((إدغار موران والفكر المركّب/ الفكر المعقّد)). من -دهشة فعل التفلسف كعقلنة - في الحلقة الثالثة- الجزء الثاني والأخير من الحلقة في حوارنا مع البروفيسورة خديجة زتيلي في -بؤرة ضوء-

فاطمة الفلاحي
fati.elfalahi@gmail.com

2017 / 4 / 22

((إدغار موران والفكر المركّب/ الفكر المعقّد)). من "دهشة فعل التفلسف كعقلنة " في الحلقة الثالثة- الجزء الثاني والأخير من الحلقة في حوارنا مع البروفيسورة خديجة زتيلي في "بؤرة ضوء"

https://i58.servimg.com/u/f58/19/60/38/08/5510.jpg


لا يُعزي موران المخاطر الموجودة في المجتمعات المعاصرة والغربيّة منها على وجه التحديد إلى الجهل والتعصّب وحسب، بل إنّ مردها إلى الفكر التجزيئي المُنحاز الذي لا يتوانى في الاختيار بين هذا الموضوع أو ذاك بشكل تعسّفي، أو يقوم باختزال موضوع ما أو تفكيكه بشكل خاطئ لا يرقى إلى الحقيقة، علماً بأن الحقيقة الإنسانيّة معقّدة وهي لا تتجلّى بتلك الأساليب الفكريّة الخاطئة. فالاعتقاد الجازم في الرأي والمواقف السريعة المتهوّرة من شأنها أن تجلب الشقاء والمآسي لأصحابها وللمجتمع فهكذا يعلمنا التاريخ. وجراء ذلك استخلص موران ضرورة القيام بإجراء أوليّ يعتبره جوهريّا، وهو «أن نُعلّمّ معرفة المعرفة التي هي دائماً ترجمة وإعادة بناء» كما يذهب إلى ذلك في كتابه تعليم الحياة: بيان لتغيير التربيّة. وهي تتلخّص في تعليم ما يُسميه موران بـ الفكر المركّب/ الفكر المعقّد . لقد هيمنت أساليب الحضارة الماديّة الحديثة على حياة الناس وطغى هاجس الربح عليها، وتعرّضت إنسانية الإنسان إلى أزمات أخلاقيّة وتحوّل الأفراد بفعل العولمة إلى أرقام وأشياء وحسب، ما أصبح يطرح بإلحاح شديد مفهوم فن الحياة تقويضا للحكمة المجنونة واستعادة للتوازن المفقود.

فعلى الفلسفة أن تستعيد دورها الحقيقي في تعليمنا فنّ الحياة، بل لا بدّ لها أن تعود سقراطيه وأفلاطونيّة وأرسطية، وأن لا تحتفي بالفكرة المطلقة لأنّه لا مجال لليقين فيها، بل أن تولي أهميّة إلى الشكّ الذي يضع الإنسان موضع المساءلة والتفكير على الدوام. إنّ التربية من أجل العيش تمكّننا من العيش بحريّة وتعلّمنا الاستقلاليّة وحرية التفكير والانتباه إلى مخاطر الوهم والخطأ وغياب الفهم المتبادل، ويقرّ موران في كتابه التربوي أعلاه أنّ المدرسة في الوقت الحالي لا تحمل مقوّمات المدرسة الحقيقيّة لأنّها تفتقر إلى الأساليب الصحيحة التي تُمَكِّن من مواجهة الذات والناس والحياة والمشاكل والشكوك، كما أنّها لا تعلّم فنّ العيش، ويُحيل موران القارئ إلى ظواهر سلبيّة انتشرتْ في الحياة المعاصرة وساهمتْ بشكل كبيرٍ في بروز أزمة التربيّة، ويشير إلى ظاهرة تَقهقر التضامن التي كانت موجودة ومنتشرة في أماكن العمل وبين الجيران وفي العوائل، وكذلك إلى ضعف الشعور بالانتماء إلى أمّة ما أو الانتماء إلى الإنسانيّة، وتضخّم مسألة الفردانيّة ومركزيّة الأنا في العالم وعدم الترابط بين الأفراد، فقد ساهم كلّ هذا في تفاقم الشعور بالإحباط والقلق من الحاضر والمستقبل. ولعلّ وضع اليد على مواطن الجرح هو من الضرورة بمكان بالنسبة لموران لحلحلة الوضع القائم وإيجاد حلول ناجعة لاستدراك الأخطاء، وربّما للاحتفاء من جديد بالعلاقات الانسانيّة الدافئة. فقد أصبحت أزمة التربّية اليوم تحتاج إلى علاج فعلي وسريع جراء الأخلاق الجديدة التي أفرزتها.

ويجد موران، في سياق هذا الطرح، فرصة للامتعاض من الأشخاص الذين يسيئون تقدير الفهم أو يخافون منه والذين قد تضطرّهم عمليّة الفهم إلى تعديل مواقفهم أو تغيير آرائهم أو الاعتذار أو التسامح! فالفهم لا يعني الضعف ولا ينطوي على نقيصة كما قد يذهب إلى ذلك بعض الأشخاص الذين يخشون من الفهم، ويعترف موران، بهذا الصدد، قائلاً: أنّ «هذه الحجّة الظلاميّة هي التي ما تزال سائدة عند نخبتنا رغم مُستواها الراقي». لا شكّ أنّ الفهم يتطلّب التسامح والمشاركة الوجدانيّة ومدّ جسور التواصل الإنساني مع الآخر، ويتطلّب إلى جانب ذلك مراعاة خصوصيّة الناس وفرادة الحضارات واختلاف السياقات الفكريّة والاجتماعيّة والنفسيّة للمجتمعات، ويتطلّب أيضاً الابتعاد قدر الإمكان عن الإقصاء والأحكام الجاهزة المتسرعة والقبليّة. فمن وصايا الفهم ضرورة «النظر في النصّ والسياق مجتمعين، وفي الكائن ومحيطه، وفي المحلّي والشامل». وضمن هذا النقاش يجب أن تُطرح مسألة أخرى تتعلّق بالفهم، ومفادها أنّ هناك عناصر إنسانيّة تكون عصيّة على الفهم أو تحتاج إلى وقت وليونة لكي تُفهم ويتمّ استيعابها. وعطفاً على ما سبق يُعيد موران تذكير القارئ بضرورة تربيّة الأطفال على الفهم ابتداء من مرحلة المدرسة لكي يُصبحوا متسامحين في المستقبل، كما يأمل أن يتمّ استحداث كرسي في الجامعة لدراسة الفهم الانساني. فتعزيز أخلاقيات الفهم هو المطلوب من أجل فهم التلميذ في المدرسة وفهم العلاقة بين المعلم والتلميذ وتشخيص سبب العنف والعدوانيّة عند بعض التلاميذ.

ولعلّه بهذا الصنيع تتمكّن فرنسا من حلّ بعض أزماتها مع مواطنيها ذوي الأصول الأجنبيّة الذين ينتابهم على الدوام شعور بالاغتراب والغبن الاجتماعي والتمييز العنصري فيسعون إلى البحث عن هويات أخرى قد تقودهم إلى تدمير أنفسهم وإلى التطرّف. ويتساءل موران بشأن هذه المعضلة قائلاً: «كيف السبيل إلى الإفلات من هذه الدائرة الجهنّميّة للإقصاء الذي يدفع بمن أقصيناهُ إلى إقصاء من أقصاه. وذلك ما يزيد من حدّة الإقصاء عند المقصي [بضم الميم] الذي بدوره يزيد من حدّة الإقصاء عند المقصي [بفتح الميم]». إنّ الآمال معلّقة على العمليّة التربويّة وعلى المعلم بشكل أساسي الذي عليه أن يُتقن عمله التربوي ويقوم بالعمليّة البيداغوجية على أكمل وجه وبمحبة كبيرة وتفانٍ صادقٍ. فالمعرفة المجزأة تَقود إلى الخطأ وسوء التقدير والنظر إلى المواضيع من زوايا محدّدة وليس من جميع الزوايا، إنّها خطأ سوء تقدير الخطأ على حدّ تعبير موران في كتابه تعليم الحياة، واتّساقاً مع ما قيل بهذا الشأن ينتقد الكاتب الأشخاص الذين يرون في جزء من الحقيقة كلّ الحقيقة ولا يحسنون تقدير الأشياء.

لا يتأتّى إصلاح الفكر إلاّ بالتفكير في التعليم وإصلاح مناهجه وإمعان النظر إلى المخاطر الناتجة عن تجزئة المعارف وظاهرة التخصص فيها، فقد بات من الضروري، في إطار إصلاح الفكر، الكفّ عن الاحتفاء بالمجزوء وحسب وضرورة الالتفات إلى الربط بين المعارف وإعطاء الأولويّة لاستراتيجيّة الفكر المعقّد/المركّب في العمليّة التربوية، ولا يعني المعقّد هنا الفكر الغامض والمضطرب أو القاصر عن الوصف بل إنّه «ذاك الذي يريد تجاوز الغموض والاضطراب وصعوبة التفكير معتمداً في ذلك على فكر منظّم قادرٍ على الفصل والربط». ولاستدراك خطر التجزئة الذي تعاني منه العلوم الانسانيّة والذي قاد إلى غياب المنزلة البشريّة فيها يجب أن ندرك أوّلاً أنّ الإنسان مختلف الأبعاد، فهو كائن فيزيائي وبيولوجي ونفساني وثقافي واجتماعي وتاريخي وأنّ «هذه الوحدة المعقّدة للطبيعة البشريّة هي التي تَرِد مفكّكة تماماً في التعليم النظامي». وهي مهمّة جوهريّة ونبيلة يجب أن تقوم بها المدرسة المعاصرة بشكل عام والمدرسة الفرنسيّة بشكل خاصّ حتى تتجاوز الانحرافات وتقضي على العنف المستشري في المجتمع وتوطّن هذا الاهتمام فتوفق عندئذ في تعليم الهويّة الأرضيّة.

لقد أصبح العالم قرية صغيرة بفعل التقدّم العلمي والتقني المهول وبفضل وسائط الاتّصال الجديدة التي ربطت كل أجزاء العالم إلى بعضها البعض وجعلته قرية واحدة، وقد كانت هذه النتائج من إيجابيات التقنية المعاصرة وزمن العولمة، ولكن المفارقة أنّ ما يعانيه الإنسان في عصر هذه الإنجازات الضخمة لا يستهان به، فأزمات الكون من شأنها أن لا تستثني أحداً من الناس ولذلك يجب أن تتكاثف الجهود في هذا المضمار من أجل حياة مشتركة تنعم بالسلام والطمأنينة، وهذا ما معناه تعليم الهويّة الأرضية والمصير المشترك للناس على كوكب الأرض، فعلى التربيّة أن لا تغفل عن التنبيه إلى هذه المسألة البالغة الأهميّة والخطورة في ذات الوقت. كما أنّ تجديد الاهتمام بالتاريخ في معناه الصحيح والإنساني باتَ ضروريّا في الزمن الراهن لدرء الكثير من الصراعات والاستقطابات الإيديولوجيّة والعنصريّة التي انتشرت في السنوات الأخيرة كالنار في الهشيم، وعلى التاريخ أن يستعيد مكانته اللائقة والشرعيّة في برامج التربيّة والتعليم على أنّه «قصّة البشريّة المعقّدة الكاملة فحسب». إنّ برامج التعليم عليها أن تُعيد النظر بانتباه كبير إلى مادّة التاريخ ومحتوياتها وأن لا تزوّرها أو تنتقي منها ما يخدم منها أهدافاً سياسيّةً وايديولوجيّة بعينها، ثمّ ترمي ببقيّة التاريخ إلى سلّة النسيان والتهميش والإقصاء، على هذه البرامج أن تضع في الحسبان الفرنسي من أصول مغاربية أو إفريقية أو مارتينيكية أو فيتناميّة أو من أصول أخرى، الذي ساهم في بناء اقتصادها وعمرانها ومؤسّساتها وأصبح، بما لا يدع مجالاً للشكّ، جزءاً من نسيجها الاجتماعي والثقافي والحضاري، وحلقة هامّة في التاريخ الفرنسي وخاصّة المعاصر منه.

فالثقافة الفرنسيّة اليوم متعدّدة الوجوه ما يدعو إلى ضرورة التعايش بين مختلف الناس، وأن يتكرّس هذا الأمر على أرض الواقع بشكل فعليّ، لا أن يشعر قطاع كبير من الفرنسيين من ذوي الأصول غير الفرنسيّة بالغبن الاجتماعي والعنصرية المستفحلة وبالتفاوت في العيش الكريم الذي بات اليوم حقيقة لا يمكن إخفاءها، إنّ المؤسّسة التعليميّة مطالبة أن تقدّم تاريخ فرنسا إلى الجيل الجديد والتلاميذ والطلاب بدون تزوير وبمراعاة الاختلافات الموجودة في المجتمع وبالاعتراف بشرعيّة هذا الاختلاف في ظلّ الوحدة. وقد حان الوقت أن تُقدّم الهويّة الفرنسية في المؤسّسات التعليميّة بمركّبات عرقيّة مختلفة، كما هو واقع الحال، وهذا مدعاة للتنوع والتقدّم الثقافي والحضاري. ما من شكّ أنّ موران في كتابه تعليم الحياة واكب السياقات التاريخيّة والتطورات الاجتماعيّة والعلميّة الحديثة واهتجس بدور التربيّة في تجديد الحياة، مرسّخا في أذهاننا فكرة أنّه لا سبيل إلى الخلاص والتقدّم والرقيّ الإنساني والحضاري دون الاهتمام بالعمليّة التربويّة التي بإمكانها تغيير وجه العالم وتعليم فنّ الحياة.

انتظرونا عند سؤالنا " تعددت اللسانيات ، فبأي لغة تكتبين الفلسفة ؟" من "دهشة فعل التفلسف كعقلنة " في الحلقة الرابعة من حوارنا مع البروفيسورة خديجة زتيلي



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن