عماء في قصيدة -عماء- محمد لافي

رائد الحواري
read_111@hotmail.com

2017 / 4 / 12

عماء في قصيدة
"عماء"
محمد لافي
أحب الشعراء لأنهم يتمردون على الواقع، وحتى على أنفسهم، فهو لا يضعون سقفا لهذا التمرد، ولأنهم يعرون/يكشفون لنا الواقع، بدون رتوش أو تجميل، ولأنهم يقدمون أفكارهم بلغة أدبية، وإن بدت قاسية، تبقى لغة جميلة.
الشاعر "محمد لافي" يقدم لنا الواقع الآني والماضي والمستقبل بصورة مطلقة السواد، وكأنه يفرغ، (يفش غله) في هذه القصيدة، حتى أننا نجده أقرب إلى القنوط المطلق، فكل بيت لا يخلوا من إحدى مشتقات كلمة "عمياء" ولسنا في محل تبرير لهذا السواد القاتم في رؤية الشاعر، لكن نقول بأنه يعري واقعنا، ويعرينا، ويعري ماضينا، ويعري مستقبلنا، ويعري حركة التغير، والنظام والمجتمع والأهل، فهو يرفض كل ما هو موجود بشكل مطلق.
حجم هذا العماء يفرض علينا التوقف عنده، وهل فعلا الشاعر يريدنا أن نقنط/نكفر بكل شيء، أم أرادنا أن نعرف واقعنا ليحثنا/يدفعنا إلى التغير والبحث عن التبديل، لعل وعسى يحدث شيء من التقدم.
أي نص مهما كان أسود، شديد الوطأة على المتلقي إلا أنه يحل في داخله دافع/خطوة إلى الأمام، ويحمل شيء من الأمل، فعندما نقرف/نمتعض من هذا السواد/العماء نكون في الجهة المقابلة قد بدأنا في تشكيل حالة من الرفض لهذا السواد/العماء، وأخذ العقل الباطن فينا يبحث عن مخارج/حلول لما هو أفضل، من هنا نقول بأنه لا يوجد نص مطلق السواد، وإن بدى للوهلة الأولى أسود، فالبياض موجود داخل هذا الغلاف الأسود، كما هو النهار الخارج من رحم العتمة.
الشاعر يستخدم لغة سهلة يستطيع حتى الشخص العادي الوصول للفكرة التي يطرحها الشاعر، وهذا يحسب له، لكن إن توقفنا عند هذا الحد من القصيدة، سنكون كمن يصب الزيت على النار، فالفكرة واضحة، قرف/كفر من كل ما هو كائن وحاصل وما سيكون، لكن هناك طرح آخر يقدمه الشاعر في قصيدة "عماء" فعندما يقول:
" وطائرتي الورقيةُ عمياءُ
ضحكُ أبي حين ألثغُ بالراءِ أعمى
زغاريدُ أمي بعرسِ أخي البكر عمياءُ
دفْءُ حكاياتِها في الشتاءاتِ أعمى
وخشيةُ أختي عليَّ
إذا ما تأخرتُ ليلاً عن البيتِ عمياءُ
نايُ الرعاةِ على السفحِ أعمى
صدى أغنياتِ الحصادِ يرنُّ ضُحىً
في السهوب القصيةِ أعمى
دخانُ "الطوابينِ" أعمى
البيادرُ عمياءُ
رقْصُ الفراشات في القلب أعمى"

من المفترض أن تكون الطفولة والريف الفلسطيني عوامل مخففة ومهدئة للشاعر، فالريف وحياة القرية يذكرنا بماضينا البكر، البعيد عن القسوة والعنف، وهما من عوامل الفرح والبهجة، لكننا نجد العكس تماما، فحتى هذه الذكريات الجميلة أمست عمياء، وهنا نطرح سؤال: لماذا؟.
بعد مرحلة الطفولة ينقلنا الشاعر إلى مرحلة المراهقة والتي يقول فيها:
"رقْصُ الفراشات في القلب أعمى
و "ولْدنتي" في طريقِ البناتِ إلى النهر عمياءُ
أولُ غمزةِ عينٍ لجارتنا في الزقاق المقابلِ عمياءُ
أولُ خفقةِ حُبٍّ بقلبيَ عمياءُ"

المرحلة الثانية أيضا قدمها الشاعر بشكل أسود بالرغم من أنه أعطاها حقها كاملة، ولم يقمع نفسه فيها، وحصل فيها على خطوة إلى الأمام، من خلال معرفته للحب، فالحب الأول، يبقى عالقا في الذاكرة لما له من أثر وتأثير على الإنسان، لكننا نجد الشاعر أيضا يقدمه لنا بصورة العماء.
مرحلة الشباب والانخراط في عملية التغير والثورة والتمرد على النظام الرسمي بكل ما فيه يقدمه لنا الشاعر بهذا:
"المناشيرُ عمياءُ
تهبطُ ساخنةً في يديّ لتحملَني لخنادقَ عمياءَ
رقصيَ في ساحةِ "الفاكهانيِّ" أعمى
الرصاصُ الذي وزّع الملصقاتِ على
واجهاتِ المكاتبِ أعمى"

الشاعر إذن مارس الفعل الثوري، وتمرد على واقعه وعلى النظام، وهذا الأمر من المفترض أن يعطيه شيء من الاتزان، فقد فرغ غضبه/سخطه بشكل ايجابي، وعمل على إحداث التغير، بصرف النظر عن النتائج، لكن عندما يقوم الإنسان بإعطاء كل مرحلة من مراحل حياته حقها من الأفعال ولا يقوم بقمع ذاته يكون متزن، ويتحدث بشكل فيه شيء من الأمل، الحكمة، لكن الشاعر لا يقدم لنا أمل أو حكمة!!.
إذا ما توقفنا عند هذه السير سنجد صاحبها شخص سوي، فهو عاش طفولته بشكل جيد، وأخذت مرحلة المراهقة حقها، وفي شبابه عمل بحيوية وفاعلية، فشخصية الشاعر ناضجة وواعية، ولم تعاني من أي اضطرابات نفسية، لهذا عندما يخاطبنا بهذه اللغة السوداء نعلم بأنها ناتجة عن وعي ومعرفة، وليست ردة فعل، أو ناتجة عن حالة من العصبية يمر بها الشاعر، لهذا نقول بأن السواد/العماء مقصود.
التاريخ أيضا كان قاسي ومولم علينا وما زال فعله حاضرا فينا:
"و "صِفّينُ" عمياءُ
تنفضُ عنها غبار التواريخِ إن التواريخَ عمياءُ
والدم أعمى
وهذي الحواراتُ عمياءُ
تسقطُ في علبِ الليلِ فوق أرائكَ عمياءَ"
عندما يفتح باب التاريخ فهي مؤشر على تأكيد الحالة التي يرمي إليها الشاعر، فهو يستحضر أيضا حالة من العماء ليؤكد الفكرة التي يطرحها.
بعدها كل هذا السواد/العماء نجد الشاعر يتوغل أكثر في طرحه بحيث نجد سواد أكثر وعماء في كل شيء:
" وردُ الحدائقِ أعمى
وأسماءُ من وقفوا بين حربٍ وحربٍ
ومن سقطوا بين حربٍ وحربٍ
هي الآن عمياءُ
برقُ المسيرِةِ أعمى
وهذي القصيدةُ عمياءُ
والسرطانُ الذي احتلّ جسمَ الحبيبةِ أعمى
وسيرةُ قلبيَ عمياءُ
"قابيلُ" أعمى
وهذي الخليقةُ ترحلُ بين يديّ إلى الموتِ،
عِزَّ الظهيرةِ، عمياءَ
عمياءَ
عمياء "!!
يحدثنا الشاعر عن الحاضر، فهو أيضا جاء ليكمل/ليغطي النفس والمكان والواقع بالسواد، بحيث لا يبقى لنا أو له أي نقطة بيضاء متاحة، يمكننا الاعتماد عليها لتكون محفز لنا أو له للخروج مما نحن فيه.
هكذا تبدو القصيدة، لكن، كما قلنا هناك فكرة مستترة وراء هذا السواد، والتي تتمثل بدفعنا لكره هذا السواد/العماء، ومن ثم دفعنا البحث عن مخرج، اعتقد هذا أهم ما كان في قصيدة "عماء"

" قصيدة عمياء
ـــــــــــــــ
عارياً من غوايةِ حلمي أسيرُ
وظلّي يدبُّ أماميَ أعمى
يقودُ بهذي الشوارعِ أعمى
أجرُّ ورائي تفاصيلَ عمياءَ
مزدهراً بخرابي أقولُ لكم :
بيتيَ الرحمُ أعمى
الولادةُ عمياءُ، واسميَ أعمى
وطائرتي الورقيةُ عمياءُ
ضحكُ أبي حين ألثغُ بالراءِ أعمى
زغاريدُ أمي بعرسِ أخي البكر عمياءُ
دفْءُ حكاياتِها في الشتاءاتِ أعمى
وخشيةُ أختي عليَّ
إذا ما تأخرتُ ليلاً عن البيتِ عمياءُ
نايُ الرعاةِ على السفحِ أعمى
صدى أغنياتِ الحصادِ يرنُّ ضُحىً
في السهوب القصيةِ أعمى
دخانُ "الطوابينِ" أعمى
البيادرُ عمياءُ
رقْصُ الفراشات في القلب أعمى
و "ولْدنتي" في طريقِ البناتِ إلى النهر عمياءُ
أولُ غمزةِ عينٍ لجارتنا في الزقاق المقابلِ عمياءُ
أولُ خفقةِ حُبٍّ بقلبيَ عمياءُ
هذا كتابُ الطفولةِ خلفيَ أعمى
أسيرُ وظلّي يدبُّ أماميَ أعمى
يقودُ بهذي الشوارعِ أعمى
كتابُ الرجولةِ أعمى
وخطوي إلى قبرِ أختي الوحيدةِ أعمى
المناشيرُ عمياءُ
تهبطُ ساخنةً في يديّ لتحملَني لخنادقَ عمياءَ
رقصيَ في ساحةِ "الفاكهانيِّ" أعمى
الرصاصُ الذي وزّع الملصقاتِ على
واجهاتِ المكاتبِ أعمى
و "صِفّينُ" عمياءُ
تنفضُ عنها غبار التواريخِ إن التواريخَ عمياءُ
والدم أعمى
وهذي الحواراتُ عمياءُ
تسقطُ في علبِ الليلِ فوق أرائكَ عمياءَ
وردُ الحدائقِ أعمى
وأسماءُ من وقفوا بين حربٍ وحربٍ
ومن سقطوا بين حربٍ وحربٍ
هي الآن عمياءُ
برقُ المسيرِةِ أعمى
وهذي القصيدةُ عمياءُ
والسرطانُ الذي احتلّ جسمَ الحبيبةِ أعمى
وسيرةُ قلبيَ عمياءُ
"قابيلُ" أعمى
وهذي الخليقةُ ترحلُ بين يديّ إلى الموتِ،
عِزَّ الظهيرةِ، عمياءَ
عمياءَ
عمياء !!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن