قصة التحولات الفجائية 5

نعيم إيليا
nilia15@gmail.com

2017 / 3 / 11

(( حضرة الكاتب المحترم راغب أبو خليل.
….............
ولقد فاجأني القرار الذي أعلنته في موقعك الخاص! ولا شك في أنه فاجأ غيري من قرائك... لا أدري! كيف هان على كاتب مقتدر مثلك أن يتخذه!؟...
وإني إذ أكتب إليك هذه الكلمات، فإنما أعبر بها عن حزني. كما أعبر بها عما في قلبي من رجاء أن تتراجع عن قرارك، وتعود إلى قرائك الذين يحبون ما تكتب، وينتفعون به...))
فهل هذا الحدث – وقد نقلته بعد حذف ثلثيه اختصاراً - يصلح أن يكون نقطة انطلاق لأحداث هذه القصة، وما هو، في الحقيقة، سوى حدث عابر لا شأن له بأزمة الكاتب؟
هل يصلح أن يكون كذلك، وهو لو قد كان حذف، ما ضرّ حذفه القصة في شيء؟
إذن فإنه ليس من العدل أن يحكم له بأنه وضع في مكانه (ببراعة) كما حكمت عليه بذلك الأستاذة رائدة التونسية. إن ما يُبتدأ به يجب أن يكون له تأثير لاحق بالأحداث التي ستليه سواء أكان هذا التأثير مباشراً أو غير مباشر. فلما كان هذا الحدث، لا تأثير له ألبتة فيما وليه منها، وجب الإقرار بأنه لم يوضع (ببراعة) في مكانه.
إن الزحلاوي إذ جعل الرسالة نقطة البداية، أردى بذلك عنصرَ المفاجأة، وأردى معه عنصر التشويق. فما عسى أن يشوق القارئ بعد، ويهِقَ فضولَه، وقد بات القارئ يعلم بما كان يجب على الكاتب أن يخفيه عنه على سبيل التشويق فلا يظهره له إلا في إبَّانه؟
ومما يستدل به على أنه لم يوضع في المكان الذي كان يجب أن يوضع فيه، أن بينه وبين الحدث الذي يليه مباشرة، فجوة عميقة سيقف وعيُ القارئ المتذوق أمامها حائراً متلبكاً لا يدري كيف يعبرها عبوراً سهلاً زلقاً مريحاً. وأنا أنقل للقارئ جزءاً من هذا الحدث – وقد كان في رأيي أحق الأحداث بأن يبتدأ به - كي يعاين دليلي عن كثب:
(( نهار بارد قَرٌّ. غيوم بيضٌ رمادية متلبِّثة بطبقة الجو العليا. غيوم تنبئ بسقوط الثلج. لا يحسّ بالبرد، وهو في الطريق إلى مسكنه بعد انصرافه من عمله. في ذهنه حرارةٌ تتأجّجُ. حرارة ذهنه تجهض محاولات البرد عن اختراق جوهره الملتف بمعطف لم يكن ثقيلاً.
دخل... جسده رضيض. استلقى على أريكته، على ظهره، مسنداً عنقه إلى حشية التصقت بذراعها وعلَتها، وراح يواصل التفكير في محنته الطارئة.
لم يكن الكاتب راغب أبو خليل متفرِّغاً للتأليف، منقطعاً إليه كل الانقطاع. فبعد وفاة زوجته (ر) وكانت موظفة بدرجة متقدمة في دائرة البريد، ألفى نفسه مرغماً على أن يزاول عملاً آخر إلى جانب التأليف.
تولى وظيفة في إحدى دوائر الشؤون الاجتماعية التابعة لبلدية حَيِّهِ. يبدأ دوامه في الساعة الثامنة والنصف صباحاً، وينتهي في السادسة عشرة. فإذا أُضيفت إلى ساعات دوامه الفعلي ساعةٌ تسبق خروجه إلى العمل ينفقها في الاستعداد للخروج إليه؛ وساعةٌ أخرى ينفقها في الطريق ذهاباً وإياباً بوسائط النقل العامة؛ أضحى مجموع ساعات غيابه عن البيت عشر ساعات. وهذا وقت مديد مرهق، كان حريَّاً به أن ينغِّص عليه فيصرفه عن التأليف مدى الحياة. ولكن شغفه بالتأليف، سيذلل بنجاح هذه العقبة المثبطة الكأداء.
فرض راغب على نفسه، منذ اليوم الذي ابتدأ فيه عمله في الدائرة، فرضاً لا يتخلَّله لينٌ أو تقصير.. فرض على نفسه أن يجلس إلى طاولته، وينكبَّ على التأليف، من ساعة وصوله إلى البيت، وحتى موعد رقاده، لا يقوم إلا إذا أحوجته الضرورة القاهرة التي لا ترد. شعاره: “في سبيل الإبداع، تعذُب التضحية” وكان راغب يرى تضحيته تكاد تماثل تضحية المتأله يلوي عن لذات الدنيا بغية الارتقاء إلى غاية خالدة؛ وقد كان يراها حيناً كتضحية والده الذي ناضل الظلم في وطنه القديم وقضى في زنزانة التعذيب؛ فتسيل في عقله غبطة تمازجها حماسة رائقة. وربما استشعر منها شيئاً من الفخر يلهمه الإيمانَ بأنه ما جاء إلى الدنيا عبثاً؛ وإنما جاء ليطبع بَصْمتَه المتميزة على لوحٍ من الحجر تحت شمس الوجود الوارفة.
تنكَّب راغبٌ عن كل نشاط له أن يؤخره ولو ساعة، ولو نصف ساعة، ولو ربع ساعة، عن أداء واجبه الإبداعي، ما عدا صداقته لأحمّ أصدقائه؛ صديقه (ن) فإنه سيحتفظ بها؛ لتكون متنفسه الوحيد.. لتكون نشاطه الاجتماعي الأوحد خارج دائرة عمله الوظيفي والإبداعي. ولقد خصّها بسويعاتٍ من نهار يوم السبت من كل أسبوع، يجتمع فيها إليه في مطعم بوكيت على طبق آسيوي ساخن، وكأس من الخمر، وحديث يتناقلان خلاله أخباراً مبعثرة أو منتظمة، مقتضبة أو مفصلة من حياتهما اليومية أو من الحياة العامة الدائرة حولهما في صخب وجلجلة... وكان من شدة التزامه بواجبه الإبداعي؛ أن ألغى فكرة أن تكون له زوجة أو صديقة خوف أن تلتهم الزوجة الجديدة أو الصديقة وقته المكرس للإبداع. فأما شوقه الطبيعي إلى النساء، فسيطفئه بتعطيل خياله من استحضار مفاتنهنّ، متحصناً من غوايتهنَّ خلف ذكريات حبّه الباقي لزوجته الراحلة.
ولكنه اليوم تباغته ريبة في عقم تضحياته. ريبة قارضة حارقة شريرة، تسؤّل له دون تقديم وتمهيد عبثَ المحاولات التي كان يبذلها علَّه ينقش بها آثاره على لوح من الحجر تحت شمس الوجود الوارفة.. تسوّل له أنه كاتب فاشل. وهل ثمة ما هو أدعى إلى القنوط من أنْ تسول له أنه كاتب فَشِل مخذول عن الابتكار، عاجز عن مجاراة أهل الإبداع، متطفّل على موائد الآداب، من بعد أن كان يختال في هدب الزهو متوهّماً أنه كاتب له منصبٌ بين الكتاب؟
على باب المخزن الذي اعتاد أن يبتاع منه حاجاته إذ ينصرف من دوامه، حدث اليوم أن باغتته تلك الريبة الدهواء؛ فأرعدته، خضّت كيانه، زمجرت في خاطره حتى لتتجمّد خطواته أمام المخزن، فيكاد رجلٌ يغذُّ في سيره أن يصطدم به، وعجوز تتوكأ على دراجة تشكو وقوفه في طريقها، وترجوه بلطف أن يفسح لها.
حاول راغب أن أن يلهو عنها، عن الريبة الدهواء. دخل المخزن. جال فيه. ولكنّ جولته فيه لم تغنِ نقيراً. ظلّت الريبة تغتلي في ذهنه حتى إنه لينسى وهو يغادر المخزن حاجاته التي ابتاعها داخل سلّة الشراء. ترى ألم يسمع، وهو يتجه نحو باب الخروج، صوتاً من ورائه ينبّهه إليها؟ ربما، غير أنه لم يكن في حال تسمح له أن يدرك أنه كان المعنيَّ بنداء التنبيه...)).

وفجأة …!
وفجأة دوى في أذني انفجار عنيف، عنيف ضربني ضربة جفلتني حتى كدت أسقط على الأرض من مقعدي. كان انفجاراً كلمح البصر لم يدم – إن صدق وهمي - أطول من ثانيتين، ثم ساد سكون، صمت مريب. بذهول بإعياء بوجوف بدأت أتلفَّت حولي، ما إن ثبت إلى وعيي. العرق يتفصد مني، قلبي لم تسكن دقاته. ولكني لا أرى أثراً لانفجار من حولي. أين وقع الانفجار؟
أتفحص الموجودات داخل الغرفة. كل الموجودات على حالها ما مسها طارئ، لا شيء في غرفتي تزعزع بانفجار. كل شيء داخلها في مستقره كما كان. أتعجب! ما هذا الذي دوى إذاً في مسمعي؟ أين تراه وقع؟ ورأيت النافذة مشرعة، وكأساً من عصير البرتقال على طاولتي. فكرت: لا بد أن تكون (لينا) زوجتي دخلت، ولم أحس بها وهي تدخل فتضع كأس العصير إلى جانبي، وتفتح النافذة.
عزمت على النهوض. نهضت على ساقين أثقلهما احتباس الدم. شقتنا في الطابق الثالث، تطل على الحديقة العامة (المشتل) وعلى ساحة سعد الله الجابري. أجلت نظري من النافذة. القمر محتجب. الحديقة غارقة في الظلمة ما عدا تمثال أبي فراس الحمداني في مدخلها. حلب في بداية الصيف. ساحة الجابري إلى يسار الحديقة مكسوة بأصفر من الضوء قاتم، ولكنها خالية من الإنس، من العابرين في وقت لم يحدث قط أن خلت منهم. مبنى البريد خلف الساحة يغط في حلم بعيد على وسادة من مصابيح النيون. أنظر إلى ساعتي.. التاسعة والنصف، ما زلنا في أول الليل. شارعنا من الفندق السياحي إلى المصرف التجاري وبداية شارع بغداد، مقفر صامت ولا الدومري، في ساعةلم يشهد شارعنا فيها قط مثل هذا الإقفار العجيب والصمت المريب. ولكني – ولا أدري السبب - لا أجد في نفسي رغبة في الاكتراث بكل ذلك. عدت إلى مكاني وقد أفرخ روعي. جلست، تناولت كأس العصير، ورفعته إلى شفتي الجافة.
أتجاهل حدث الانفجار. ربما كان ولد من أولاد جارنا برهان علُّوش في الشقة المقابلة لشقتنا فجَّر لعبة نارية في الرَّدهة الفاصلة بيننا. أسترد إدراكي أن لي واجباً.. أعي أن عليّ أن أتمَّ مقالتي. مقالتي في نهايتها. لم يبق لي إلا القليل، وأنجز مهمتي وأستريح. حركة الزحلاوي الدورانية حول محاور: السعادة، الثلج، العري في قصته، حظيت بعناية السيدة فاتن بسيوني أستاذة الأدب الحديث في جامعة رمسيس الأول. ليس لي بد من مناقشتها. أهمُّ بمناقشتها. أحاول أن أناقشها، أحاول... ولكن أصابعي لا تستجيب لمحاولاتي. تباً! وأبصق حنقي على أصابعي. أتخذلني أصابعي؟ أين بختي بها؟ كيف أمست أصابعي وكأنها منطق الحَرِد متصلبة لا تطاوعني؟ وأتذلل إليها، أحاول عبثاً أن أسترضيها. أيأس!
الأستاذ بهيج كويفاتي يرقبني بعينين منتفختين من معان لست أدركها: الغضب؟ الضراعة؟ التوسل؟ الحث؟ الأسف؟ خيبة الأمل؟ لست أدري! أسمعه يتمتم بكلمات ممتقعة ربما كانت على معنى: „ لا تهن” ربما. ولكني أحس بالاختناق. لحظة واختفى وجه الأستاذ بهيج من مرآة الوجود. اختفى فنهضت. ورحت أذرع لدقائق أرض غرفتي. يمناي تضغط على ذقني، تشد بعصبية شعرات عثنوني. أطارد إلهاماً فرّ من بين أصابعي.
ويراودني أن أستروح عبق الليل على رصيف الحديقة، لعل أصابعي تلين بندىً من الإلهام! دفعت الباب. لفحت أذني ضجة صادرة عن التلفزيون. لينا زوجتي مرتدية غلالة نومها، تتابع بانتباه مركَّز حلقة من برنامجها المفضل (سوبر ستار) لم تكن لينا مضطجعة، كانت جالسة على حافة الديوانة في هيئة المتوثب. حقائب السفر محزومة في الزاوية. قالت في غضب حين أحست بوجودي: „ مروى غادرت البرنامج!“ مروى مغنيتها المفضلة، كانت تراهن على فوزها. رمقتها طويلاً وأنا واجم.لم أفهم معنى أن تغضب لهذه المروى، لم أفهم لماذا غادرت مروى البرنامج. أدرت لها ظهري، اتجهت إلى باب الشقة. سمعتها، وأنا أضع قدمي في حذائي، ويدي على مقبض الباب، تهتف بي: „ إلى أين أنت ذاهب؟ لا تتأخر، أتسمعني؟ اغسل وجهك بماء بارد قبل أن تخرج” قلت في نفسي متسائلاً في حيرة : ما معنى أن أغسل وجهي بماء بارد قبل أن أخرج؟
رددت الباب خلفي. أضاء النور الردهة، لم أضئه أنا، أُضيء. أصغيت إلى وقع خطوات موزونة تصعد الدرج، تهبط من الدرج. تابعت النزول. رأيت ظهر الدكتور جوزيف خَوَّام يغيب وراء باب شقته في الطابق الثاني. وما لبث النور أن انطفأ. تحرك ساعدي، امتد للضغط على زر الإنارة، ولكن يداً سبقت يدي إلى إضاءته. أضاء النور ثانية. غير أني في هذه المرة لم أسمع ولا نأمة. بلغت قدمي ردهة الطابق الأول. كانت جارتنا الشابة العزباء ديالا حلاق واقفة على الباب في وضعية المنتظر. وجهها صبوح مشرق، ترتدي بلوزة صفراء بلا أكمام، وتنورة بنية قصيرة ترتفع كثيراً عن ركبتيها، شعرها الأصفر منسرح على كتفيها.
مساء الخير أستاذ سليم -
- مساء الخير ديالا
ديالا ابنة السيدة لورا زوجة الوجيه الحلبي المعروف المتوفى اسكندر حلاق، مالكة العمارة. الأم لورا هي فينوس الشهيرة. فينوس، لقبها منحه إياها مثقفو حي العزيزية بجدارة. ولصق بها اللقب، شاع على ألسنة الناس، حتى أنسي اسمها. حمامة صاعقة الجمال كانت فينوس! وما زال شيء لا يستهان به من مخايل ذاك الجمال الصاعق عابقاً بطلعتها رغم تقدمها في العمر! لا يعرفها حي العزيزية وحسب، تعرفها أحياء حلب الأخرى أيضاً: حي السليمانية، السبيل، الجديدة، الميدان، محطة بغداد، حي السريان، وربما حي سيف الدولة. وتعرفها الأسواق: سوق التلل، المنشية، باب الفرج، القلعة، سوق المدينة العريق. وتعرف فينوس مناطق أبعد من حلب: صلنفة، رأس البسيط، كَسَب، جزيرة أرواد، صافيتا، جبلة، مشتى الحلو، دريكيش، مرمريتا...
الأم لورا ليست حلبية الأصل. أسرتها مهاجرة من اسكندرونة من اللواء السليب. والدتها خاج خاتون فيكتوريا (فيكو) أرمنية لم أرها. ولم أر والدها حنا الانطاكي صانع الأقفال، وهو سوري قديم (سرياني) من مدينة أنطاكية. ورثت ديالا جمال أمها. لها ثلاثة أخوة مقيمين في باريس، وأخت متزوجة من مغترب لبناني مقيم في مونتريال.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن