فضاء لطيور الموت - قصّة واقعيّة بحلقات (12)

محمود الخطيب
dr_elkhatib1@yahoo.ca

2017 / 3 / 26

(12)

انتهينا من إعداد العدد الأول من "اليوميات ..." في عهدي آخر كانون الثاني (يناير) 1983، فكتبت مقدّمته، وحوّلته الى دائرة الطباعة لمتابعة طباعته. أمّا نحن، فقد شرعنا، دون تأخير، بالتحضيرللعدد الذي يليه.
ومضت الأيام القليلة التالية من شباط (فبراير) 1983 في رتابة عمل عادية. ويبدو أن المركز كان خاضعاً، منذ مباشرته النشاط بعد الإنسحاب الإسرائيلي، لعملية مراقبة دقيقة لأوقات دخول وخروج الموظفين من قبل جهات معادية تستهدف ترحيله أيضا، دون أي اعتبار لمصداقيّة الدولة اللبنانية في المحافظة على بقائه في بيروت.
بدأ اليوم الخامس من شباط (فبراير) مثل اليوم الرابع منه، لكنه انتهى بكارثة. قبيل انتهاء الدوام بدقيقتين (الساعة 13:58)،أرعدت الدنيا بانفجار هائل، فازْرَقَّ الجوّ وتوشّح بدخان داكن حولنا، وتطايرت النوافذ وشظايا الزجاج في كلّ اتجاه، وعلا الصراخ والعويل في الشارع، فشعرت كأن الأرض قد زُلزِلَت بنا.
كان مصدر الإنفجار سيارة أوقِفَت أمام المركز، ملغّمة، حسب التقرير الأمني اللبناني، بكمّية من الهوكسوجين تعادل قوتها التدميرية 250 كيلوغراماً من الديناميت. وقد تمّ توقيتها في اللحظات المفضلة لنزول الموطفين الى الشارع والذهاب الى منازلهم.
اشتعلت النيران بالمبنى الرئيسي والبناية التي نحن فيها، فقطع علينا الحريق، وتعطّل المصعد بمنْ كان في داخله، طريق النزول. تفقدت نفسي بعد الصدمة، فرأيت ظاهر كفّي الأيسر ينزف من جرح غير ذي شأن من شظية زجاج. غيري كانت اصابات بعضهم اكبر ونزيف جراحهم أغزر، ولكن دون أن يلقى أحد من الدوائر الثلاث حتفه.
فكّرت، كيف يمكن أن ننجو وقد سُدَّت طريقنا؟
يقع مكتبي في الجانب الخلفي الذي لا يطلّ على شارع كولمباني، وأمامه شرفة فسيحة تفصلها عن البناية المحاذية لنا مسافة متر تقريباً، وفي تلك البناية نافذة مفتوحة على مستوى شرفتي. أتيت بعارضة خشبيّة سميكة ومددتها بين النافذة وحافة الشرفة، ثمّ صعدت اليها وحبوت على ركبتيّ متمسّكاً بطرفيها بقبضتيّ حتى أحفظ نفسي من السقوط, وعندما وصلت الطرف الآخر، طلبت من الآخرين أن يفعلوا كما فعلت، وانتظرت مكاني كي أساعدهم في الوصول سالمين. في هذه الأثناء، صعد الينا، من طريق درج البناية التي أنا فيها، جندي أسمر البشرة من القوة الفرنسية التي هرعت الى مكان الإنفجار، ومعه جندي آخر من الجيش اللبناني. الجندي اللبناني لم يحرك ساكناً ووقف يتفرج علينا. أمّا الجندي الفرنسي، فقد قفز نحوي، وصرنا معاً، وبالتناوب، نسحب العالقين فرداً فرداً، الى أن نجا الجميع، بمن فيهم العاملون في الوكالة الليبية للأنباء.
عندما نزلنا الى الشارع ذهلنا من منظر الخراب والجدران التي لا يزال ،الدخان يتصاعد منها، والمنطقة شبه خالية إلاّ من الجنود الفرنسيين وبعض المتفرجين، ولم أجد أحداً من جماعتنا الذين يعملون في المبنى الرئيسي لكي أستفسر منه عمّا جرى لهم. لا أحد البتة: المصابون نقلوا الى المستشفيات، والباقون تركونا وراحوا ولا سألوا عنّا!
في طريقي الى السيارة، لاحظت أن سترتي ملطخة بدماء الزملاء الجرحى أثناء سحبهم. كانت السترة من النوع الذي يمكن ارتداؤه على الوجهين، فقلبتها وارتديتها على الوجه النظيف لئلاّ ألفت انتباه أهل الفساقين وأثير فضولهم لمعرفة سبب الدماء، وكيف وصلت اليّ.
في اليوم التالي، عرفت أن ثمانية من موظفي المركز لاقوا حتفهم في الإنفجار، من بينهم حنّه شاهين، زوجة صبري، التي كانت في تلك اللحظة تنتظر زوجها على رصيف الشارع؛ وأن 18 آخرين أصيبوا إصابات متفاوتة. وحسب الصحف التي نشرت صوراً عن الحادث، فقد بلغ مجموع من لاقوا حتفهم، من المركز ومن المارّة في الشارع معاّ، 18 فرداً، وعدد الجرحى حوالي 150 فرداً.
مضى أسبوع تقريباً دون أن أرى أحداً. وفكّرت بواجب تعزية صبري بفقدان زوجته، لكنني لا أعرف أين يسكن. اتصلت بإحدى الزميلات في دائرتي، فأبدت استعدادها لمرافقتي، فذهبنا.
كان عنده بعض المعزّين من المركز أيضاً، فعزّيته وجلست. قال:
- بلغني أنك أبليت بلاء حسنا يوم الحادث، وجماعتك تشهد لك.
أجبت:
- قمت بما أقدر عليه، وبما يمليه علي الضمير والواجب.
ثمّ سألت:
- ماذا سنفعل الآن؟
أجاب:
- لست أدري ما هو قرار القيادة، ولكنني أميل الى الإستمرار. ماذا ترى أنت؟
- وأنا مع الإستمرار، ولكن أين؟ فالمبنى بحاجة الى وقت لترميمه.
- نستطيع أن نستخدم قسم التوزيع مؤقتاً، الى أن تُحَلّ مشكلة المكان، فهو لم يتضرر.
كان قسم التوزيع في الطابق الأرضي من بناية تبعد عن المركز الرئيسي نحو مئة متر وعلى زاوية الشارع ذاته، فاتفقنا على الإجتماع هناك بعد أيام.
حضر الإجتماع أقل من عشرة أشخاص، ومن رؤساء الدوائر أحمد شاهين وأنا فقط. سألت صبري:
- أين فيصل حوراني ومحمد النصر؟
أجاب:
- فيصل لم يعد معنا. كان مسافراً خارج لبنان، وعندما عاد أوقفه أمن عام المطار ومنعه من الدخول، فعاد من حيث أتى. أمّا محمد، فلم يظهر بعد الحادث، ويبدو أنه معتكف في منزله.
ثمّ سألني أن أتولّى بعض مهامهما إن أمكن. قلت:
- لا عليك، سأتولّى كل مهامهما: "شؤون فلسطينية"، والطباعة، بالإضافة الى "اليوميات الفلسطينية".
واتفقنا على ذلك. غير أن ألأمور انقلبت، في اللحظات التالية، رأساً على عقب. فقبل فض الإجتماع، دهمت المكان قوّة مسلّحة من الجيش اللبناني، وأوقفتنا جميعاً، أيادينا مرفوعة ووجوهنا الى الحائط. وبعد أن فتش الجنود المكان ولم يعثروا على شيء طردونا وختموا الباب بالشمع الأحمر.
وبذلك انفرط عقدنا، ورُحِّل مركز الأبحاث الفلسطيني، نهائياً، من لبنان.

(يتبع)



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن