المنزل السعيد

صيقع سيف الإسلام
erreur.erreur@yahoo.fr

2017 / 4 / 19

المنزل السعيد
يدق باب السيد ارثر على الساعة العاشرة صباحا . . . . يفتح هذا الاخير ، ليجد أمامه سيدة متأنقة ، عليها معطف خفيف اسود اللون ، يتماشى جدا مع تنورتها القصيرة التي تغطي ساقين نحفيتين يميلان الى السمرة قليلا ، اما وجهها فكان يعكس جمالا انثويا يسلب الالباب ، فقد كانت عيونها عسلية مغطاة بنظارات متوسطة الحجم ، تجعل أي شخص يشعر أنه امام ذكاء كبيرة يحدق إليه ، اضافة الى شعر املس متدلي و حريري مربوط بعقدة في آخره ، شبيه في ذلك بذيل فرس اصيلة . . . . قالت السيدة : " مرحبا ،انا الاخصائية النفسية مرنا تيريزا التي ارسلتها شركة ستيفنسون ، للقيام بتقريرها عنك يا سيد فان ارثر ، اتمنى انك على علم بذلك ؟ " . . .
للوهلة الاولى كان ارثر فاغر الفاه ، محدقا ملأ عينيه إلى الآنسة الفاتنة امامه . . . لكنه يعدل نفسه سريعا مدعيا اللامبالاة متلفظا بجوابه
: " نعم ، لقد كنت في انتظار مبعثوب الشركة حتى استقبله . . ارجوك تفضلي "
لقد كان ارثر قد تقدم لوظيفة مهندس برمجيات قبلا في شركة ستيفنسون ، كونه قد انهى دراسته الجامعية للتو . . .ثلاثة اشهر تقريبا ، حيث قال لنفسه : " لقد انتهى وقت المرح ، وحان الوقت لايجاد وظيفة تناسب معارفي ، ابدأ بها في بناء حياتي "
إلا أنه قد استغرب وجود شرط الموافقة من طرف اخصائي نفسي ضمن شروط القبول في الوظيفة . . . الامر الذي دعاه الى طرح السؤال على السكرتيرة التي كانت حينها مشغوله بملأ المعلومات التي تخصه ضمن حاسوبها ، ومن غير أن ترفع رأسها تجاهه ، أجابته : "
إن توفر وظيفة مهندس البرمجيات كان بسبب انتحار الموظف السابق من بناية الشركة ، ولتفادي مثل هذه الحوادث مستقبلا ، تم اضافة شرط الموافقة من اخصائي نفسي " . . .
لم يعر ارثر السكرتيرة اي انتباه ، ذلك انه كان يظن انها فكرة فاشلة ، مع احتمال ان المهندس السابق ربما قد قتل ولم ينتحر
. . تدخل الآنسة تيريزا ملاحظة صالة كبيرة على يمينها ، تحوي أفرشة مزخرفة برسومات قديمة . ." لكنها جميلة جدا " قالت هذه الاخيرة . . فأجاب الشاب على تعليقها : " هيا سأريك بقية تفاصيل البيت ،فأنا متأكد أن ذلك سيساعدك في تقديم تقريرك "
ارتبكت الأخصائية النفسية من فكرة اكتشاف بيت هذا الشخص الغريب . .لكنها مشت معه بفعل لا إرادي ، وهي تنظر إلى وجهه الذي يبث السرور و البهجة . . . لقد كان الشاب متوسط القامة ، عسلي العيون هو الآخر مثلها ، ذا لحية سوداء خفيفة و مهذبة ، تضفي عليه مزيدا من الوسامة ، إلا انه كان يكره شعره الخشن و الداكن ، حيث كثيرا ما كان يغطيه بقبعة تليق به ، حتى لا تنقص وسامته . . .
" هيا ، يا آنسة ، ستستمتعين ، أؤكد لك " . . تكلم الشاب بنبرة تدل على حماس و رغبة . . .
لقد كان ارثر في الواقع ، يريد أن يستبدل الجلسة المملة التي ستقوم بها هذه الفاتنة بشيء اكثر فائدة كموعد معها مثلا . .
لقد علم الشاب الوسيم أنه لن ينال فرصة للتعرف على الآنسة تيريزا ، بما أنها الأخصائية النفسية فستكون جميع الاسئلة من حقها فقط ، حتى نوع هذه الاسئلة لا يغلب عليه الطابع الشخصي ، فكان الحل أن يجعلها ترى البيت الذي يسكن فيه ، لكي يلفت انتباهها الى شخصيته الحاذقة ، فكرة خطرت له لما اظهرت اعجابها بزخرفة الصالة التي شاهدتها . . . فما الذي كان يتميز به منزل الشاب ارثر عن بقية المنازل ؟
كان المنزل يحوي الصالة التي شاهدتها تيريزا ، اضافة لاربعة غرف متوسطة الحجم ، تأتي متناظرة على طول رواق ممتد ، مع مطبخ اكبر بقليل يبدأ بعد نهاية الرواق، و في خلفية المنزل ، كانت توجد حديقة صغيرة حافلة بأنواع من الزهور . . . لكن هذه الغرف مع المطبخ و الحديقة لم تكن كأي شيء مألوف في البيوت ، بل كانت كل غرفة تحكي عالما بحياله . . .
الغرفة 1 :
كانت هذه الغرفة الاولى التي تاتي في الترتيب بعد الصالة ، كل بقعة جدار منها تحمل طلاءا مختلفا عن الآخر ، أشبه باللوحات الفنية التي تكون بمثابة خليط غير متناسق من الالوان ، تحمل الغرفة في داخلها قطعة خشبية بحجم كرسي ، و أوراق رسم كثيرة مبعثرة ، بعضها ممزق بالكلية ، وبعضها الآخر قد فقد شكله المنتظم تحت ضغط اليد العنيفة ، إلا أنه بجانب القطعة الخشبية ، كانت هناك صورة للوحة ليوناردو دافنشي الموناليزا ، بجانبها ورقة رسم تناسب حجم صورة الموناليزا ، فيها نصف وجه فقط ، من غير تلوين . .
اما على الارضية ، فقد كانت هناك اقلام كثيرة مرمية ، منها اقلام للرسم مختلفة في سمك الرأس ، و منها اقلام للتلوين بفرشاة في آخرها ، و اقلام تلوين بغير فرشاة ، ايضا بعض المقابض الحديدية الحادة ، مع شيء من السكاكين الصغيرة و البراغي
لقد كان ارثر يسمي هذه الغرفة بــ غرفة الفن . . ذلك أنه خصصها للاعمال الفنية كالرسم والنحت ، فكان يأتي بصورة اللوحات العالمية و يحاول تقليدها بدقة . . صحيح انه كان يفشل غالبا ، إلا أنه كان قد تحسن كثيرا بتراكم المحاولات . . . المحاولات التي كانت محبوسة في تلافيف الاوراق الملقاة على الارضية ، حاملة في داخلها تقليدا لــ : سانتي رفائيل و مايكل انجلو ، وفي هذه المرة الموناليزا لدافنشي . . .و بجانب الرسم ، كان النحت ميزة ثانية لتلك الغرفة الملطخة جدرانها ، فقد كانت القطعة الخشبية المتمركزة وسط الفوضى الفنية نموذجا ليبدأ ارثر فيه مشوار النحت ، تقليدا كذلك لكبار النحاتيين كــ ، مايكل أنجلو أو برنيني الذي يملك لهما بعض صور التماثيل للملائكة التي نحتوها في كنائس روما الايطالية ، رغم أنه لم يكن يملك العدة اللازمة ، لكن المقابض الحديدية الحادة كانت بداية لابأس بها . . .
لم تكن الغرفة الاولى دوما غرفة الفن ، حتى ثار فضول ارثر لما راح صديقه ريتشارد يمدح لوحة الموناليزا ، ويتفاخر بنسبه الايطالي مع الفنان و الرياضي الكبير دافنشي ، اما ارثر فقد احس بفجوة في قلبه ، حيث لم يشعر بأي تعظيم لهذه اللوحة رغم الشهرة التي تتمتع بها ، فعلم أنه لابد من تجربة شيء واحد لكشف كنهها . . . رسمها . .
باالمحاولات العديدة التي كان يقوم بها هذا الشاب ، صار يجد نفسه يعجب بهذا العمل الفني للايطالي الشهير ، وانه يقع في حب هذه اللوحة شيئا فشيئا ، يزيده ذلك تحفيزا و رغبة في بلوغ متعة اكبر مع كل محاولة اكثر جدية . . . تبدأ عاصفة من العواطف و الافكار تخالجه حينما يمسك تلك الريشة ، واضعا بها خطا على تلك الورقة كأن دافنشي نفسه قائم ليرشده . . بل كأنه دافنشي هو نفسه . .
الغرفة 2 :
الغرفة الثانية تقع في الجهة المقابلة للغرفة الاولى من الرواق ، تواجهك نافذة كبيرة عند دخولك من الباب في نهاية الغرفة ، بها ستار اصفر ذو شراشف حمراء في حال ظهور شمس ساطعة ، و في وسط الغرفة توجد طاولة صغيرة ، موضوع عليها مزهرية بها بعض الورود الاصطناعية ، تحيط بها اعداد كبيرة من المجلات العلمية المكدسة ، التي يوجد بعض منها كذلك في الرف الثاني لخزانة الكتب التي كانت في الزاوية اليمنى للنافذة . . . حيث كان الهدف من هذه الاخيرة شيء واحد ، هو تحديد الازمنة التي يمكن ان يظهر فيها احد الشهب عابرا السماء ، حتى يستطيع ارثر ان يبصره بواسطة التيليسكوب الصغير المثبت عند النافذة الكبيرة ، الذي لم يستطع تدبير ثمنه الا بالعمل في وظيفتين بدوامين متعاقبين ، لكنه نسي كل ذلك لحظة وضعه عند النافذة قائلا بعد ان تنفس بعمق : " لقد كان الامر يستحق العناء "
لقد كانت اغلب المجلات الموضوعة على الطاولة تابعة للفيزياء ، تتحدث عن كل مسبار يتم ارساله في رحلة استكشافية في الفضاء ، و تصف بدقة الكواكب و تشكيلة النجوم و المجرات التي كان يفضل من بينها مجرة اندروميدا ، لاعجابه بهذا الاسم ، فقد كان يفضله على اسم مجرة درب التبانة حتى . . . اما المكتبة الصغيرة التي كانت على يمين النافذة ، فقد كانت تحوي كتب شارحة في الفيزياء و الرياضيات ، في اعلاها كتاب المبادئ لنيوتن ، قد جعله ارثر هناك تبجيلا لمقام هذا العالم الكبير ، ولو انه يهوى كذلك جمع المخطوطات القديمة ، وكل ما له صلة بالاثار ، فيوم ابتياعه لكتاب المبادئ كان من اسعد الاوقات في حياته . . .
لم تكن الغرفة الثانية فقط لانتظار الشهب العابرة ، و مشاهدة النجوم في صفاء الليل البهيج ، المقهور بالصمت و السكينة ، وانما كذلك لمحاولات اخرى ، كمحاولات رسم الموناليزا لكن في عالم الرياضيات و الفيزياء ، حيث كان يملك ارثر سبورة قديمة يأتي بها الى الغرفة الثانية للقيام بحسابات يفهم بها نظرية فيزيائية ما ، او يراهن نفسه على التوقع بموقع نجم او كوكب معين قد تم كشفه في مجلة فيزيائية ، لينظر هل طابقت نتائجه ما كتب في المقال ام لا ؟ . . . رغم انه كان يخطئ كثيرا ، ، الا ان ذلك ساهم في تنقيح معلوماته في الفلك و الفيزياء بشكل ممتاز ، جعلته يمتلك لياقة التحدث مع المتخصصين في هذه الميادين . . .
كما بحث ارثر في غرفته الاولى عن شعور دافنشي يرسم لوحته ، كذلك فعل مع تيلسكوبه في ليالي الحر و البرد ، يسأل نفسه : " هل هكذا كان يشعر غاليلي وهو يراقب السماء ؟ " . . . و كما شعر بروعة النظر الى الموناليزا بعد محاولته رسمها ، راح يبحث عن شعور نيوتن وهو يرقب السماء و يدون قوانينها في كتبه . . يقول لنفسه : " هل ساستطيع بلوغ ذلك الشعور الذي ناله ذلك العبقري ؟ "
ففي الاخير ، هذه هي الغاية كلها من هذه الغرفة . . .
الغرفة 3 :
الغرفة الثالثة كانت على مستوى واحد مع الغرفة الاولى ، في الجهة المقابلة من الرواق للغرفة الثانية ، مطلية بلون قرمزي اللون ، بداخلها مجموعة مختلفة من الثياب المبعثرة على حسيرة مهترئة ، قد نال الزمن من نسيجها ، لكنه كان تبعثرا منظما الى حد ما ، حيث كانت هناك ثلاثة مجموعات من الثياب المتراكمة فوق بعضها ، بجانب كل فوج بعض الكتب الصفراء ، المتوسطة الحجم . . .
الثياب تلك كانت تابعة لازياء المسرح ، التي كان يرتديها طلاب تخصص الفن في الجامعة التي درس فيها ارثر تقليدا لاهل القرن السابع عشر ، نوع اللباس الذي كان يرتديه فولتير تماما و الذي كان يفضله ارثر على بقية الازياء ، التي قام بسرقتها من خزانة المسرح الخاص بالجامعة مع بعض السمفونيات المسموعة ، كي يتسنى له اداء المسرحيات التي يهواها قلبه . . .
تاتي مسرحيات وروايات شكسبير بجانب الكومة الاولى من ثياب القرن السابع عشر . . يرتديها ارثر دوما اذا اراد قراءة مقاطع من اعمال شكسبير . . حيث ياخذ لباسه المفضل الذي يمثل صورة عصر التنوير ، و يقوم باداء دور هاملت ، مجيئا و ذهابا ، داخل غرفة خشبة المسرح كما يحب ان يسميها ، رافعا نبرة صوته ، ملوحا بيديه ، معبرا بعينيه ، كل ذلك تشبها باحوال الطبقة الملكية التي كان ينتمي اليها هاملت ، و احيانا اخرى يشغل نوعا من الموسيقى الهادئة او الحماسية ، مراعاة للمقطع الذي يقوم بادائه من المسرحية ، حتى يضفي حيوية اكثر الى المشهد . . . المشهد الذي كان يقوم بمتابعته بكاميرا يضعها في الثقب الذي حفره بنفسه ، داخل جدار الغرفة ، مقنعا نفسه ان احداثيات هذا الثقب هي الزاوية المثلى للتصوير ، معتبرا بذلك معادلاته التي قام بحسابها ضمن سبورته القديمة في غرفته الثانية ، لكن مشهدا واحدا فقط لم يرقه ، حينما لعب دور اليهودي انطونيو في مسرحية تاجر البندقية فقد كان مرتديا بدلة سوداء تقريبا ، مع قميص ابيض واسع العنق ، متفرع الأكمام عند الرسغ ، يتلعثم ببعض الكلمات العبرية ، ضاحكا على نفسه ، شأن : " شالوم ، نوخاليم ادوناي " . . . و اخيرا بوكر توف التي كانت تعني صباح الخير . . .
التصوير الذي يقوم به ارثر ، كان يعود لمشاهدته كل عشية اثنين ، حيث كان يعود متأخرا الى المنزل ، بعد عملية التنظيف التي كان يساعد بها جارته العجوزة ماريا ، البالغة من العمر ثمانين سنة ، و التي لم يمض طويلا على احتفالها بعيد ميلادها مع جارها الشاب ، الذي احضر لها كعكة بالفراولة اعدها بنفسه من كثرة مشاهدته لبرنامج الطبخ الذي يعرض كل اسبوع ، على الساعة السادسة مساءا يوم السبت . . . ارثر الذي لم يكن يبحث الا عن مساعدة نفسه بالارتقاء في الحس الانساني ، بمساعدته للعجوزة ماريا التي تشكره هذه الاخيرة دوما معبرة : " الملاك الذي ارسله لي الرب " . . .
كانت هذه الغرفة كاخواتها محاولة لفهم الفن المسرحي و شخصيات العصور و الحقب المختلفة ، مثرية بذلك مشاعر ارثر بشكل عميق . . مشاعر الاغنياء . . . مشاعر الملوك . . . مشاعر العبيد . . . مشاعر الاطفال . . . مشاعر النساء . . .مشاعر الفلاسفة
كل ذلك يجعل ارثر قادرا على ادراك صدى وعمق هذه الاعمال العظيمة و الفنون الملهمة ، قادرا على فهم الاحاسيس التي تمتع بها رجل من القرن السابع عشر ، احاسيس عاشها شكسبير ، و احاسيس خبرها فولتير ، كل ذلك من غير ان يكون شكسبير او فولتير ومن غير ان يكون حاضرا بالقرن السابع عشر حتى . . .
ففي الاخير ، هذه هي غاية غرفة خشبة المسرح
الغرفة 4 :
هذه الغرفة تحمل اسما مكتوبا على الحافة العلوية لبابها . . . كان الاسم هو كلمة الموسيقى لكن باللغة الالمانية ، للموسيقيين الكبار الالمان كــ : موزارت ، بيتهوفن و سيباستيان باخ الذين امتلك ارثر شيئا من اعمالهم الفنية و لم يزعجه الا كون موزارت نمساويا ، لكنه اقنع نفسه ان اهل النمسا يتكلمون اللغة الالمانية كذلك . . .
لم تحوي هذه الغرفة الا سرير للنوم في الزاوية التي تقابل باب الغرفة ، بجانبه جهاز لتشغيل الاسطوانات ، محمول على خزانة صغيرة ، بداخلها الاسطوانات الثلاث التي سرقها ارثر مع ملابس المسرح للقرن السابع عشر . . . كانت هذه الاخيرة مرتبة بحسب ظهور مؤلفيها بدءا بـعمل باخ ( 1685-1750) قطعة الهدية الموسيقية التي قدمها للملك فريدريك الكبير عام 1747 ، تحتها سمفونية الناي السحري لموزارت ( 1756-1791) ، و اخيرا ضمن التشكيلة احدى سمفونيات لودفيج بيتهوفن ( 1770-1827) حيث كانت هذه الثلاث تمثل كنزا كبيرا بالنسبة لارثر ، فلا شيء يجعله يتصالح مع نفسه مثل هذه النغمات . . .
لم يكن ارثر يجد متعته فقط في الاستماع الى هذه الموسيقى المقدسة على يد الاساتذة الالمان ، ولكنه يحاول كذلك ان يكتب خربشات موسيقية هي الاخرى تشكل سمفونيته الخاصة ، التي كان يختبر وقعها على الاذن بالبيانو الخاص بالجامعة ، والتي غالبا ما تجيء في اصوات غير متناسقة تؤذي مستمعيها اكثر من ان تضفي البهجة على ارواحهم ، مؤمنا في قرارة نفسه أن ذلك يزيد من بصيرته و ذكائه . . . " اينشتاين كان يحب العزف على الكمان " يقول لنفسه ارثر ، و يستطرد مكملا : " أي روح سامية و نقية تلك التي كانت بين جنبي موزارت او بيتهوفن . . . اي عالم كان يعيشان فيه يا ترى ؟ "
لقد آمن هذا الشاب أن الموسيقى غذاء الروح ، فأي شيء في العالم يمكن ان يضاهي قطعة موسيقية تمدك بالسكينة مشعرة اياك ان الزمن لا يحيط بك ، ان الزمن قد توقف ، انه لا يوجد ماضي و مستقبل ، يوجد فقط الحاضر . . . يتساءل ارثر : " اذا كان الفنان الماهر يستمد من هؤلاء العمالقة كدافنشي و بيتهوفن ، فمن أين يستمد دافنشي وبيتهوفن هذا كله ؟ " . . . ثم يجيب ، وتعابير الدهشة بادية على وجهه : " لقد كانوا أنبياء ، و الفن هو الوحي الذي اعطاه الله لهم ، انبياء كموسى ومحمد ، لكن بشريعة مختلفة فقط "
في غرفة الموسيقى ، كان يستمع بكيانه مجتمعا الى وحي هؤلاء الملهمين ، ساعيا ان يكون هو الآخر له وحيه الخاص يوما ما . . .
بانتهاء الرواق تنتهي الغرف الاربعة ، لتبدأ بعدها ردهة واسعة الحجم ، تمثل نصف المنزل السعيد ، في زاويتها الضيقة مطبخ صغير تقابله في الزاوية الواسعة مكتبة ضخمة مقسمة الى اجزاء معنونة بخط كبير واضح ، و في نهاية الردهة باب يفتح على الحديقة التي كانت في خلفية المنزل . . . فهل كان النصف الثاني لهذا البيت اقل حياة من النصف الاول ؟
المطبخ :
لم يكن المطبخ يزخر بأواني كثيرة ، لكنه كان يعكس فوضى ملحوظة ، تدل بسخرية على ان ارثر غير ملم بهذا الفن ، سوى اتقانه للكعك . . . فن الطبخ الذي كان يحاول ان يتعلمه بتطبيق الوصفات لافضل الاطباق التي تقع عينه عليها ، الاخيرة منها كانت طبقا فرنسيا أوصته به جارته العجوز مانحة إياه وصفة مكتوبة بخط يدها الغير واضح ، تماما كتجاعيد اليد التي كتبته بها . . . وصفة جاء فيها :
" مكعبات صدور دجاج مقطعة ، بصلة مقطعة مكعبات ،بطاطس مقطعة مكعبات ، حبة فلفل اخضر ، قليل من البقدونس ، ملح فلفل اسود ، زيت نباتي اسمه كركم ، ملعقتين دقيق ، حبة بيض ، جبن " . . . و تحت المقادير الموضوعة اعطته كذلك طريقة التحضير في شكل مفصل ، آخذة في الحسبان قلة درايته بالطبخ ، لكن هذا الاخير لم ينجح في التطبيق من المرة الاولى ، بل استلزمه ثلاث محاولات ، جاءت في ثلاث ليال ، اثنتان منها باءت بالفشل ، مما اضطره للذهاب خارجا حتى ياتي بطعام جاهز في عتمة الليل المخيمة ، يتغنى في مسيره ببعض الابيات الرومنسية لشكسبير : " الا تشبهين صفاء المصيف ، بل أنت أحلى وأصفى سماء ففي الصيف تعصف ريح الذبول ، وتعبث في برعمات الربيع . . . و لا يلبث الصيف حتى يزول . ."
لم يكن الطبق الشيء الفرنسي الوحيد في المطبخ ، بل اجواء المنزل كلها كانت فرنسية ، فقد كانت وسيلة ارثر في تعلم لغة جديدة هي ان يخلق لها جوا سائرا لها ، فبالاضافة الى الطبق الفرنسي ، كان قد اشترى روايتان باللغة الفرنسية ، البؤساء لفيكتور هوغو ، معها كنديد و التفاؤل لفولتير ،كذلك مجموعة من الاغاني و الافلام الفرنسية ، مستعينا بالترجمة في فهمها حتى يسهل عليه اكتساب اللكنة المناسبة لهذه اللغة ، لغة الرومنسية ، لغة موليير . . .
بالاضافة الى اللغة الفرنسية ، كان ارثر يجيد اللغة الايطالية و الانجليزية ، حديثا و كتابة ، و عشقه لتعلم لغات جديدة جاء من حبه للاصالة في الشيء . . . كان يرى أن قراءة كتاب المبادئ لنيوتن بلغته الام اللاتينية افضل من قراءة ترجمته بالانجليزية ، ولم تزد هذه الاصالة الا رسوخا حينما ادرك ارثر اهمية تعلم اللغة بالنسبة لتطوير الدماغ بانشاء وصلات عصبية جديدة بين الخلايا ، الميزة التي تتمتع بها الاناث عن الذكور في كون الخلايا عندهم اكبر من الوصلات ، و كان لارثر رغبة عجيبة ان يكتب مذكرات حياته باللغة اليونانية القديمة ، التي خطط سعيا في دراستها ضمن الجامعة اذا تيسر ذلك ، والا فبمفرده اذن . . .
المكتبة :
في الزاوية الواسعة المقابلة للمطبخ ، كانت تترصف عشرات الكتب مرتبة ضمن ثلاث تشكيلات تسهل عملية التصنيف ، العنوان الاول كان : الفلسفة الذي يشغل الجهة اليمني للمكتبة ، ممثلا القسم الاكبر منها لكثرة الكتب فيه ، كتب عبارة عن مجموعات كاملة لكل شخصية مؤلفة ، فارثر كان يكره دراسة مؤلفات مفردة لاحدهم ، بل يحبذ دراسة المجموعة الكاملة لاعماله حتى يصل لفكرة مقنعة عن هذا الكاتب . . . حوى قسم الفلسفة المجموعة الكاملة لـ : برتراند راسل ، روجيه غارودي ، سانت اوغستين . . . الا ان هذا القسم ايضا حوى بعض الاعمال المفردة التي ارجأها ارثر حتى تكتمل كــ : الابطال لكارلايل ، العم سام لتشومسكي . . .
في وسط المساحة ، كان القسم المعنون بــ الدين ، وهو القسم الاقل حظا ، كونه يحوي فقط كتابا للشطرنج مع الكتب الدينية المقدسة : نسخة من القرآن بالانجليزية ، مكتوب على غلافها كلمات بالعربية لم يفهمها ارثر ، لكنه كان يطبقها في حياته من غير فهمها ، كلمات كانت للفخر الرازي يقول فيها : " من جرب مثل تجربتي ، عرف مثل معرفتي " . . فارثر كان يعيد القيام بالتجارب التي صنعها من قبله سعيا للحصول على معرفتهم من خلالها ، تجربة رسم الموناليزا للحصول على معرفة دافنشي ، تجربة نحت تماثيل الملائكة للحصول على معرفة برنيني ، تجربة لعب اداور المسرح للحصول على معرفة شكسبير ، تجربة مراقبة السماء بالمقراب للحصول على معرفة غاليلي ، تجربة طبخ الطبق الفرنسي للحصول على معرفة العجوز ماريا ، لكن كاتب تلك العبارة على نسخة القرآن كان يقصد تجربة قراءة هذا الكتاب ، فاذا كانت مدهشة ، كان قصده من جرب مثل قراءته حصل على مثل دهشته ، او العكس في ذلك . .
بمحاذاة القرآن كانت هناك نسخة بالانجليزية لكتاب سيرة محمد لمؤلفها محمد ابن اسحاق ، تليها خمسة أناجيل مرتبة على النحو الآتي : انجيل لوقا ، انجيل مرقس ، انجيل متى ، انجيل برنابا ، انجيل يوحنا . . . و اسفل منها العهد القديم مع التلمود ، بالقرب منه مساحة فارغة ، كان ارثر قد ادخرها للحصول على كتاب الهندوس المقدس الفيدا ، لكنه لم يجده حتى الآن . . .
اشتمل القسم الاخير المعنون بــ العلم على الكتب الشارحة و المفصلة في العلوم الامبريقية شأن : علم الاحياء ، علم طبقات الارض ، علم النفس ، حيث كان هذا الاخير هو الاوفر حظا في القسم الاخير من المكتبة ، الواقع في الجهة اليسرى ، الذي بدوره لم يكن بحجم قسم الفلسفة ، لكنه كان اكبر من القسم الاوسط . . . فقد آمن ارثر ان الفلسفة اهم من العلم ، وانها هي الحاوية له ، المهيمنة عليه . . آمن ان العلم منظار واحد ، لكن الفلسفة مناظير متعددة ، ان العلم لا يقود الى الانسان كما تفعل الفلسفة ، طارحا ارثر هذا السؤال : " اين بلغنا في تطورنا للمنظور الاخلاقي منذ عهد ارسطو ؟ . . اين بلغنا في تطورنا لمفهوم السعادة الحقيقي منذ عهد ارسطو ؟ "
ثم يجيب نفسه : " صحيح اننا صعدنا الى القمر ، و حرقنا المسافات الفلكية ، و عدنا لنقرأ الماضي بالاثار و الحفريات ، وكتبنا الروايات العلمية الخيالية . . . لكننا لم نضف شيئا مبهرا و معتبرا لمفاهيم : الاخلاق ، الانسان ، السعادة ، التضحية . . "
لم يكن ريتشارد صديق ارثر على نفس القناعة ، فقد كان يجادله دوما أن العلم فرصة حقيقية ، في حين الفلسفة مجرد جدل متواصل و سخيف ، فيقتبس ارثر في رده من رواية الملائكة و الشياطين لــ دان براون جواب ليوناردو فيترا لابنته فيتوريا : " ان العلم و الدين ليسا في خصام مع بعضهما البعض ، و لكن كل ما في الامر ان العلم لا يزال حديثا جدا لكي يفهم . . " ، الا ان ارثر كان يستبدل كلمة الدين بكلمة الفلسفة في اقتباسه ، مؤمنا ان الدين ذاته فلسفة لكن بصياغة خاصة فقط . . .
لقد كان الكتاب بالاضافة الى الافكار التي يقوم بها ارثر في غرفه الاربعة على قدر من الاهمية متساوي ، فكما كان يبحث عن الاحاسيس التي تولدها تلك التجارب ، كان يقينه ملازما ايضا ان الكتاب هو آلة خارقة لحدود الزمان و المكان ، يمكن للكتاب ان ياخذك الى اي مكان تريده في العالم ، في اي زمان تريده . . ياخذك الى عالم الفراعنة ايام رمسيس ، ياخذك الى عصور الانفجار الكمبري ، ياخذك لزيارة بني البشر الاولين ، الى سفينة نوح ، الى آدم و حواء . . ياخذك الى نهاية الكون ثم يعود بك الى بدايته حينما كان نقطة ، بل يسير بك الى اكوان متعددة ، وعوالم متضاربة . . كل ذلك وانت لم تتحرك من مكان جلوسك . .هذه كانت مكتبة ارثر . .
الحديقة :
كانت الردهة تنتهي بباب في آخرها ، يفتح على حديقة ارثر ، ذات التربة الداكنة قليلا ، من غير سقف يحجب الشمس عن ارسال حزم اشعتها مجففة التربة ، و التي تزخر بورود الفل ، و الريحان، و الياسمين ، مضفية بهجة في تلك البيئة ، تدخل السرور حقا . .
كان ارثر يعتني بوروده ضمن جدول مرتب بين السقي ، و التقليم ، و نزع الحشيش الضار الذي ينبت بين الفينة و الاخرى ، الا ان متعة ارثر الكبرى كانت في امرين . . . حينما يحضر بعض النحلات من الخارج ، يقوم بمتابعتها في اخذ الرحيق ، و التنقل بين عالم الازهار تلك ، لكنه لم يخاطر باحضار عدد كبير منها ، فلعله يتسبب في غزو بيته السعيد من طرف جيش النحل ذاك ، ثم مجرد فكرة لسعات النحل الحارقة كانت له كابوسا بحد ذاتها . . .
الامر الثاني كان حينما اراد القيام بتجربة الراهب غريغور مندل مكتشف علم الوراثة بتجربته على البازلاء ، حيث طلب من احد الفلاحيين ان يحضر اليه سلالة نقية للبازلاء ، يامل في الحصول على نفس نتائج مندل في اكتشاف فكرة الصفات المتنحية و الصفات السائدة ضمن التشكيلة الوراثية ، و بعد أن هيأ الامور اللازمة للقيام بتلك التجربة البسيطة ، قام بنفس مراحل العالم غريغور مندل ، زارعا عددا من بذور البازلاء ارجوانية الازهار ، تاركا اياها للتلقيح الذاتي للحصول على سلالة نقية ، ليقوم بعدها باجراء التلقيح الخلطي . . .
فوجئ ارثر كونه لم يحصل على نفس النتائج ، فالكتاب الذي اشتراه شارحا تجربة مندل كان يقول بأن نتائج الجيل الثاني كانت ( 3/4) ذات ازهار ارجوانية ، و (1/4) ذات ازهار بيضاء ، فعلم الاخير ان الفلاح لم يعطه سلالة نقية من البازلاء ، وانه قد خسر المبلغ المضاعف للثمن المستحق في سبيل تجربة فاشلة ، الا ان اليأس لم يتسلل الى قلب ارثر ، فقد صمم ان يقوم بالتجربة ولو استلزمه ذلك ثروة فلا شيء يضاهي احساس اكتشاف شيء جديد ، فكيف اذا كان علما جديدا ؟ . . .
بالاضافة الى ما سبق ، كانت الحديقة عالما من الهدوء و السكينة ، يستغله ارثر للحصول على الراحة النفسية بين ازهاره الجميلة ، ونحلاته المسالمة ، يجلس بالساعات الطوال ، يتأمل في ذلك العالم الصغير الذي بناه . . . يكون تارة هو الزهرة ، وتارة اخرى هو النحلة ، لقد كانت حديقته تجعله يترقى بالصمت و التأمل نحو مفهوم النيرفانا الصافية التي تحدث عنها بوذا . . .
هذه بنية المنزل السعيد لارثر ، الامر الذي جعل الآنسة تيريزا متعجبة تماما ، بين كل غرفة تمر بها ، و بين كل شرح يدلي به ارثر ، تقول لنفسها : " هل يوجد اشخاص بهذا التفكير حقا ؟ " . . . لقد كانت تيريزا من النوع الذي يدخل الجامعة من اجل الحصول على وظيفة تجمع من خلالها المال ، مؤمنة بمبدأ " المال يساوي السعادة " . . . كانت من النوع الذي يعود الى منزله ليفتح التلفاز ، تشاهد المسلسلات الكوميدية ، حتى تنسى الهموم التي عاشتها خلالها النهار ، خاتمة ذلك بمتابعة احوال الطقس حتى تعرف هل هي بحاجة الى مظلتها الواقية من قطرات المطر أو لسعات الشمس الحارقة ، لتمسك في الاخير شيئا من المقالات التي تتحدث عن تخصصها فقط ، تخصص علم النفس ، الذي علمت في الاخير ان ارثر يتفوق عليها فيه من غير جهد يذكر ، سوى لعب بعض المسرحيات ، و الرسم المقلد لبعض اللوحات ، حيث لمحت في عيني ارثر سعادة كبيرة تفوق سعادتها التي كانت تظن انها تملكها ، و بجولة في بيت ارثر تهدم مبدأها القائل بمساواة السعادة للمال ، فهو كان مفلسا من غير وظيفة ، مع بيت اشبه بمدرسة للصغار ، خلافا لها ، الناجحة في مهنتها ، المرتاحة ماديا في حياتها ، لكنه كان أسعد منها بكثير ، سعادة الطفل الصغير التي لا تفارقه . . .
لم تجد تيريزا شيئا مشتركا مع المتقدم للوظيفة ، الا لوحة الشطرنج التي رمقتها في الصالة ، مع مجموعة من الافلام المرتبة هناك ، فقد كان ارثر يحب لعب الشطرنج ، وان كان يقوم بذلك غالبا بمفرده ، ومرات نادرة مع صديقه ريتشارد . . . كان يهوى تطبيق الخطط المشهورة ، فيجلس على طاولة الشطرنج من جهة مطبقا خطة عمود نصف مفتوح ، يقوم بالحركة الاولى ، ثم ينتقل الى الجهة الثانية من الطاولة ليقوم بالحركة الاولى ضد نفسه مطبقا خطة منتصف اللعب ، اما الاستراتيجية المفضلة لديه ، والتي غالبا ما يستعملها للفوز على غريمه ريتشارد فقد كانت تكتيك الـ فيانشيتو ، و هي كلمة ايطالية تعني الزاوية الصغيرة ، التي كان يتقنها ارثر جدا ، مبرزة المهارات الاستراتيجية التي يتمتع بها ، خلافا لتيريزا المحبة للشطرنج ، لكنها لم تتمتع يوما بالثقافة الحقيقية له ، بل سرعان ما كانت تمل منه بعد مباراة واحدة ، و احيانا لا تكون مباراة كاملة حتى . . . لكن ذوقها من الافلام لم يكن بعيدا عن المتقدم للوظيفة ، فهو آمن من جهة أن فيلما قد يكون ابلغ تاثيرا من مائة كتاب ، و هي من جهة ثانية آمنت بذلك تلبية لعواطفها الانثوية و تفكيرها العلمي . . . افلام شأن :
search for hapiness, the prophet , exam , Angels & Demons , the revenant . . .
خلال الجولة الاستعراضية التي منحها ارثر للجميلة تيريزا ، لم تنبس ببنت شفه هذه الاخيرة ، صامتة خلال الوقت كله ، مع آذان صاغية للشاب المتحدث كاستاذ ثمانيني العمر ، دارس لكثير من العلوم ، مع نبرة مليئة بالثقة ، تجعل كل ما يقوله يبدو ذكيا ، و بعد نهاية كل ذلك ، راحت تحاول مع نفسها في صياغة السؤال الذي من وراءه تكمن الاجابة عن هذا المنزل الغريب ، و بعد تلعثم طويل لم تجد الا كلمة واحدة لتعبر بها . . . قائلة فقط : " لمــاذا ؟ " . . . فهم مباشرة ارثر بسرعة بديهته فحوى سؤالها ، الذي سمعه سابقا من صديقه ريتشارد ، فطلب منها ان تتبعه الى الغرفة الثانية ، غرفة التيلسكوب ، حيث قام برسم مثلث على سبورته القديمة سائلا اياها : " هل سمعت بهندسة ريمان ؟ " . . . " لا ، لم اسمع " مجيبة هي الاخرى . . فيستطرد ارثر قائلا :
" لقد تعلمنا في المدارس الهندسة الاقليدية التي تقول ان مجموع زوايا مثلث على سطح مستوي هو 180 درجة ، لكن الرياضياتي ريمان اكتشف ان زوايا المثلث لا تساوي تلك القيمة بل هي اما اصغر من 180 او اكبر على حسب التقعر او التحدب في الفضاء ، و الفرق الوحيد بين اقليدس و ريمان هو المعلم الذي قمنا بالاسقاط عليه ، فمعلم اقليدس ثنائي المحاور ذو بعدين ، اما معلم ريمان فثلاثي المحاور ذي ثلاثة ابعاد ، و اضافة البعد الثالث هي التي جعلتنا نكتشف ان حقيقة زوايا المثلث تختلف عن 180 درجة ،و الامر سيان بالنسبة للحقائق الموضوعية التي نؤمن بها ، فإن دراسة لون واحد ، وفن واحد ، و تخصص واحد في عالم حافل بالفنون المتقاطعة و التخصصات المتداخلة لا شك انه لن يوصلنا الى الحقيقة كما هي ابدا ، بل نسخة مشوهة كنسخة اقليدس ، و العلم الامبريقي ، و الفن ، و النحت ، و الفلسفة ، و الدين ، كلها محاور و ابعاد ، كلما امتلكت اكثر منها ، كلما كنت اقرب للحقيقة ، كلما كانت نسختك في الفهم اقل تشويها ، و الذي احاول ان افعله ان اجعل المعلم الذي اقوم بالاسقاط عليه متعدد الابعاد حتى لا يفوتني شطر كبير من حقيقة الشيء الذي اقوم باسقاطه . . "
تحاول تيريزا الفهم اكثر : " أليس في احيان كثيرة ، ان الامر يفوق قدراتنا ؟ "
يبتسم ارثر مظهرا خبرة الازمان التي عاشها قبل وجوده في هذا العالم ، مبرزا خبرة الاماكن التي زارها بعقله و قلبه دون جثمانه ، ثم يتلفظ من غير ان يدير وجهه باتجاهها : " و انا صغير كنت اتغنى و اترنم بصلاة القديس فرانسيس : يا ربي امنحني القوة لاقبل تلك الامور التي لا يمكنني تغييرها . . . لكنني لم اعتقد يوما بصحة هذه الصلاة ، بل آمنت بكل وجداني انه ليس هناك ظرف لا يمكن تغييره ، و انه ليس من امر يفوق قدرة الانسان الا قدرة الرب وحده " . . . يسكت قليلا ارثر وهو يتامل من نافذة الغرفة الثانية ، كأنه يستعيد ذكريات كل تلك الامور و التجارب التي قام بها ، في خشوع و صمت الحكيم الذي عارك الازمان و عاركته ، و تيريزا مقهورة تحت تلك الهالة المحيطة به . . ثم يكمل قائلا : " لقد وجد الانسان في هذا الكون ليبحث عن الخلود ، و يفتش عن العالمية التي لا تحدها الزمان و المكان . . . و انا احاول السير في هذا السبيل لا غير . . سبيل ان اكون خالدا و قادرا على احتواء العالم برمته ، و نعم استطيع بلوغ ذلك في السنين القليلة التي ساعيشها "
بعد المحاورة تلك ، لم تجد الاخصائية النفسية اي كلمات لتعبر بها ، فقد اخرستها تلك الاحوال التي بعثت فيها نوعا من الاحاسيس لم يسبق لها ان شعرت بها ، تحاول ان تجد لها تفسيرا قبل ان تصل لباب الخروج الذي ذهب ارثر باتجاهه ، لكنها تفشل في ذلك ، و يفتح ارثر الباب لخروج الآنسة التي علم انه قد شد انتباهها ، و حان الوقت ليسألها عن ذلك الموعد الذي خطط للحصول عليه بذكاء ، الامر الذي لم تغفل تيريزا عن ملاحظته مثبطة عزيمة هذا الاخير قائلة : " يبدو انك ستحصل على الوظيفة " ، و قبل ان يتفوه هذا الاخير بأي كلمة ، تقوم تيريزا باخراج بطاقة من معطفها الاسود ، ملونة بالوان مختلفة : احمر ، برتقالي ، اصفر ، اخضر ، ازرق ، بنفسجي . . .
لقد كانت بطاقة تمثل احد نوادي المثلية الجنسية . . .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن