البطالة إبادة اجتماعية والجناة طلقاء

مصطفى مجدي الجمال
mostafagammal@yahoo.com

2017 / 3 / 12


لم تعد هذه هي مصر التي طالما عرفناها. فطوابير المتسولين تطاردك في كل مكان، حتى في المواصلات وأماكن العبادة. و تعج المقاهي والنواصي بشباب لا يعرف ماذا يفعل بحياته، أو أين يصرف طاقاته، وكل ما له علاقة بحاضره ومستقبله شديد الكآبة والقتامة. أزعم أن الأمور لم تصل إلى هذا الحد حتى في أظلم مراحل التاريخ المعاصر لوطننا.
الجميع يشكو من تغير طباع المصريين الذي عرفوا تاريخيًا بالوداعة والطيبة والمرح والتعاون وحب العمل. فالغلظة والقبح يطارداننا في الشوارع والمكاتب والمواصلات وحتى الإعلام. وما أسهل أن يستضيف التلفزيون الحكومي طبيبًا نفسيًا أو عالم اجتماع لتجود قريحته بشتى أنواع التفاسير والتباكي على تغير طباع المصريين دون أن يجرؤ واحد فقط على وضع إصبعه على الجرم أو الجرح الحقيقي وتوجيه الاتهام لمن جنوا على جيل بأكمله بأن جعلوا البطالة كابوسًا قاتلاً وحاضرًا بشكل يومي في كل أسرة.
الآباء فعلوا كل ما بوسعهم لتعليم أبنائهم، ويكاد كل شاب يقول للمجتمع: هأنا قد فعلت كل ما طلب مني، فقد تعلمت وأديت الخدمة العسكرية وتحليت بكل ألوان الصبر المر، ومع ذلك لا عمل ولا دخل، ومن ثم لا أمل على الإطلاق في مسكن أو زواج أو أطفال.
فهل بالله عليكم يمكن أن نسمي هذا بأقل من الإبادة، بالأحرى إبادة اجتماعية، لأنها هذه المرة ليست لعرق أو طائفة، وإنما لجيل بأكمله ولطبقات بأكملها. إن الحكام يسخرون سخرية سمجة من حقبة الستينيات لأن الدولة وضعت تعيين الخريجين في مقدمة أولوياتها. ويرى حكامنا في هذا خطأ اقتصاديًا، لأنه جعل الشباب لا يسعى وراء الفرص وإنما ينتظر أن تأتي إليه من أعلى، من الدولة والمجتمع.
لقد وعدونا بأن إطلاق الحريات المطلقة للقطاع الخاص ورجال الأعمال ستخلق فرص العمل، ثم تبين خداعهم الواضح، فلم تضطلع الرأسمالية المصرية بالمسئولية الاجتماعية كما زعموا، وانغمس رأسماليونا في الاستيلاء- بأثمان بخسة- على المشروعات والمقدرات التي راكمها الشعب على مدى عشرات السنين، ولم نعد نسمع بوظائف متاحة أكثر من مندوبي المبيعات والدليفري.
في كل صباح يعتصرني الألم وأنا أشاهد الألوف والألوف من الوجوه النضرة لأطفالنا وشبابنا الذاهبين إلى دور العلم، وأتساءل عن المستقبل المظلم الذي ينتظرهم ليلحقوا بجيل كامل تقريبًا من الخريجين لا يجد عملاً، أو يعمل في أعمال أقل من إعداده الدراسي بكثير.
أتصور أن أولئك الفتية والفتيات يختزنون في دواخلهم شعورًا قاتلاً بعبثية العملية التعليمية كلها، فيمارسوا على المجتمع (في البيت والمدرسة والشارع) مختلف صور السلوك العدواني، تنفيثًا للإحباط المروع الذي يعتمل داخلهم.
وحتى من يتصور أنه قد أفلت من مصيدة البطالة القاتلة واستطاع ذووه أن يوفروا له واسطة للعمل بالحكومة في وظيفة بعقد مؤقت فإن الراتب هزلي بمعنى الكلمة، حتى أنه قد يقل عن ثمن "اثنين آيس كريم" في نوادي الخاصة التي يرتادها أبناء المسئولين والأثرياء الجدد، مما يدعو الشاب إلى "فتح الدرج" لجباية احتياجاته الباقية من المواطنين أو خيانة الأمانة وإطالة اليد على العهدة. أما من قادتهم أقدامهم إلى العمل بالقطاع الخاص في المدن الجديدة فإنهم يجبرون على توقيع الاستقالة قبل استلام العمل، ويحظر عليهم تمامًا إنشاء أي تنظيم نقابي، وتفرض عليهم شروط في العمل تقارب الشروط البائسة التي كانت تفرض على العمال عند بداية الثورة الصناعية.
كأن الحكومات المتوالية تعمل بنفسها على تأجيج الصراع والأحقاد الطبقية من خلال إهمالها الجسيم في حل مشكلة البطالة، وكأنها كانت تضطلع بتوفير جيش من العمل الاحتياطي (أي جيش من العاطلين) حتى لا يقع السادة الرأسماليون تحت أي ضغط اجتماعي أو نقابي من قوة العمل.
إن البطالة هي الأم لجل الأمراض الاجتماعية (ولن أقول الملكية الخاصة نفسها حتى لا أتهم بالغلو) والمتسببون فيها أو المتهاونون في علاجها يرتكبون "أم الجرائم" في حق الأمة والمجتمع. لا تحاولوا أن تقنعونا بأن هذه الفئات السائدة من الرأسمالية المصرية راغبة أو قادرة على خلق فرص العمل لجحافل العاطلين، فهي بالأساس رأسمالية مالية وتجارية وعقارية وخدمية ومهنية لا تقوم على توظيف أعداد كبيرة من العاملين، وحتى الرأسمالية الصناعية فهي حريصة على استقدام التكنولوجيا غير كثيفة العمالة كي تريح دماغها من مشاكل التأمينات والنقابات وخلافه.
أكاد أزعم أن فئات الرأسماليين الجدد هم أكثر الناس دراية بالاحتمالات الحقيقية لوقوع انفجارات اجتماعية ضخمة، بل وقعت بالفعل أثناء وبعد 25 يناير ومازالت مستمرة بصور متنوعة لكنها تنذر بانفجارات ستخرج عن أي وهم بالسيطرة.. ومن ثم فقد زحف الأثرياء الجدد إلى مدنهم الفخمة الجديدة المسورة والتي تحميها شركات أمن خاصة، فهم لم يعودوا يطيقون رؤية وجوهنا الكالحة بفعل الأنيميا وفقر الدم، ولا نظرات الحقد الطبقي النارية في أعين المحرومين والغاضبين من الفقراء والمهمشين وحتى الفئات البينية التي تتعرض للانسحاق المطرد. ولكن ستهلك النعامة بالتأكيد مهما وضعت رأسها في الرمل!!
إن ظواهر البلطجة والمخدرات والتطرف وعصابات أطفال الشوارع والعنف المدرسي والتحرش... الخ يجب وضعها كلها في الإطار الأعم، ألا وهو حرمان القدرات المنتجة من الحق في العمل واكتساب الرزق.
كما أن الصفوة الطبقية السائدة في مصر تختلف اختلافًا كبيرًا عن الرأسمالية في أي مكان آخر. فهناك تبحث الطبقة الحاكمة عن الكفاءات والموهوبين من أبناء الطبقات المتوسطة والدنيا كي ترفعهم إلى مصافها، ومن ثم ترتقي الرأسمالية بأدائها العام والخاص من خلال هؤلاء، كما تشيع الحلم في المجتمع بإمكانية الاستفادة من فرص "الحراك الطبقي". ومن هنا أيضًا كان إدراك عبد الناصر لدور التعليم الجاد المجاني في تفعيل هذا الحراك وما يعنيه هذا من ترطيب وتأجيل الصراع الطبقي.
أما الآن فإن "الصفوة" الرأسمالية التي صنع معظمها ثرواتهم بالمحسوبية والفساد وامتطاء جهاز الدولة نفسه.. هي صفوة مغلقة، حيث يورث الطبيب أو المذيع أو من يعمل بالسلك الدبلوماسي أو القضاء أو حتى الفن والرياضة... يورث مهنته لابنه أو ابنته، بغض النظر عن الكفاءة أو الجهد أو القدرة الإبداعية. ولعل هذا من أهم أسباب تردي أداء جميع القطاعات الإنتاجية والمهنية والفنية في مصر في السنوات الأخيرة.
لن ينجو نظام أيًا كان من تفاقم كارثة البطالة وأخطارها عليه نفسه، وخاصة بطالة الإناث وأصحاب الدبلومات الفنية وخريجي الجامعات والمطرودين من المنشآت الإنتاجية والخدمية إلا بإيقاف السياسات المعادية للشعب المنتج والمملاة من صندوق النقد والبنك الدولي والمصارف الدولية والدول الكبرى والشركات العملاقة.. وهي السياسات السارية منذ تطبيق سياسات "الانفتاح الاقتصادي" التي مكنت "رجال الأعمال" من تكوين ثرواتهم المشبوهة والمسروقة بالاستيلاء على المشروعات العامة أو التلاعب بأموال البنوك الوطنية ومدخرات المواطنين، وأيضًا المؤسسات المالية الدولية التي صاغت هذه الروشتة المهلكة وكانت نتيجتها إهدار الفائض الاقتصادي في المجتمع على إنفاق ترفي واستفزازي، أو تهريبه للمضاربة في الخارج.
وكل هذا تسبب في حرمان مصر من طاقات بشرية وإنتاجية مهولة كان من الممكن أن تجعلها كتفًا بكتف إلى جوار الهند مثلاً، ولكن ماذا نفعل للجشع وقصر النظر!!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن