الطقوس الدينية عند الشيشان قديما*

أمين شمس الدين
dasi_amin@hotmail.com

2017 / 4 / 21

كان اطلاعنا على النظام الديني للشيشان القدامى عاماً، ذلك لأن وجهة نظرهم حيال الفلسفة الإلهية والعشائرية الدينية Theology & Ceremony مكتومة في طَي من الظلمات، تماماً شأن أنظمتهم الاجتماعية في تلك السنوات الغابرة. ومع ذلك يجب الاعتقاد بأن الشعائر والطقوس الدينية لشيشان العصور الوسطى كانت مرتبطة مع التنظيم العشائري الشائع لديهم، وليس مع تنظيم الأُسرة. زعيم العشيرة "الحارس الإلهي" (الحارس الديني الأمين)، كان هو نفسه الذي أدى وظيفة الكاهن.
اشتهرت كل عشيرة شيشانية بمقرها الديني الخاص، والذي أقيمت فيه العبادات ومختلف الشعائر الدينية الأخرى. إن معبد تْسُو ЦIУ الوثني، وغيره من الأماكن المقدسة، التي ما زالت قائمة، لهي دلائل قاطعة على ذلك. لقد تم إنشاء هذه المعابد في تلك المناطق التي كانت تقطنها العشائر، وكل عشيرة في منطقة.
كان الناس يأتون إلى المعابد ويقومون تحت أقواسها وقناطرها الكئيبة والمظلمة بتلاوة دعواتهم، طالبين من الآلهة الصامتة أن تهبهم محاصيل وفيرة وإكثار حيواناتهم الأليفة، وإنجاب نسل قوي وصحي. وكانوا يقدمون القرابين لآلهتهم. بينما كان رجال الدين بدورهم ينشرون بين أوساط المتدينين فكرة كون الإنسان عبد للآلهة، وبأن الشر والحزن هو مصير كل من يعمل على إهانتها. ومن أجل غفر الذنوب عادة ما أحضر الناس معهم مواشيهم ليقدموها قرابين يتم نحرها أمام المعبد، وإشعال شمعة، فإذا بقيت مشتعلة حتى النهاية فدليل السعادة. أما إذا انطفأت (وهذا ما كان يحصل في الغالب)، فنذير شؤم وغضب الآلهة، حينها فما على الشخص إلاّ أن يأتي بجدي أو ثور آخر وينحره. ومن الطبيعي كانت أغلب هذه الأضاحي من نصيب الكهنة أو كبار رجال الدين.
وكعادة متبعة كان كل شخص يُحضر معه للأعياد بيرة من صنع منزلي تسمى- يِيّ، مما يدل على أن الشعائر الدينية عند الشيشان كان يصاحبها الشراب.
توجد في منطقة غلانتشوج دِمنة (1) تسمى إيْلْتْ بْحارْخوي، وتتكون هذه التسمية من مقطعين هما: إيْلْتا أو إلْتا ЭЛТА - وهو إله الخصوبة عند الشيشان، و بْحَا ПХЬА (2) - قرية جبلية. كما توجد دِمنة أخرى تدعى سيْلا كُوْرْتْ ، وسيْلا СЕЛА هو إله الرعد والبرق عند الشيشان، أما كوْرْتْ КОРТ - فتعني الرأس أو القمة (مكان مميز على رأس جبل مثلاً). وسكان هذه المنطقة يقولون: طيرْلُوي دِيلا(3) - أي رب عشيرة طيرْلوي، قينخوي ديلا- أي رب عشيرة قِيْنْخُوي، كِيْرْدوي ديْلا.. وهكذا.
--------------------------------------------------------------------------------------------------
(1) الدِّمنة- هي آثار الدار وما تلبد منها، قاموس محيط المحيط للبستاني. المقصود هنا أماكن الاستيطان الجذرية لهذه أو تلك من العشائر - المترجم
(2) بحَا- وتعني السهم أيضاً، ومن هنا الثأر بالدم، لأن القتل كان يحدث قديما بالقوس والسهم- المترجم
(3) ديْلا - هكذا يسمي الشيشان الله، وهكذا سموا قديما كبرى آلهتهم
--------------------------------------------------------------------------------------------------
تدل هذه المعطيات على أن العشيرة كانت آنذاك مركزا طبيعيا لتطور الديانة، لكونها تختص بأماكن للعبادة ولإقامة الشعائر الدينية. حيث تميزت كل عشيرة بشعائرها وطقوسها الدينية.
هكذا ظهرت في المجتمع الشيشاني الأفكار والمعتقدات الدينية، وتحددت أشكال العبادة. وغالبا ما كانت هذه المعتقدات وأشكال العبادة تخرج من إطار العشيرة الواحدة لتشمل عشائر أخرى. فعلى سبيل المثال يحتفل الشيشان منذ الأزمنة الغابرة بفصل الربيع أو الأخدود الأول، ويقومون باحترامه كعيد عام تقدم فيه ولائم سخية ويدع إليـه سائـر أعضاء القبيلة. وفي هذا الاحتفال الديني كانت تتلى الدعوات إلى الآلهة، وشكرها على النعم الموجودة. وحتى بعد قدوم الإسلام إلى بلاد الشيشان بقي لديهم بعض من آثار العبادة القديمة بأشكالها المختلفة منها: تقديس الحرم الديني القديم، وغيرها من الأماكن الدينية التي كانت معتبرة.
كما أعطى الشيشان في ظهر الإسلام أيضا تفاسير وتآويل أخرى لآلهتهم القديمة، والذين ما أرادوا نسيانها أو تركها. فقد استُبدِلت أسماء الآلهة القديمة بأسماء الشيوخ وأساتذة الدين الإسلامي. أما ربهم الأساسي - ديْلا ДЕЛА (إله الشمس)، أو رب العالمين، فقد بقي ربهم الواحد الكبير.
وحسب اعتقاد الشيشان عاشت آلهتهم القديمة على قمم الجبال، وفي الأودية السحيقة وفي الكهوف وبين الصخور وفي المياه وفوق الغيوم. وباختصار سكنت آلهتهم الطبيعة الحية وغير الحية في هذا الكون. وليس عبثا أن يتساءل الشيشان: أين يا ترى بالضبط يسكن الله؟ ويجيبون على تساؤلهم هذا: إنه في كل مكان، وفي جميع أنحاء هذا الكون، كالقشدة والحليب معاً.
إن ضعف الإنسان أمام الطبيعة وعدم قدرته على مجابهتها، وخوفه ورهبته من اليوم التالي، ولّد لدى أجداد الشيشان كغيرهم من الشعوب إحساس الإيمان بالخالق- بالله، وبوجود الشياطين وبالعجائب والغرائب.. الخ.
وما قبل الإسلام كان شعب الوايناخ يؤمن بتعدد الآلهة الكلاسيكية. وما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر اعتنق المسيحية. ومما يدل على ذلك المكتشفات الأثرية في البلاد.
وهكذا، وحسب تأكيدات التاريخ اعتنق الشيشان بعد الوثنية الديانة المسيحية، ومن ثم الإسلام. وتدل بعض المعطيات بأنه حتى بعد الإسلام عاد الشيشان إلى ممارسة شعائرهم الوثنية التقليدية. وقبل حوالي ثلاثماية عام فقط أصبح شعب الوايناخ مسلماً، مع الحفاظ على بعض عناصر الوثنية والمسيحية، والاستمرار بنفس الوقت في عبادة بعض الآلهة القديمة.
ومما يجدر ذكره بأنه في أواسط القرن التاسع عشر، واصل الشيشان تمسكهم وبقوة بالأنظمة والقوانين العادية، التي ولّدتها معتقداتهم البدائية. ويذكر المؤرخ إفانينكو ن. س.: "منذ انتشار الإسلام في بلاد الشيشان، والصراع مستمر بين القوانين والعادات التقليدية و ما بين الأحكام التي جاءت بها الشريعة الإسلامية. ويبدو أن شعب الوايناخ لم يكن ممتثلاً كثيراً في اتباعه الأحكام الجديدة، وكان على صراع معها"(4). ويشير في هذا الخصوص المؤرخ الشيشاني أومالات لاؤُداييف УМАЛАТ ЛАУДАЕВ قائلاً: "لقد اختلطت معتقدات الشيشان الوثنية مع المعتقدات الإسلامية، مما جعل من الصعب تمييز إحداها عن الأخرى؛ لكونها قد صبغت بالصبغة العامة للإسلام"(5).
وغير واع لما يحدث استمر الفلاح الشيشاني ومربي الماشية والحرفي، خلال حوالي ثلاثماية عام، في صراعه مع الديانة الجديدة، مستخدما مذاهبه الوثنية كفكر قومي خاص به.
وحتى مع انتشار الديانة الإسلامية لم يتم القضاء نهائيا على المعتقدات القديمة الأخرى، بل أخذت الديانة الإسلامية في هذه المنطقة تنتقي هذه أو تلك من المعتقدات والشعائر الوثنية وتتبناها.
آمن الشعب الشيشاني بالأرواح الجيـدة والشريرة، بأشكالها المختـلفة. فعلى سبيل المثال كان البيت المسكون بالأرواح يسمى - طارَمْ ТАРАМ، والأرواح التي تسكن الجبال الصخرية – ألْمَزْ АЛМАЗ ، ومصاص الدماء - أُوْبَر УБАР ، والساحرة - يْيِشاب ЕШАП. ومن المعلوم أن هذه المعتقدات وجدت من قبل، وعرفها الشيشان قبل الإسلام أيضاً. وحسب اعتقاداتهم القديمة كذلك، كانت هذه الأرواح تستطيع أن تلحق الأذى أو الشر بالإنسان. فمثلاً كان مصاص الدماء هو من يقضي على الماشية، والساحرة تخطف الأطفال. والأرواح التي تسكن الجبال الصخرية تحول الشخص الطبيعي إلى مجنون، وتفنيه من الوجود. ولهذا السبب كان أجداد الشيشان يخاطبون الجبال، ويتضرعون إليها قائلين: "أيتها الجبال، أنعمي علينا نعمك! واحفظي أطفالنا وماشيتنا، واحمينا من الشر والبؤس".
كما اعتقد الشيشان بأن عظام الموتى ترسل الغيث وتحمي الزرع، وخصوصا إذا كانت قريبة من سطح الأرض. وهكذا يبدو بأن تعاليم الدين الإسلامي لم تجد في المراحل البدائية من انتشاره تجاوبا من قبل الإنسان الجبلي- الراعي والفلاح، الذي عاش آنذاك مؤمنا بفكره الديني الخاص، والمطابق لمستوى الفهم والإدراك الاجتماعي لذلك الزمن. كما بقي كثير من المفاهيم والأشكال الوثنية إلى الآن متناسقة، وبشكل عجيب، مع تعاليم الدين الإسلامي، الذي يعارض بحد ذاته هذه المفاهيم بشدة.
-------------------------------------------------------------------------------------------------
(4) إيفانينْكو ن. س.، الشيشان الجبليون. مجموعة مقالات تيرْسْكي. إصدار 7، ص51 ، فلادي قفقاس، 1910.
(5) لاؤُداييف أ.، قبائل الشيشان. مجموعة مقالات وأخبار عن الجبليين القوقاز. إصدار 6، ص23، تفليس، 1871.
---------------------------------------------------------------------------------------------------
* عن كتاب "تحولات المجتمع العشائري الشيشاني في العصر الحديث" للمؤلف مَجاميد مَمَكاييف، غروزني، 1973م، ترجمة عن الروسية د. أمين شمس الدين، 1999م



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن