ليس رغماً عن التاريخ

سعود قبيلات
Qubailat@yahoo.com

2017 / 2 / 26



انطلقت، ظُهْرَ يوم الجمعة الماضي، مسيرتان، في عمَّان، ضدّ السياسات الليبراليَّة المتوحِّشة للحكومة الأردنيَّة.
الأولى، انطلقت مِنْ أمام مجمّع النقابات المهنيّة، وشاركتْ فيها القوى والأحزاب الوطنيّة والتقدميّة الأردنيّة.
والثانية، انطلقت، مِنْ أمام الجامع الحسينيّ، وقد نظَّمها «الإخوان المسلمون»، وشارك فيها – إلى جانبهم – بعضُ مَنْ تعوّدوا (لأمرٍ في نفس يعقوب) أنْ لا يجدوا أنفسهم إلا إذا ساروا تحت لواء «الإخوان المسلمين».
وبالنسبة لكاتب هذه السطور، فإنَّه قد دعا كلَّ مَنْ يعارضون سياسات الحكومة إلى المشاركة في المسيرة الأولى؛ أي مسيرة الأحزاب والقوى الوطنيّة والتقدّميّة.. وليس مسيرة «الإخوان».
لماذا؟
ليس فقط بسبب الخلاف السياسيّ مع «الإخوان»؛ لكن، أيضاً، لأنَّ السياسة الاقتصاديَّة التي يتبنَّاها «الإخوان» لا تختلف في جوهرها عن السياسات الاقتصاديّة الليبراليّة المتوحّشة التي تتَّبعها الحكومة؟
«الإخوان»، في العادة، يتجنّبون تقديم أيّ برنامج سياسيّ اجتماعيّ اقتصاديّ واضح يعبِّر عن موقفهم الحقيقيّ. والمرّة الوحيدة، التي حاولوا فيها ذلك، كانت عندما أرسلوا قبل حوالي سنتين رسالة إلى الحكومة لخَّصوا فيها موقفهم من السياسة الاقتصاديَّة. فكان جوهر موقفهم ذاك يمثِّل أكثر أصناف الليبراليّة توحّشاً.
ولا ننسى، أيضاً، أنَّهم عندما حكموا مصر وتونس، طبَّقوا كلّ وصفات صندوق النقد الدوليّ المعروفة، وساروا في الطريق نفسه الذي كانت تسير فيه الحكومات التي سبقتهم.. مع فارق أنَّهم سمّوا ذلك اقتصاداً «إسلاميّاً»!
وإذا كان أنصار «الإخوان» يرون أنَّنا مخطئين، فليقولوا لنا، إذاً، ما هو برنامجهم الاقتصاديّ الاجتماعيّ.
لقد كان جوهر العمليَّة المعقَّدة التي وضعت «الإخوان المسلمين» (والحركات الوهَّابيَّة، عموماً)، ابتداء مِنْ سبعينيَّات القرن الماضي، في واجهة الحياة السياسيَّة العربيَّة، بأموال نفطيَّة هائلة، هو – كما أشار كاتب هذه السطور مراراً – السعي لخلق صيغة «بروتستنتيَّة» إسلاميَّة تركب على مسنَّنات الرأسماليَّة المتوحِّشة وتدور معها.
نعم، مثلما تمَّ تهويد المسيحيَّة الغربيَّة في القرون الماضية، بربطها بالعهد القديم، عبر البروتستنتيَّة، جرى ويجري، اليوم، العمل لخلق صيغة إسلاميَّة مماثلة.. ترتبط (عمليّاً وبغضّ النظر عن كلّ الادِّعاءات والمزاعم المغايرة) بمفاهيم العهد القديم وقيمه. والسبب هو أنَّ اليهوديَّة هي العقيدة الدينيَّة التي تملك تبريراً قيميّاً قدسيّاً راسخاً للربويَّة الرأسماليَّة.
الإسلاميّون الوهَّابيّون هم رأس حربة هذا المشروع، في العالم العربيّ والإسلاميّ، وقد ساروا فيه حتَّى نهاياته؛ فأسموا الناتج الربويّ للرأسماليَّة ربحاً، وأسموا العمليَّة التي تنتج الربا مرابحة (هذي أذني.. وهذي أذني؛ على رأي المثل الشعبيّ)، وأسموا الاقتصاد الرأسماليّ (بأكثر تجلِّياته توحّشاً) اقتصاداً إسلاميّاً. كما أنَّهم تبنّوا النظرة التوراتيَّة المشوّهة، نفسها، إلى حضارات المنطقة القديمة (حضارات سوريَّة الطبيعيَّة، وبلاد ما بين النهرين، وحضارة مصر الفرعونيَّة). وهكذا، فهم يقيّمون تلك الحضارات العظيمة بالاستناد إلى الروايات الزائفة التي أنتجتها عُقَدُ النقص المتأصِّلة لدى قبيلة مترحّلة (هي قبيلة العبرانيين).. تجاه تلك الحضارات.
في كتابه «المسألة اليهوديَّة»، شخَّص ماركس العلاقة بين الرأسماليَّة وبين اليهوديَّة بدقَّة وعمق شديدين؛ فقال: «لنتأمَّل اليهوديّ الدنيويّ الواقعيّ، ليس يهوديَّ السبت كما يفعل باور، وإنَّما اليهوديّ العاديّ. لن نبحث عن سرّ اليهوديّ في دينه وإنَّما عن سرّ الدين في اليهوديّ الواقعيّ. ما هو الأساس الدنيويّ لليهوديَّة؟ الحاجة العمليَّة، المنفعة الخاصَّة. ما هي العبادة الدنيويَّة؟ التجارة. ما هو إلهه الدنيويّ؟ المال».
ثمَّ خلص إلى القول: «لقد بقيتْ اليهوديَّة ليس رغماً عن التاريخ وإنَّما مِنْ خلال التاريخ: فالمجتمع البرجوازيّ يولِّد مِنْ أحشائه الخاصَّة اليهود دون انقطاع». ثمَّ استنتج قائلاً: «حسناً! سيكون التحرّر من التجارة والمال، أي من اليهوديَّة العمليَّة الواقعيَّة، تحرير عصرنا نفسه».
وهكذا، فبينما استنتج بعض «الإسلاميين» المستنيرين، في الماضي القريب، مِنْ قراءته للنصّ الدينيّ، أنَّ الحلول الاقتصاديَّة الاشتراكيَّة هي الأكثر عدلاً وإنسانيَّة، وأنَّها – لهذا السبب، ولارتباطها بمسألة التحرّر الوطنيّ أيضاً – هي الأقرب لما هو برأيه «الاقتصاد الإسلاميّ»؛ فإنَّ البعض الآخر من «الإسلاميين» (في نهجه العمليّ «الدنيويّ الواقعيّ».. وبغضّ النظر عن ادِّعاءاته ومزاعمه الكلاميَّة الإنشائيَّة) قد فهم من النصّ الدينيّ، نفسه، أنَّه يدعم حريَّةَ رأس المال ومصالح الرأسماليين، على حساب العمّال والفقراء والمُستَغلّين، فجاءت مواصفات «الاقتصاد الإسلاميّ»، كما تبنَّاه، مطابقة لمواصفات أكثر نماذج الاقتصاد الرأسماليّ توحّشاً؛ أهمّ مرتكزاته هي النظر إلى الملكيَّة الخاصَّة بوصفها حقّاً مقدّساً، وإلى حبّ التملّك بوصفه فطرةً ربَّانيَّة خالصة، وإلى التجارة بوصفها نشاطاً اقتصاديّاً مباركاً، وفائضَ قيمة العمل بوصفه «حلالاً» للرأسماليين لا يشكِّك به إلا جاهل أو ناكر لتعاليم الدين، وحريَّةَ رأس المال (والسوق) وما ينجم عنها مِنْ تمايز طبقيّ وظلمٍ اجتماعيّ بوصفها قدراً ربَّانيّاً لا رادَّ له.. ولكن يجب التخفيف (التخفيف فقط) مِنْ آثارها المأساويَّة بوساطة أعمال الإحسان والتصدّق وما إلى ذلك.
وهذا بالضبط هو سرّ العلاقة المديدة بين المراكز الرأسماليَّة الدوليَّة وبين التيَّارات الوهَّابيَّة، بمختلف ألوانها (ومِنْ ضمنها «الإخوان»)، وهو الذي جعل الثانية توفِّر للأولى، طوال عقود، أكبر احتياطيّ «جاهز غبّ الطلب» من المقاتلين المتحمِّسين لخوض حروبها في كلّ مكانٍ من العالم؛ بما يتجاوز دور «إسرائيل» كمركز أمنيّ متقدِّم للإمبرياليَّة العالميَّة في المنطقة.
بالخلاصة، يجب أنْ لا نحكم على الناس مِنْ ظاهر معتقداتهم الدينيَّة (أو سواها)؛ وإنَّما من المحتوى الطبقيّ والاجتماعيّ (وبالتالي، السياسيّ) لتلك المعتقدات. أي يجب أنْ لا «نبحث عن سرّ (المتديِّن) في دينه، وإنَّما عن سرّ الدين في (المتديِّن) الواقعيّ».
وختاماً، فإنَّ استدعاء الماضي هو أمر لا تاريخيّ، وبالتالي، فهو غير ممكن. ولذلك، فإنَّ ما يتمّ استدعاؤه فعلاً تحت مسمَّى الماضي، إنَّما هو مجرَّد نسخة مشوَّهة (ورثَّه) من الحاضر.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن