verfremdungseffekt, اي تحقيق اغتراب المتفرج او وضع مسافة (نفسية) بينه وبين ما يدور على خشبة المسرح, وبالتالي الحيلولة دون التعاطف او التماهي مع شخصيات المسرحية, والسماح بتبني موقف نقدي تجاه المشاهد والشخصيات. من خلال منع الوهم التعاطفي أو التصوير الاستنساخي mimesis للواقع، يمكن المسرح الملحمي أن يكشف كيفية عمل الفعاليات المجتمعية والسلوك البشري، وبالتالي سوف يظهر للجمهور كيف ولماذا يتصرف الناس بطريقة معينة في مجتمعهم: على سبيل المثال، الجشع في ماهاغوني, أوبرا الثلاثة قروش، ومعاناة أم شجاعة, وأن يفهم الجشع على أنه نتيجة تاريخية لبيئة اجتماعية محددة. وبهذا يحث المسرح البريختي المتفرج على التفكير في سبب وقوع هذه الأحداث، وبالتالي توفير فهم تاريخي ومعرفة تاريخية أفضل لجمهور المسرح.

يعارض مسرح بريخت الملحمي ما يسمى "مسرح الطهي" culinary theater, الذي يقدم تجربة ممتعة أو أخلاقية سهلة الهضم للمتفرج. ويرفض ايضا المسرح الذي يحاول أن يخلق وهما بالواقع، باعتبار أن المسرح الوهمي ينزع إلى إعادة إنتاج الأيديولوجية المهيمنة ويحفز المتفرجين على مساواة الأيديولوجيات البرجوازية بالواقع. اعتمد بريخت نظرية كورش بأن الأيديولوجية قوة مادية وأداة هامة للهيمنة؛ فقد رأى كلاهما الأيديولوجية كقوة خادعة يجب أن يتحرر الناس منها, وإنتجا اعمالا من شأنها تحطيم تماهي الناس مع الأيديولوجيات البرجوازية.

ومن ثم فإن ممارسات بريخت المسرحية في هدم الأيديولوجية و"الفكر المتداخل" هي تطبيق لمبدأ كورش المتمثل في الأيديولوجية والنقد والعمل الفكري. اعتبر بريخت مسرحياته على أنها توفر بديلا للمسرح البرجوازي المهيمن, فمسرح بريخت يحمل مشاهديه على التفكير والنظر إلى العالم بشكل أكثر انتقاديةً. ويرى أن هذا شكل من أشكال التفاعل النقدي مع الثقافة البرجوازية, الذي من شأنه تقويض هذه الثقافة من الداخل. وهكذا ينظر كل من كورش وبريخت إلى العمل الفكري، بالاضافة الى النظرية الجمالية والسياسية، باعتبارها كلها لحظات مهمة في الممارسة الثورية - جنبا إلى جنب مع العمل الاقتصادي والسياسي.
يتبع
---------
المصادر
1. Karl Korsch 1938
Karl Marx
https://www.marxists.org/archive/korsch/1938/karl-marx/
2. Karl Korsch 1934
Why I am a Marxist
https://www.marxists.org/archive/korsch/1934/why-marxist.htm
3. Rise and Fall of the City of Mahagonny
http://www.telegraph.co.uk/culture/music/opera/11459535/Rise-and-Fall-of-the-City-of-Mahagonny-Royal-Opera-Covent-Garden-review-toothless-docile-and-soporific.html
4. Threepenny Opera: Synopsis
http://www.threepennyopera.org/storySynopsis.php
5. Mother Courage and Her Children
http://www.gradesaver.com/mother-courage-and-her-children/study-guide/summary
6. The Measures Taken
http://www.dramaonlinelibrary.com/plays/the-measures-taken-iid-133275



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن