الإسلاميون في مصر المعاصرة

طارق المهدوي
tarek.elmahdawy@gmail.com

2017 / 2 / 14

الإسلاميون في مصر المعاصرة
طارق المهدوي
(1)
مع اتساع نطاق الثورة الصناعية في منتصف القرن السادس عشر دخل الجزء الشمالي الغربي من العالم القديم عصر الرأسمالية الذي تميز بالتوسع الإنتاجي الرامي إلى جني الأرباح، عبر مجموعة متداخلة من الحريات الاقتصادية شملت فيما شملته المنافسة التجارية وتداول السلع والخدمات والتمويل الربوي والاستثمارات وقوة العمل البشري المأجور والمواد الخام سواء في الأسواق الداخلية أو الخارجية، وباتساع الرأسمالية أفقياً وعمودياً في ذلك الجزء دخل العالم كله مع بدايات القرن التاسع عشر مرحلة الاستعمار، حيث قام الرأسماليون بتقسيم مناطق العالم ذات الاقتصاديات الأقل تطوراً فيما بينهم كأسواق لما ينتجونه من سلع وخدمات استهلاكية مكتملة الصنع، ولما يستغلونه من قوة عمل بشري ومواد خام رخيصة وما يستثمرونه من أموال سريعة الدوران وكثيفة الأرباح، ولما يرغبون في إبعاده جغرافياً عن ديارهم من أنشطة اقتصادية ضارة بسلامة البيئة المحيطة، وقد صاحب ذلك التقسيم تنافس محموم من أجل السيطرة على الشعوب والمجتمعات الأقل تطوراً بلغ حد الصدام العسكري الدامي عدة مرات بين أولئك الرأسماليين الذين كانوا يحكمون مختلف الدول الاستعمارية، إلا أن "بريطانيا" هي التي نجحت في احتلال قمة السلم الاستعماري العالمي واحتفظت وحدها بالصدارة لأكثر من قرن ونصف زمني، اعتماداً على مناوراتها السياسية السامة المعروفة باسم "فَرَّقْ تَسُدْ" كأسلوب لإدارة مستعمراتها وإضعاف خصومها من الاستعماريين الآخرين الذين كانت من بينهم الإمبراطورية العثمانية، حيث نجح البريطانيون في التفريق بين مكوناتها القومية ومنها العرب الذين تم لاحقاً التفريق بين شعوبهم ومنهم الشعب المصري، الذي وقع عام 1882 في براثن الاستعمار البريطاني المباشر ليتعرض بعد ذلك إلى التفريق بين طوائفه ومنها الطائفة السنية، التي جرى تفريقها عبر عدة مناورات سامة كان من بينها قيام وزارة الأسطول البحري البريطانية بإنشاء جماعة "الإخوان المسلمين" في مدينة "الإسماعيلية" ذات الكثافة العددية الأعلى لقوات الاستعمار البريطاني بالخارج آنذاك، لاسيما وقد تم إنشاء الجماعة عام 1928 عقب أربعة أعوام فقط من نجاح المناورات البريطانية السامة في القضاء نهائياً على الإمبراطورية العثمانية، بدفع مركزها التركي إلى الاستغناء عن أطرافها العربية والفارسية والكردية والحبشية وغيرها تاركاً تلك الأطراف للوقوع كفرائس سهلة في براثن "بريطانيا" وحلفائها، مقابل وعود لم تتحقق حتى الآن بانضمام "تركيا" إلى الأسرة الأوربية وبالتالي للجزء الشمالي الغربي من العالم، ولم تكن الرعاية البريطانية لنشأة جماعة "الإخوان المسلمين" خافية على أحد الأمر الذي يؤكده "مارك كورتيس" زميل المعهد الملكي البريطاني للعلاقات الدولية على صفحات كتابه الشهير "شئون سرية في التواطؤ البريطاني مع الإسلام الأصولي"، حتى أن "حسن البنا" مؤسس الجماعة نفسه أشار بزهو في كتابه الشهير "مذكرات الدعوة والداعية" إلى مبلغ الخمسمائة جنيه الذي تلقاه بمناسبة إنشاء الجماعة كتبرع علني من شركة "قناة السويس" التابعة لوزارة الأسطول البحري الاستعمارية البريطانية، دون أن يمنعه ذلك من قبول تبرع مالي آخر قيمته ألفي جنيه سلمه إياه بعد عدة أعوام مدير فرع القاهرة بوكالة الأنباء الألمانية التابعة لجهاز استخبارات ألمانيا النازية، كما ذكر الصحفي الكندي "إين جونسون" على صفحات كتابه الشهير "مسجد في ميونيخ"، وعلى مدى العقد الزمني التالي بكامله تخفى الإخوان المسلمون خلف ستار النشاط الدعوي الديني، كمناورة أولى وفرت لهم فرصة التمدد تحت جلد المجتمع والدولة لتحقيق الاتساع الأفقي والعمودي بعيداً عن أنظار القوى السياسية المتصارعة فيما بينها، ثم حل عام 1937 الذي أتى بحاكم شاب جديد لمصر هو الملك "فاروق" فسعى الإخوان لمناورتهم الثانية عليه بإعلان تأييدهم لحكمه، مما اضطرهم للكشف عن وجههم السياسي الصريح في العام التالي 1938، وذلك بإصدار مجلة "النذير" كمنبر يعبر عنهم وبعقد مؤتمرهم التنظيمي العام الخامس حيث أعلن "حسن البنا" الخط السياسي لجماعته، والمتمثل في "السعي لاستخلاص الحكم من أيدي القائمين به إذا رفضوا السير على تعاليم الإسلام مع رفض العمل الثوري والبرلماني والحزبي كأساليب معروفة لاستخلاص الحكم"، وهكذا أبقى "البنا" أسلوباً وحيداً يستخلص به الإخوان الحكم من أيدي القائمين عليه وهو المناورات السياسية المحسوبة بدقة لتؤدي إلى سحب البساط تدريجياً من تحت أقدام المجتمع ثم الدولة انتظاراً لفرصة تسمح بتنفيذ انقلاب ناجح، وقد التزم الإخوان بأسلوب المناورات السياسية طوال عمرهم الزمني البالغ ثمانية وثمانين عاماً، حيث فشلت بعض مناوراتهم فشلاً ذريعاً أوقعهم في أزمات كبرى متتالية على أيدي حكام "مصر" المتعاقبين، مثلما حدث مع الملك "فاروق" عام 1948 ثم مع الرؤساء "جمال عبدالناصر" عامي 1954 و1965 و"أنور السادات" عام 1981 و"حسني مبارك" عام 1995 وأخيراً "عبدالفتاح السيسي" عام 2013، بينما نجحت بعض مناوراتهم الأخرى بتفوق حقق لهم مكاسب كبرى متتالية إلا أن ذلك النجاح كان على حساب غيرهم من المصريين، الذين راحوا ضحايا للمناورات الإخوانية السياسية سواء كانت ناجحة أو فاشلة ليعاني المصريون الأَمَرَّين من هذه وتلك معاً!!.
(2)
أفرزت منظومة المناورات السياسية السامة للاستعمار البريطاني وحلفائه داخل المعسكر الرأسمالي الغربي والمعروفة باسم "فَرَّقْ تَسُدْ" عدة خطط لتقسيم العالمين العربي والإسلامي، ابتداءً بمعاهدة "سايكس بيكو" عام 1916 مروراً بإعلانات "جابوتسكي" عام 1937 و"بنجوري" عام 1957، وانتهاءً بمشروع رجل المخابرات البريطانية "برنارد لويس" الذي نشرته مجلة وزارة الدفاع الأمريكية عام 1980، ليحصل بسببه "لويس" عام 1982 على جنسية الولايات المتحدة الأمريكية حيث عرض مشروعه أمام الكونجرس الذي أقره في جلسة سرية عام 1983 كإحدى الاستراتيجيات المستقبلية الأمريكية القابلة للتنفيذ بالشرق الأوسط، ويقوم مشروع "برنارد لويس" على أساس فكرة شيطانية هي أن حماية مصالح المعسكر الرأسمالي الغربي الذي أصبح تحت القيادة الأمريكية من أية أخطار عربية أو إسلامية في المستقبل، تحتم تفكيك الوحدة البنائية الداخلية لكل الدول العربية والإسلامية إلى مجموعة من الدويلات والكانتونات العرقية أو العشائرية أو الدينية أو الطائفية أو المذهبية، مع دفع تلك الكيانات المجتزأة لعدة حروب بينية وصولاً إلى التدمير الشامل والمتبادل لبعضها البعض، وبموجب مشروع "برنارد لويس" فإن "مصر" يجب أن يتم تقسيمها إلى أربع دويلات، إحداها "بدوية" عاصمتها "العريش" وتستحوذ على كل شبه جزيرة سيناء حتى الضفة الشرقية لقناة السويس وتكون تابعة لإسرائيل، والدولة الثانية "قبطية" عاصمتها "الإسكندرية" وتستحوذ على الجزء الشمالي الغربي لمصر المتاخم للبحر المتوسط والحدود الليبية والذي يمتد جنوباً حتى خط عرض 26 وشرقاً حتى خط طول 30، أما الدولة الثالثة فهي "نوبية" عاصمتها "أسوان" وتستحوذ على الجزء الجنوبي لمصر المتاخم للحدود السودانية من أقصى شرقه إلى أقصى غربه لينتهي شمالاً عند خط عرض 26 ويمتد جنوباً ليضم إقليم النوبة السوداني، ويتبقى إقليم جغرافي ضيق للدولة الرابعة والأخيرة وهي "مصر العربية الإسلامية" وعاصمتها "القاهرة" وتستحوذ على الجزء الذي يحده البحر المتوسط شمالاً والبحر الأحمر شرقاً وخط عرض 26 جنوباً وخط طول 30 غرباً، وكان إقرار الكونجرس الأمريكي في عام 1983 لمشروع "برنارد لويس" التفكيكي الشيطاني هو بمثابة إعلان وراثة "واشنطون" رسمياً لأسلوب المناورات السياسية البريطانية السامة المعروفة باسم "فَرَّقْ تَسُدْ" باعتباره الأكثر تحقيقاً للمصالح الأمريكية في العالمين العربي والإسلامي بما فيها تلك المتعلقة بضمان التفوق الإقليمي لوكيلها الإسرائيلي اقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، إلى الدرجة التي تكفل له استمرار التوسع والهيمنة على حساب أراضي جيرانه وسيادتهم، ورغم أن الوراثة الأمريكية للأسلوب البريطاني المناور قد استبدلت في بدايتها بعض أدواته التنفيذية بأخرى من ابتكارها، إلا أنها اضطرت لاحقاً للعودة إلى استخدام أدوات المناورات الأصلية تحت ضغط استشعارها بخطورة التحدي الاقتصادي العالمي الذي أصبحت "الصين" تشكله عقب انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1992، هذه الأدوات التي شملت فيما شملته قيادات وحكومات وجيوش وأحزاب وجماعات كان من بينها جماعة "الإخوان المسلمين" إلى جانب بعض القيادات العليا لعدة مؤسسات رسمية في مصر!!.
(3)
شهد منتصف سبعينيات القرن العشرين إحدى المناورات الناجحة للإخوان المسلمين باستخدامهم لوزير الاستخبارات السعودي "كمال أدهم" كوسيط ضاغط على الرئيس "أنور السادات" الذي استجاب للوساطة وعقد صفقة مصالح سياسية متبادلة بين الأطراف الثلاثة، تقضي بنودها بالإفراج عن معتقلي الإخوان وإعادتهم لوظائفهم ورفع أسمائهم من قوائم منع السفر وترقب الوصول وقوائم حظر التصرف في الأموال والأملاك، إلى جانب غض الأجهزة الأمنية طرفها عن توسيعهم لأنشطتهم الميدانية في أروقة المجتمع المصري دون منحهم ترخيص قانوني بذلك، مع استمرار رفض اقترابهم العلني من المؤسسات الرسمية ذات الطابع السيادي في الدولة، مقابل دعمهم الجماهيري والإعلامي والدعوي لكافة الجهود السياسية التي يبذلها "السادات" من أجل تقليص النفوذ الديناصوري لأنصار سلفه "جمال عبدالناصر" داخل مؤسسات الدولة وأروقة المجتمع، ضمن مساعيه الرامية إلى الانفراد بالسلطة لاسيما وأن أنصار "عبدالناصر" كانوا قد حاولوا الانقلاب عليه في مايو عام 1971 عقب ستة أشهر فقط من توليه رئاسة الجمهورية، أما الإدارة السعودية التي توسطت لإنجاح تلك الصفقة فقد حصلت بموجبها على بعض المكاسب الاستثمارية، إلى جانب المكسب المعنوي المتمثل في المحو العقابي لمفردات التاريخ الناصري المعادية لعائلة "آل سعود" الحاكمة من قواميس الذاكرتين المصرية والعربية، وفي ذات الفترة كان التحاقي بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة "القاهرة" حيث كلفني أستاذ مادتي "الأبحاث السياسية النظرية" و"التدريب السياسي الميداني" بإعداد بحث عن جماعة "الإخوان المسلمين"، وهو البحث الذي حصل لاحقاً على درجة "امتياز" مع عرضه للمناقشة في ندوة مفتوحة داخل القاعة الجامعية الكبرى بالإضافة إلى نشره على نفقة الجامعة تحت عنوان "مناورات الإخوان المسلمين"، كأحد الكتيبات محدودة التوزيع التي يتم توفيرها داخل مكتبات الجامعة كمراجع أكاديمية أمام الطلاب والباحثين والمهتمين بالتثقيف السياسي، الذين كان من بينهم ناشر لبناني أعاد نشره عام 1986 في "بيروت" ككتاب واسع الانتشار عنوانه "الإخوان المسلمون على مذبح المناورة"، وفي خضم سعادتي بالنجومية الأكاديمية المفاجئة داخل أوساط أساتذة وطلاب جامعة "القاهرة" استوقفني أحد زملائي وكان أكثرهم خجلاً لدرجة أنهم يصفونه بالسير الملاصق للجدران هرباً من المشاكل، ومنحني زميلي الخجول صورة ضوئية خاصة بإعلان وظيفة خالية في شركة إنتاج إعلامي مملوكة لخاله معرباً عن استعداده لتزكيتي عند مالك الشركة حتى أحصل على تلك الوظيفة، ولما كانت أحوالي الاقتصادية حينذاك دون الصفر كثيراً باعتباري أنا وحدي المسئول عن جمع والتقاط الدخل المالي اللازم للإنفاق على سكني وطعامي ومواصلاتي واحتياجاتي المعيشية الأخرى إلى جانب متطلباتي الدراسية باهظة التكاليف، نظراً لاستمرار أبي قيد الاعتقال وأمي رهن المنفى على خلفية نشاطهما الشيوعي واستمرار اختفاء خالي الوحيد على خلفية اجتهاداته الفكرية والسياسية في مجال الدعوة الدينية، مع استمرار تنصل أعمامي الأثرياء النافذين وهروبهم من واجباتهم العائلية نحوي خوفاً على مكاسبهم المالية ومراكزهم الوظيفية المستمدة من رضا الأجهزة الأمنية عنهم، لذلك فقد دفعتني أحوالي الاقتصادية السيئة نحو شركة الإنتاج الإعلامي التي يمتلكها خال زميلي الخجول بحثاً عن فرصة العمل المعروضة، لاسيما وأن ظاهرها يتفق مع الالتزامات الأخلاقية الصارمة لشيوعي شاب مثلي بعدم الحصول على المال إلا عبر الطرق المشروعة!!.
(4)
سرعان ما اتضح لي أن التاريخ الحديث لجماعة "الإخوان المسلمين" الذي شغلتني وقائعه لتوها على الصعيد البحثي الأكاديمي يكاد يتطابق مع التاريخ المعاصر للجماعة ذاتها والذي بدأت وقائعه تشغلني من توها على الصعيد الإنساني المباشر، ذلك أن خال زميلي ومالك شركة الإنتاج الإعلامي لم يكن سوى الشيخ الثري رئيس شعبتي الإعلام والعلاقات الخارجية في جماعة الإخوان المحظورة قانوناً، والخارج لتوه من الاعتقال ضمن صفقة المصالح السياسية المتبادلة بين "السادات" والجماعة برعاية الإدارة السعودية، والذي سبق أن تردد اسمه على مسامعي خلال إعدادي لبحثي الأكاديمي عن الإخوان عدة مرات مصحوباً بغموض متعمد حول حقيقة أدواره الخفية في قيادتهم والتي كان أقربها إلى قلبه دور "الدَهَّابة" وهو اسم يطلقه المصريون على "قصاص الأثر" المتخصص في استكشاف مواقع الذهب الخام الكامنة تحت باطن الأرض أو داخل عروق الجبال، نظراً لمهاراته في فرز العناصر البشرية واستقطاب المتميز منهم داخل جماعته، وقد كشف الشيخ الثري القيادي في جماعة الإخوان المسلمين خلال لقائه الأول معي عن إلمامه بمفردات ملفي الموجود لدى أجهزة الأمن السياسي، التي كانت تلاحقني آنذاك على خلفية اتهامي بعضوية لجنتي الإعلام والعلاقات الخارجية في الحزب الشيوعي المحظور قانوناً، لذلك فقد تبادلنا وجهات النظر حول أوجه الشبه الإيجابية والسلبية بين مفهوم الكفاح المسلح في الفكر الشيوعي ومفهوم الجهاد الاستشهادي في الفكر الإسلامي، وسألني بإلحاح عن تقديري الشخصي لمدى إمكانية ظهور مجاهد استشهادي إسلامي يكون ملهماً لعموم المسلمين مثلما ألهم "أرنستو تشي جيفارا" بكفاحه المسلح عموم الشيوعيين، وعن تقديري الشخصي لمدى أهمية أن يكون ذلك المجاهد الإسلامي المنتظر شاباً حجازياً من أبناء إحدى العائلات الكبرى في شبه الجزيرة العربية حيث كان مهبط الوحي الإسلامي، أو يكون شاباً ذكياً ساعياً لتحسين أوضاع المحيطين به من المصريين الذين يشكلون حوالي نصف المسلمين العرب مثلي أنا حسبما وصفني أو يكونا الاثنان معاً، مشيراً إلى المواصفات الأخرى المطلوبة فيمن يبحث عنهما والتي ينطبق بعضها على شخصي أنا، بينما يتوافر البعض الآخر في أشخاص ظلوا افتراضيين بالنسبة لي حتى معرفتي اللاحقة بظهور الشابين السعودي "أسامة بن لادن" والمصري "أيمن الظواهري" على أرض الواقع، وقبل نهاية اللقاء قرر الشيخ الثري تعييني كمستشار لشركة الإنتاج الإعلامي التي يملكها ومنحني مبلغ خمسمائة جنيه باعتباره راتب الشهر الأول لوظيفتي الجديدة، وفي الليلة ذاتها زارني بدون موعد سابق رفاقي من قادة الحزب الشيوعي لإثارة مخاوفي تجاه الشركة، حيث وصف أحدهم أموالها بأنها تمويل خارجي وارد من التنظيم العالمي للإخوان المسلمين بهدف تجنيد الكوادر المميزة في الاتجاهات السياسية الأخرى سواء كانت إسلامية أو مدنية، للدفع بهم لاحقاً نحو تنفيذ الأنشطة ذات الخطورة الميدانية بالوكالة عن الإخوان ولصالحهم، دون أن يفوته اتهام الذي يحصل على أي نصيب من تلك الأموال بالخيانة الوطنية والطبقية، في حين أشار رفيق آخر بنبرة تهديدية إلى العواقب الوخيمة التي يقع تحت طائلتها الكادر الشيوعي عندما ينشق عن الصف، إما برفضه الانضباط التنظيمي الصارم أو بامتناعه عن تنفيذ القرارات الصادرة إليه من المستويات الحزبية الأعلى، ورغم نجاح الرفاق في ترويعي إزاء شركة الإنتاج الإعلامي مع إرهابي من تبعات إغضابهم، إلا أنهم ظلوا بصحبتي كي يصطحبوني عند حلول صباح اليوم التالي داخل السيارة الحزبية الرسمية إلى مقر الشركة حتى يضمنوا قيامي بإعادة راتبي الشهري الأول لمالكها القيادي الإخواني، الذي التقاني مبدياً تفهمه لحيرتي وارتباكي حيث تبادلنا وجهات النظر حول أوجه الشبه الإيجابية والسلبية بين مفهوم الانضباط التنظيمي الصارم في الفكر الشيوعي ومفهوم السمع والطاعة المطلقة في الفكر الإسلامي، وسألني بإلحاح عن تقديري الشخصي لمدى إمكانية ظهور أجيال جديدة تؤمن بحرية الاختلاف وتعدد الآراء والانفتاح على الآخرين، وعن تقديري الشخصي لمدى إمكانية تولي تلك الأجيال المنتظرة قيادة الفريقين الشيوعي والإسلامي في المستقبل المنظور!!.
(5)
في إطار سعيه لتقليص نفوذ أنصار سلفه "جمال عبدالناصر" قام "أنور السادات" مع انتصاف سبعينيات القرن العشرين بتفكيك الحزب الحاكم والمهيمن الذي احتكر وحده الوجود التنظيمي القانوني منذ عام 1952، كامتداد لتنظيم "الضباط الأحرار" الذي أنشأه "عبدالناصر" و"السادات" مع بعض زملائهما العسكريين في الأربعينيات، كامتداد لجمعية "الحرس الحديدي" التي سبق أن أنشأها "عزيز المصري" و"يوسف رشاد" في الثلاثينيات كفرع خارجي للحزب النازي الألماني تحت إشراف ضابط الاستخبارات الألمانية "هيربيرت هايم"، ومع استمرار لعبة تغيير أسماء المسمى الحزبي ذاته بعد قيام جمهورية الخوف الأولى عام 1952 فقد حمل الحزب الحاكم اسم "هيئة التحرير" ثم "الاتحاد القومي" ثم "الاتحاد الاشتراكي"، وهو ذلك الذي نجح "السادات" في تقسيمه إلى ثلاثة منابر لتوزيعها فيما بين العسكريين القدامى، حيث منح منبر اليسار لزميله "خالد محيي الدين" ومنبر اليمين لزميله "مصطفى كامل مراد" مبقياً منبر الوسط لنفسه وتحت رئاسته، دون أن يتوقف عن لعبة تغيير أسماء المسمى الحزبي ذاته من "منبر الوسط" إلى "حزب مصر" ثم "الحزب الوطني الديمقراطي"، الذي أعلنه "السادات" عام 1978 وظل يرأسه حتى اغتاله الإسلاميون عام 1981 ليرثه نائبه "حسني مبارك" في رئاسة الحزب، إلى أن سقطت جمهورية الخوف الأولى عام 2011 فحل القضاء المصري "الحزب الوطني الديمقراطي" عقاباً له على استمرار احتكاره لقيادة الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات الخارجية، مع استبداده بالأحزاب السياسية الأخرى ذات الوجود التنظيمي القانوني والتي حاصرها الحزب الحاكم واستخدمها كمستوعبات مغلقة على المعارضين بما فيها منبري اليسار واليمين اللذين أصبحا لاحقاً حزبي "التجمع" و"الأحرار"، وبمجرد وراثة حزب "السادات" للهيمنة الشاملة عقب تفكيك "الاتحاد الاشتراكي" في منتصف سبعينيات القرن العشرين، أصبح الالتصاق بذلك الحزب هو أقصر طرق كسب المنافع غير المستحقة لصالح الانتهازيين داخل كل الدوائر بما فيها جامعة "القاهرة"، حيث كانت أسر الأنشطة الطلابية التابعة والموالية لحزب "السادات" تحقق مكاسب مالية خيالية سواء بسبب الإعفاء من الرسوم والضرائب أو بسبب التمويل والدعم المالي والعيني لأنشطتها التي تشمل فيما تشمله الرحلات والحفلات ومعارض البيع، مثل ذلك المعرض الذي احتل بخيمته موقع كافيتيريا كلية الاقتصاد والعلوم السياسية محل جلوسي المختار مع زملائي، ليبيع أعمالاً فنية واردة كتبرع مجاني من مصلحة السجون التي ضاقت مخازنها بأعمال المساجين الفنية الرديئة لعدم وجود مشترين، وكانت المعروضات جميعها تصور أرباب الحرف المصرية التقليدية وهم يمارسونها في لوحات ورقية وقماشية وجلدية أو في تماثيل زجاجية وخشبية وطينية وحجرية، الأمر الذي منح طلاب "الإخوان المسلمين" في الجامعة فرصة لإثارة حفيظة بقية الطلاب الإسلاميين تجاه المعرض الفني بدعوى أنه يبيع للغافلين أصناماً مرسومة ومنحوتة، وبتحريض واضح منهم اصطف الطلاب الجهاديون على أحد أضلاع خيمة المعرض لتأدية صلاة جهاد سرعان ما شاركهم فيها الطلاب السلفيون باحتلالهم ضلع الخيمة الثاني لينضم إليهم طلاب الإخوان أخيراً مشكلين ضلع الحصار الثالث، أما الضلع الرابع لخيمة المعرض فقد تركه المصلون مفتوحاً لهرولة أعضاء الأسرة الطلابية الساداتية ومعهم موظفي الأمن وأفراد الحرس الجامعي هاربين من المواجهة، لأجدُني وحدي أحاول تنبيه المصلين الغاضبين إلى حقيقة أنه لا أحد في الربع الأخير للقرن العشرين يعبد أعمالاً فنية مما ينفي عنها شبهة الأصنام التي كان الجاهليون يعبدونها قبل عدة مئات من الأعوام، فأطلق كبيرهم صيحات التهليل والتكبير إيذاناً ببدء "غزوة الأصنام" حيث انقضوا في هجوم كاسح على الأعمال الفنية يفتكون بها تمزيقاً وتحطيماً، ثم استداروا لي فأوسعوني ضرباً مع سيل من السباب الذي كشف دوافعهم الانتقامية المبيتة ضدي باعتباري كاتب البحث المنشور على النطاق الأكاديمي الضيق تحت عنوان "مناورات الإخوان المسلمين"، دون أن يفوتهم إشعال النيران في خيمة المعرض قبل الرحيل، ونقلتني سيارة الإسعاف إلى عنبر الطوارئ بمستشفى الجامعة ليتسلل بين الأطباء بعض ضباط الأمن السياسي الساعين لاستكتابي بلاغاً رسمياً بالواقعة وهو ما لم يحصلوا عليه مني، الأمر الذي تسرب فوراً إلى الشيخ الثري مالك شركة الإنتاج الإعلامي والقيادي في جماعة "الإخوان المسلمين"، فقام بزيارتي في المستشفى معرباً عن استنكاره لإيذائي بالضرب والسب أثناء "غزوة الأصنام" على أيدي الطلاب الإسلاميين ذوي الحماس الزائد كما وصفهم، وترك لي قبيل مغادرته مجموعة منتقاة من المؤلفات المحظورة لكُتّاب الإسلام السياسي "حسن البنا" و"سيد قطب" و"أبوالأعلى المودودي"، مع دعوة بتكرار زيارته في مقر شركته لتبادل وجهات النظر حولها ولحصولي على اعتذارات منفذي "غزوة الأصنام"!!.
(6)
رغم أن صفقة المصالح المتبادلة بين الإخوان المسلمين و"السادات" في منتصف السبعينيات قد وفرت لهم فرصة جديدة لإعادة التمدد تحت جلد الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات الخارجية، مما سمح بتوسيع نطاق الاختراق والتسكين الخفي لخلاياهم النائمة والمتحفزة سواء داخل أعماق مؤسسات الدولة لاسيما ذات الطابع السيادي كالقضاء والجيش والأجهزة الأمنية والرقابية، أو داخل أعماق مؤسسات العلاقات الخارجية المتمثلة في السلكين الدبلوماسي والإعلامي، كما سمح أيضاً باستمرار سحبهم التدريجي للبساط من تحت أقدام المجتمع والسوق بكل الاتجاهات السياسية الموجودة فيهما، سواء كانت دينية كالصوفية والسلفية والجهادية أو كانت مدنية كالماركسية والليبرالية والقومية، إلا أن التحالف الدولي لمكافحة الوجود السوفيتي في "أفغانستان" هو الذي منح الإخوان الفرصة التاريخية الأكبر للتمدد داخلياً وخارجياً وللمناورة على كل الأطراف المحلية والإقليمية والعالمية لتحقيق هدفهم المتمثل في التمكين، فقد تولى الشيوعيون الأفغان حكم بلادهم عام 1978 وأقاموا فيها نظاماً موالياً للاتحاد السوفيتي، قائد حلف "وارسو" وزعيم المنظومة الاشتراكية العالمية الذي أرسل قوات جيشه الأحمر إلى أراضيهم لدعمهم عام 1979، ليصبح الاتحاد السوفيتي أكثر اقتراباً من مصادر النفط بالخليج العربي وأكثر تهديداً لشبكة مصالح المنظومة الرأسمالية العالمية الممثلة في حلف شمال الأطلسي المنافس بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي سارعت بإعادة إحياء التحالف الدولي القديم المعادي للشيوعية مع إعادة توزيع المهام داخله على نحو محدد يكفل مكافحة الوجود السوفيتي في "أفغانستان"، بحيث تتولى دول حلف الأطلسي القيادة والتوجيه وإنتاج الأسلحة اللازمة وتتولى دول مجلس تعاون الخليج العربي التمويل المالي، بينما تفتح "باكستان" حدودها البرية المتاخمة كقاعدة لتجميع المقاتلين وتدريبهم عسكرياً ثم إطلاقهم نحو الأراضي الأفغانية لمحاربة العدو، أما "مصر" فتوفر لتلك الحرب احتياجين متداخلين هما التبرير والتغطية الدعائية في أوساط غير الإسلاميين إلى جانب الحشد والتعبئة التحريضية في أوساط الإسلاميين، ورغم أن تلبية الاحتياج الأول قد تمت بصعوبة عبر المؤسسات الإعلامية الرسمية لاسيما قطاع الإعلام الخارجي بالهيئة العامة للاستعلامات وقطاع الإذاعات المصرية الموجهة إلى الخارج باتحاد الإذاعة والتليفزيون، نظراً لتجاوب "صفوت الشريف" الذي تَرَأَسَ المؤسستين تباعاً قبل أن يترأسهما معاً بتوليه وزارة الإعلام، إلا أن تلبية الاحتياج الثاني عبر المؤسسات الدينية الرسمية قد اصطدمت بالطابع التقليدي لمشيخة الأزهر المراوغ حيال النزاعات المسلحة المتبادلة بين المسلمين وبعضهم، الأمر الذي اضطر معه التحالف الدولي إلى الاستعانة بمكتب إرشاد جماعة "الإخوان المسلمين" لتنفيذ الاحتياج الثاني والدفع بالإسلاميين نحو الجهاد في "أفغانستان"، نزولاً عند نصائح الإدارتين البريطانية والسعودية اللتان كانتا حتى ذلك الوقت ما تزالان تحتفظان برعايتهما للجماعة وبنفوذهما داخل المنظومة الرأسمالية العالمية وحلف الأطلسي ولدى حكام "مصر" و"باكستان" ودول الخليج العربي، وهكذا تشكل الفريق المصري المشارك في الإدارة اليومية لعمليات التحالف الميدانية من أجل مكافحة الوجود السوفيتي بأفغانستان تحت رئاسة "حسني مبارك" نائب رئيس الجمهورية والمشرف على مجلس الدفاع الوطني وقائد القوات الجوية المصرية السابق، وعضوية بعض زملائه العسكريين من قادة المؤسسات الرسمية السيادية مثل "كمال حسن علي" و"عبدالحليم أبوغزالة" و"حسين سالم"، بالإضافة إلى بعض قادة جماعة "الإخوان المسلمين" مثل المرشد العام "عمر التلمساني" ونائبه "صلاح شادي" والشيخ الثري رئيس شعبتي الإعلام والعلاقات الخارجية، وبمضي الزمن مع استمرار الأنشطة العسكرية الميدانية لمكافحة الشيوعية في "أفغانستان" بمستلزماتها السياسية والتنظيمية والمالية والدعائية والتحريضية بالإضافة إلى الإمداد البشري المتواصل، حصل الإخوان على المزيد من الرعاية البريطانية والسعودية كما نجحوا في كسب ود بعض دول حلف الأطلسي مثل "تركيا" وبعض دول مجلس تعاون الخليج العربي مثل "قطر"، لاسيما وأن هؤلاء وأولئك كانوا ومازالوا يحتاجون إلى استخدام الإخوان في المكافحة الخشنة لمحاولات التمدد الشيعي ليس فقط على تخومهم اليمنية والعراقية والسورية واللبنانية ولكن أيضاً داخل حدودهم، مع استمرار احتياجهم لاستخدام الإخوان في السيطرة الناعمة على انفلاتات المعارضة الجهادية المتنامية هنا وهناك، والداعية إلى الجهاد الداخلي أولاً ضد ممارسات حكام تلك الدول والتي تصفها المعارضة بالانحراف عن قواعد الإسلام الصحيح، ولما كان "السادات" قد وافق على النصائح البريطانية والسعودية بإشراك إخوان "مصر" في التحالف الدولي كمناورة منه، بهدف استخدامهم لتدعيم سلطاته الداخلية ضد فلول الناصرية ولتحسين صورته الخارجية باختراق قرار المقاطعة العربية لنظامه عقاباً له على تصالحه المنفرد مع "إسرائيل"، فإن استشعاره بالمسعى الإخواني من أجل استخدام مشاركتهم في التحالف الدولي لتمكين أنفسهم داخلياً وخارجياً قد أقلقه فحاول عرقلته قبل أن يصل بهم إلى الصداقة مع الإدارة الأمريكية، ولقلب المائدة عليهم اعتقل "السادات" في سبتمبر 1981 أبرز قادة الإخوان وكوادرهم بمن فيهم مندوبيهم داخل الفريق المصري المشارك بالتحالف الدولي، دون إدراك منه لحجم التمكين الحقيقي الذي كانوا قد نجحوا بالفعل في تحقيقه كأمر واقع على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، لدرجة أن رعاتهم القدامى والجدد أصبحوا مستعدين للدفاع عنهم طالما استمرت أدوارهم ضد الشيوعيين والشيعة والجهاديين حتى لو اقتضى الأمر التضحية بالسادات شخصياً، وهو ما حدث بالفعل قبل مرور شهر واحد على اعتقاله للإخوان المسلمين عندما تم اغتياله في أكتوبر 1981 خلال احتفاله بعيد النصر العسكري وسط كبار قادة المؤسسات الرسمية السيادية، وذلك على أيدي خلية إسلامية نائمة بين صفوف الجيش المصري في ظل تواطؤ محلي وإقليمي وعالمي لم تكن المناورات الإخوانية بمنأى عنه!!.
(7)
بمجرد اغتيال "السادات" على أيدي الإسلاميين الجهاديين عام 1981 خلفه في رئاسة الدولة المصرية نائبه ورئيس الفريق المصري داخل التحالف الدولي المعادي للشيوعية "حسني مبارك"، الذي قام بمنح مندوبي المؤسسات الرسمية السيادية من أعضاء فريقه كل الفرص للإمساك بأهم مفاصل الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات الخارجية، مقابل منح مندوبي الإخوان المسلمين في الفريق ذاته كل الحذر خوفاً من مناوراتهم وتحالفاتهم واتصالاتهم الداخلية والخارجية، لذلك فقد سارع "مبارك" بإقالة وزير الدفاع وعضو الفريق المصري في التحالف "عبدالحليم أبوغزالة" عقب موافقته على إجراء اتصالات جانبية مع بعض قادة الإخوان الأعضاء بالتحالف دون علم "مبارك" عام 1989، وهو نفس العام الذي كان التحالف الدولي المعادي للشيوعية قد أكمل فيه مهمته الأولى بإخراج القوات السوفيتية من الأراضي الأفغانية، وفي الأيام الأولى لحكم "حسني مبارك" تم اعتقالي بمعرفة مباحث أمن الدولة وتقديمي إلى نيابة ومحكمة أمن الدولة بتهمتين سياسيتين، كانت الأولى هي عضوية لجنتي الإعلام والعلاقات الخارجية في الحزب الشيوعي السري المحظور قانوناً والساعي لقلب نظام الحكم، أما الثانية فكانت إنشاء وقيادة منظمة سرية محظورة قانوناً تسعى للإضرار بعلاقة نظام الحكم مع إحدى الدول الصديقة له وهي لجنة مقاومة التطبيع مع إسرائيل، وتم احتجازي عدة أشهر لحين صدور الأحكام ضدي داخل زنزانة انفرادية بسجن "الاستئناف" الواقع في حي "باب الخلق" بالعاصمة المصرية "القاهرة" وهو السجن المخصص حصرياً لتنفيذ أحكام الإعدام شنقاً في المدنيين الذكور، وكانت محكمة أمن الدولة قد أصدرت لتوها أحكامها بإعدام خمسة إسلاميين جهاديين على خلفية مشاركتهم في اغتيال "السادات"، وجرى فعلاً إعدام ثلاثة منهم داخل السجن الحربي رمياً بالرصاص لأنهم عسكريون ليتبقى الاثنان الآخران اللذان وصلا إلى سجن "الاستئناف" لتنفيذ حكم إعدامهما شنقاً باعتبارهما مدنيان، ولما كانت لوائح مصلحة السجون المصرية تستوجب ألا يشغل الزنزانة الواحدة سوى الشخص الواحد المكدر بالحبس الانفرادي أو ثلاثة أشخاص فأكثر للمساجين غير المكدرين بما يمنع نهائياً إغلاق أية زنزانة على شخصين اثنين فقط، ولما كانت بقية زنازين سجن "الاستئناف" مكدسة بالمساجين ولا يوجد سجين مكدر تكديراً انفرادياً غيري، فقد دفعت إدارة السجن بالرجلين إلى زنزانتي لحين استكمال إجراءات تنفيذ حكم الإعدام فيهما مما استدعى إنهاء عقوبتي التكديرية بالحبس الانفرادي، وعقب التحية سألني الرجلان عن أية وسيلة للكتابة فمنحتُهما أقراص فحم الكربون المضادة لانتفاخ المعدة ليكتبا بها ما يريدانه على جدران الزنزانة، فكتب الرجلان جزءاً من الآية رقم 19 في سورة "الجاثية" بالقرآن الكريم نصه: "وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين"، وهما يشرحان لي سبب اختيار ذلك الجزء تحديداً لتدوينه قبل ملاقاة ربهما بقولهما إن شياطين أمريكا وحلف الأطلسي لا يهمهم إلا هزيمة أعدائهم التقليديين شياطين روسيا وحلف وارسو، وهم في ذلك يحظون بموالاة أتباعهم الحكام الظالمين لمصر وباكستان ودول الخليج العربي كما يواليهم أيضاً قادة مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين، الذين استخدمهم الفريق الأول من الشياطين لينجحوا بمناوراتهم السياسية الماكرة في تعبئة الإسلاميين الجهاديين والدفع بهم نحو الموت على الأراضي الأفغانية، ضمن صراعات بين شياطين الغرب والشرق ليس للمسلمين فيها ناقة ولا بعير، دون أن يفوتهما اتهام الشيخ الثري مالك شركة الإنتاج الإعلامي ورئيس شعبتي الإعلام والعلاقات الخارجية في جماعة الإخوان، بالتقاط أمهر المصريين المؤهلين للقتال وإعادتهم سراً من معسكرات الجهاد الأفغاني إلى الأراضي المصرية عبر دولة "السودان" لتنفيذ بعض العمليات الجهادية الاستشهادية الداخلية، والتي تتنصل جماعته منها لاحقاً غير عابئة بمصائر منفذيها التابعين أصلاً لمجموعات إسلامية أخرى، بل وتواصل الجماعة تنسيقها السياسي مع قادة المؤسسات الرسمية السيادية التي كانت قد قامت لتوها بتحريض الاستشهاديين على اغتيالهم، وبينما كان "عشماوي" يسحب الرجلين معاً إلى غرفة تنفيذ الإعدام بعد تكبيلهما قالا لي إن المناورات الإخوانية هي "تُقية" ماكرة غير مبررة تضعهم في خانة المنافقين الموصوفين بما هو أسوأ من أوصاف الشياطين والظالمين في القرآن الكريم، الذي يدعو بوضوح إلى تحاشيهم وعدم اتخاذهم أولياء أو أنصار كما يدعو أيضاً إلى لعنتهم بل ومقاتلتهم لو اقتضى الأمر باعتبارهم العدو الأقرب وبالتالي الأول للإسلام والمسلمين!!.
(8)
تسابق "الضباط الأحرار" منذ النشأة الأولى لجمهورية الخوف عام 1952 في إنشاء كوابيسهم الخاصة المسماة بأجهزة الأمن السياسي، ليتولى "جمال عبدالناصر" شخصياً رئاسة جميع تلك الكوابيس بشكل سري يكفل له التنسيق الفوري بينها، حتى صدر بيان 30 مارس 1968 وأعقبه دستور 1971 بما تضمناه من الإعلان عن وجود مجلس الدفاع الوطني برئاسة رئيس الجمهورية أو نائبه وعضوية قادة أجهزة الأمن السياسي بتمثيل عددي لكل جهاز حسب أهميته النسبية، حيث تصدرته الاستخبارات العسكرية والمخابرات العامة تليهما مباحث أمن الدولة والحرس الجمهوري ثم الرقابة الإدارية والتحريات العسكرية بالإضافة إلى الاستعلامات والمحاسبات والأموال العامة والأمن العام، وجاءت في مؤخرته وزارات الحكم المحلي والخارجية والصحة وجهاز المدعي العام الاشتراكي الذي تم حله وتوزيع اختصاصاته على بقية أعضاء مجلس الدفاع الوطني في تسعينيات القرن العشرين، عندما اعترض على موقعه أسفل سلم الأهمية النسبية بالمجلس محاولاً الصعود لأعلى من جانب واحد، ونظراً لاستمرار التنسيق الفوري بين مختلف كوابيس جمهورية الخوف تحت الإشراف المباشر لنائب رئيس الجمهورية "حسني مبارك" منذ إخماد انتفاضة يناير 1977 الشعبية، فقد كانت تلك الكوابيس جميعها تتابع أولاً بأول كافة التفصيلات المتعلقة بنشاطي السياسي في صفوف الحركة الشيوعية وحركة مقاومة "إسرائيل"، ابتداءً بمشاركتي مع أقراني في انتفاضة يناير 1977 التي سحقتها دبابات الجيش بعد أن خذلها الليبراليون وهاجمها الإخوان المسلمون وبقية الإسلاميين، مروراً بإفلاتي عدة مرات من محاولات اعتقال مباحث أمن الدولة لي خلال الأيام الأخيرة لحكم "السادات" وهو ما عاقبتني عليه لاحقاً بإيداعي داخل زنزانة انفرادية في السجن المخصص لتنفيذ أحكام الإعدام، وانتهاءً بامتناع نيابة ومحكمة أمن الدولة عن إصدار أي قرار تجاه الاتهامات التي وجهتها لي مباحث أمن الدولة، وهو في حد ذاته إجراء أمني ماكر بتعليق الاتهامات لإبقاء السيف على رقبتي حتى اليوم، مما أوقعني تحت طائلة خريطة عقابية موسعة تضمنت تنويعات متعددة من العقوبات، كان أبرزها هو قرار إنهاء خدمتي العسكرية الإلزامية بمجرد بدايتها بعد تكرار ترحيلها لعدة دفعات متتالية رغم حرصي على تأديتها كواجب وطني في مواجهة العدو الإسرائيلي، مع تدوين قرار "إنهاء الخدمة لدواعي الأمن السياسي" بالبنط العريض على صدر أوراق معاملتي العسكرية، ليظل الاستفهام حائراً حول الأبعاد الحقيقية لحرمان أي مواطن مصري من تأدية واجبه الوطني في مقاومة إسرائيل بحجة أنه قد سبق له ممارسة حقه الوطني في مقاومة إسرائيل، وبمضي الزمن اتضح أن قرار إنهاء الخدمة العسكرية بدون تأديتها أو الإعفاء القانوني منها هو العقاب الانتقامي الأشد قسوة لمجلس الدفاع الوطني ضد بعض المواطنين الموصوفين بأنهم "أعداء شديدي الخطورة على الأمن السياسي لنظام الحكم"، لكونه عقاب متعدد الشفرات وطويل المفعول فهو ليس فقط بمثابة عقاب مباشر يحرم الخاضعين له من المهارات القتالية فيبقيهم الأضعف نسبياً عند أي مواجهة عنيفة محتملة، ويمنع الخاضعين له من الاتصال بالعسكريين المحترفين كيلا يؤثروا على أفكارهم السياسية فيجتذبوهم لصفهم، ولكنه أيضاً بمثابة عقاب مستديم بالعزل السياسي يحاصر الخاضعين له على أرض الواقع فيحول دون تأديتهم لأدوارهم الطبيعية حتى نهاية أعمارهم في مختلف دوائر الحياة العامة والخاصة، ذلك أن كل تحركات المواطنين المصريين على كافة أصعدة الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات الخارجية منذ عام 1952 تتطلب تقديم أوراق المعاملة العسكرية، وبالتالي فإن تدوين قرار إنهاء الخدمة العسكرية لدواعي الأمن السياسي على صدر تلك الأوراق كفيل بتجميع العديد من الحواجز المانعة للترشيح في المجالس النيابية والمحلية والمعرقلة لممارسة الأنشطة النقابية والاجتماعية، والمعطلة لحق العمل بما يستلزمه من إجراءات تشمل فيما تشمله استخراج مسوغات العمل في أية وظيفة رسمية أو استخراج البطاقة الضريبية الخاصة بالعمل الحر أو استخراج جواز السفر اللازم للعمل خارج البلاد، وفي حين كان الشباب من توابع الأجهزة الأمنية يحصلون على شهادات قانونية سليمة صادرة من القوات المسلحة بتأديتهم للخدمة العسكرية عن طريق وحدة التوصيل إلى منازلهم دون أن يغادروها أصلاً، الأمر الذي كشفه رئيس أركان الجيش المصري الفريق "سعدالدين الشاذلي" لاحقاً في كتابه الشهير "مذكرات حرب أكتوبر" ضارباً المثل بوزير الخارجية السابق "نبيل فهمي" ابن وزير الخارجية الأسبق "إسماعيل فهمي"، بينما كان شباب "الإخوان المسلمين" والسلفيين يتم تجنيدهم بشكل طبيعي داخل صفوف القوات المسلحة المصرية ليستكملوا بعد ذلك أدوارهم الطبيعية في الحياة العامة والخاصة دون عزل، فإن العقوبة المبتكرة بالعزل السياسي عبر إنهاء الخدمة العسكرية على النحو العقابي المذكور قد أصابت معظم الجهاديين وبعض الشيوعيين مثلي أنا، لذلك فإن القرار "الشجاع" بتجاهل عقوبة عزلي قد منح صاحبه "صفوت الشريف" أفضلية تفاوضية مطلقة في مواجهتي حيث لم يعد بمقدوري مجادلته فيما اختاره لي من مواقع وتخصصات مهنية داخل وزارة الإعلام التي كان يرأسها في حينه، إلى جانب عمله كأمين عام مساعد للحزب الحاكم وعضويته بمجلس الدفاع الوطني بعد أن كان رئيساً لقطاع "السيطرة السياسية" في المخابرات العامة، وقبل ذلك كان قد انخرط خلال صباه بشعبتي الإعلام والعلاقات الخارجية في جماعة "الإخوان المسلمين"، وهكذا ألحقني "صفوت الشريف" بقطاع الإعلام الخارجي في الهيئة العامة للاستعلامات وقطاع الإذاعات المصرية الموجهة إلى الخارج باتحاد الإذاعة والتليفزيون، على اعتبار أنهما أكثر القطاعات اقتراباً من تخصصاتي السابقة في ملفات الإعلام والعلاقات الخارجية وحركات الإسلام السياسي، لاسيما بعد نجاحي بتفوق ملحوظ في اختبارات التعيين هنا وهناك!!.
(9)
رغم حداثة عهدي بالعمل الإعلامي كوظيفة احترافية رسمية فقد كان ملف الوجود السوفيتي في "أفغانستان" أحد أهم واجباتي المهنية بالمشاركة مع بعض الإعلاميين المخضرمين، ذوي الولاء السياسي الموزع بين أربعة من شركاء التحالف الدولي المعادي للشيوعية، وهم الإدارة الأمريكية ودول مجلس تعاون الخليج العربي والأجهزة الرسمية السيادية المصرية ومكتب إرشاد جماعة "الإخوان المسلمين"، بما يخالف موقفي الشخصي المتعاطف مع حق الشعب الأفغاني كغيره من شعوب العالم في اختيار نظامه الداخلي وأصدقائه الخارجيين، واستمرت التطورات الميدانية تسير في اتجاه واحد يكاد يكون مكشوفاً بوضوح أمامنا نحن الإعلاميين المتابعين للملف الأفغاني، فمكتب إرشاد الجماعة يقوم بتعبئة وتحريض الإسلاميين من مواطني دول التحالف للدفع بهم نحو محاربة الوجود السوفيتي هناك، بعد إمدادهم بالأسلحة الواردة من المخازن الأمريكية والأطلسية والمشتراة بالأموال الخليجية، عبر سماسرة الأجهزة السيادية المصرية الذين يقتطعون لأنفسهم بعض العمولات، بهدف مباشر معلن هو تحرير مسلمي "أفغانستان" من حكم الكفار وهدف تكتيكي معلن هو إخراج القوات السوفيتية من الأراضي الأفغانية، مع إخفاء الهدف الاستراتيجي الحقيقي للتحالف والمتمثل في القضاء على الاتحاد السوفيتي وحلف "وارسو" والمنظومة الاشتراكية العالمية برمتها، حتى يعاود منافسوهم الرأسماليون سيطرتهم الانفرادية على المناطق والشعوب ذات الاقتصاديات الأقل تطوراً تحت شعار مخادع جديد كانت الإدارة الأمريكية تستعد لإطلاقه آنذاك واسمه "العولمة"، وفي عام 1989 نجح التحالف الدولي المعادي للشيوعية في إخراج القوات السوفيتية من الأراضي الأفغانية، فقاد الأصدقاء القدامى والجدد للإخوان المسلمين داخل التحالف حملة عالمية لمكافأتهم على دورهم في ذلك النجاح، بترحيب حذر من الإدارة الأمريكية التي كان الإخوان قد كسبوا ودها نسبياً بطمأنتها إلى أن مشروعهم السياسي يعادي أعداءها الشيوعيين والجهاديين ويغض الطرف عن أصدقائها الإسرائيليين، كما أن مشروعهم الاقتصادي يتعاون مع استثمارات الشركات العالمية الاحتكارية لدرجة أنهم يمكنهم تأدية دور الشرطي الجديد لحماية تلك الاستثمارات ولضمان استمرار هيمنتها على الاقتصاديات المصرية والعربية والإسلامية، فكانت المكافأة هي السماح بانقلاب عسكري نفذه أحد أجنحة التنظيم العالمي للإخوان المسلمين في "السودان" عام 1989، وهي مكافأة لم تكن مرضية لمكتب إرشاد الجماعة الذي يشرف على التنظيم العالمي والساعي بجدية لتمكينه من حكم "مصر"، إدراكاً لحقيقة أنه لولا فتاواه الدينية وحملاته التعبوية والتحريضية لما كان عشرات ألوف الاستشهاديين الإسلاميين من شتى دول العالم قد نجحوا في طرد القوات السوفيتية خارج الأراضي الأفغانية، كما أن تلك المكافأة ذاتها لم تكن مرضية في الوقت نفسه للأجهزة الرسمية السيادية المصرية الساعية بجدية للتخلص من شراكتها الاضطرارية مع الإخوان بمجرد إغلاق ملف التحالف الدولي، فإذا بهم يستبقون الأحداث ويقفزون قفزة كبرى للأمام بسيطرتهم على الدولة السودانية التي تعتبرها الأجهزة المصرية حديقتها الخلفية، وحاول الإخوان المسلمون محاصرة الرئيس "حسني مبارك" والالتفاف عليه عبر اتصال سري بوزير الدفاع "عبدالحليم أبوغزالة" فسارع "مبارك" بإقالة "أبوغزالة" عام 1989 من كافة مواقعه السياسية بما فيها عضوية الفريق المصري داخل التحالف الدولي، هذا الفريق الذي تم لاحقاً توسيع نطاق عضويته بضم بعض القادة الجدد للمؤسسات الرسمية السيادية مثل "صفوت الشريف" و"زكريا عزمي" و"عمر سليمان" إلى جانب بعض قادة الإخوان الجدد مثل "حامد أبوالنصر" و"مصطفى مشهور" و"مأمون الهضيبي"، واستمر نظام الحكم المصري يكظم غيظه تجاه شريكه الإخواني الاضطراري حتى حقق التحالف الدولي هدفه النهائي الاستراتيجي عام 1992 بانهيار الاتحاد السوفيتي وحلف "وارسو" والمنظومة الاشتراكية العالمية برمتها، فانطلقت أجهزة الأمن السياسي تطارد الإخوان وغيرهم من الإسلاميين حيث استصدرت عشرات الأحكام العسكرية القاسية ضد أعضاء وكوادر وقيادات حركات الإسلام السياسي، بمن فيهم الشيخ الثري رئيس شعبتي الإعلام والعلاقات الخارجية في جماعة الإخوان الذي فر بمساعدة إحدى خلاياهم النائمة داخل تلك الأجهزة، لينزل ضيفاً على الحكومة الإسلامية السودانية التي منحته قصراً منيفاً مجاوراً لقصر "أسامة بن لادن" بالحي الدبلوماسي في "الخرطوم"، وعلى الجانب المقابل فقد انطلق الجهاديون المصريون بتغطية سلفية وإخوانية وبدعم حكومي سوداني يشنون العديد من عمليات العنف المسلح الانتقامية، التي شملت فيما شملته تفجير أماكن التجمعات العسكرية والشرطية والمدنية والسياحية واغتيال المفكرين والسياسيين والمسئولين المصريين بمن فيهم الرئيس "حسني مبارك" نفسه، الذي تعرض خلال زيارته للعاصمة الأثيوبية "أديس أبابا" عام 1995 لمحاولة اغتيال على أيدي بعض الإسلاميين المصريين العائدين من "أفغانستان" للإقامة الاضطرارية في "السودان" هرباً من الأحكام الصادرة ضدهم، ونجا "مبارك" بفضل المعلومات المسبقة المرفوعة إليه من وحدة الإعلام الخارجي المصري المقيمة في "السودان"، باعتبارها من الناحية المهنية هي المسئولة عن فحص وتدقيق المعلومات السياسية المتداولة هناك ذات الصلة بمصر والمصريين، وهي الوحدة التي كان "صفوت الشريف" قد اختارني لرئاستها عقب اكتمال مهام التحالف الدولي المعادي للشيوعية بانهيار الاتحاد السوفيتي وحلف "وارسو" والمنظومة الاشتراكية العالمية برمتها عام 1992!!.

(10)
شهد عام 1989 انسحابي النهائي من الصفوف التنظيمية للحركة الشيوعية المصرية بعد أن منحني موقعي المهني فرصة رؤية الوجوه الحقيقية للرفاق الذين كانوا يقودون تلك الحركة آنذاك، وفي العام نفسه كان الإسلاميون السودانيون قد استولوا على حكم "الخرطوم" بانقلابهم العسكري الناجح فأُضيف الملف السوداني إلى واجباتي المهنية في مجال الإعلام الخارجي، حيث استضافت محطة إذاعة "وادي النيل" المصرية برنامجاً سياسياً يومياً من إعدادي وتقديمي إلى جانب برنامجي السياسي اليومي في محطة الإذاعة المصرية الموجهة إلى "أفغانستان"، وفي عام 1992 تحول التحالف الدولي المعادي للشيوعية بعد إكماله لمهامه إلى تحالف دولي معادي للعنف الإسلامي، تحت ذات الرئاسة الأمريكية وذات العضوية لدول حلف الأطلسي ومجلس تعاون الخليج العربي وباكستان، إلى جانب مصر التي أصبحت ممثلة في التحالف الجديد بفريقين متصارعين فيما بينهما وهما المؤسسات الرسمية السيادية ومكتب إرشاد جماعة "الإخوان المسلمين" حتى أن الرئاسة الأمريكية للتحالف كانت تجتمع بكل فريق منهما على حدا تحاشياً للصدام بينهما الأمر الذي وفر لقادة الإخوان فرصة كسب المزيد من الود الأمريكي، وأثناء تلك التطورات تم اختياري من قبل التحالف الدولي الجديد منسقاً عاماً لأحد مؤتمراتهم البحثية العلنية، وكان مخصصاً لتبادل وجهات النظر حول كيفية الحد من ظاهرة العنف السياسي الإسلامي على مدى عدة جلسات انعقدت بالتبادل بين "القاهرة" و"روما" طوال عام 1992، بمشاركة مندوبين عن مختلف الأطراف المحلية والإقليمية والعالمية بمن فيهم "الإخوان المسلمين"، وفي العام نفسه أصدر "صفوت الشريف" بموافقة "حسني مبارك" قراره بتعييني كمستشار إعلامي مقيم في "السودان" وهي إحدى المهام الشاقة، حيث تطلبت التحامي الميداني المباشر مع كل المصادر البشرية المعبرة عن كافة مفردات خرائط الدولة والمجتمع هناك بما فيها الجاليات والتجمعات الأجنبية، ومن بينهم المصريين الموجودين بكثافة في "السودان" والذين يكرهون بطبيعتهم الموظفين الرسميين الممثلين للدولة المصرية مثلي، وكان التحامي بالجميع ضرورة مهنية حتى يتسنى حصولي على المعلومات السياسية ذات الصلة بمصر والمصريين هناك مع فحصها وتدقيقها لرفعها إلى جهات الاختصاص في الوقت المناسب، لاسيما وقد تزامنت تلك المهمة مع وقوع اشتباكات حدودية مباشرة بين الجيشين المصري والسوداني عام 1992 بسبب النقص المتبادل في معلومات الطرفين حول التطورات الميدانية داخل مثلث "حلايب" الحدودي، الذي كان آنذاك خاضعاً للإدارة السودانية تحت السيادة المصرية مما أسفر عن مصرع وإصابة العشرات من الأشقاء على الجانبين لأول مرة في التاريخ المعاصر، وكالعادة فقد ضمت البعثة الدبلوماسية المصرية بالسودان بعض خريجي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة من زملاء دراستي السابقين، والذين كان من بينهم زميلي الخجول بعد تعيينه كوزير مفوض تجاري مقيم في "الخرطوم" وبسؤاله عن خاله الشيخ الثري مالك شركة الإنتاج الإعلامي ورئيس شعبتي الإعلام والعلاقات الخارجية في جماعة "الإخوان المسلمين"، أجابني بأنه يخشى زيارته أو استقباله رغم سكنه على مسافة أمتار منه حتى لا يتضرر مستقبله المهني، فدفعتني اعتبارات وجوب "صلة الأرحام" إلى ترتيب لقائهما بمعرفتي على هامش ندوة رسمية مخصصة لمناقشة التبادل التجاري بين مصر والسودان في مجال الإنتاج الإعلامي، شكرني زميلي الدبلوماسي الخجول بحرارة على ما وصفه بشهامتي الإنسانية وبكى القيادي الإخواني من فرط فرحه وهو يحمد الله على ملامسته لابن أخته الذي رباه كأبيه لكونه يتيماً والخال عقيماً، وعاقبتني أجهزة الأمن السياسي المصرية على عدم رفضي لمشاركة القيادي الإخواني في الندوة الرسمية وذلك عبر توصيتها النافذة بحرماني من كل أنواع الإجازات طوال مدة خدمتي في "السودان" والتي بلغت خمسة أعوام، نظراً لجهل قادة تلك الأجهزة بحقيقة أن تنوع الاتصالات الميدانية بلا حدود هو وحده الكفيل بتوفير المعلومات السياسية ذات الأهمية مع منح الفرصة اللازمة لفحصها وتدقيقها قبل رفعها إلى جهات الاختصاص في الوقت المناسب، حتى أن لقاء "صلة الأرحام" المرفوض من جانب الأجهزة هو الذي قادني للتأكد من وجود قائد تنظيم القاعدة الجهادي الإسلامي "أسامة بن لادن" على الأراضي السودانية، لتوجيه أنشطة أتباعه المعادية للتحالف الدولي الجديد والتي تستهدف بالضرورة فيما تستهدفه المصالح الداخلية والخارجية لنظام الحكم المصري بما قد يمس بعض المواطنين المصريين الأبرياء، ولتكذيب معلوماتي في هذا الشأن أنكرت أجهزة الأمن السودانية وجود "بن لادن" أصلاً هناك الأمر الذي دفعني إلى افتعال جلسة مطولة معه فوق أحد الصنادل النيلية البطيئة، مع قيام كاميرا الفيديو التابعة لوحدة الإعلام الخارجي بتصويرنا معاً عن بعد مما تسبب في عدم وضوح الصوت، فاختفى حديثنا الودي الذي دار لمدة نصف ساعة حول الشيخ الثري القيادي في جماعة "الإخوان المسلمين" باعتباره الصديق المشترك لكلينا، لاسيما وأنه كان قد حكيَ لأسامة وهو يوصيه بي خيراً عن محاولاته السابقة لتجنيدي ومن ثم تصعيدي نحو شغل أحد المواقع على رأس تنظيم القاعدة، فسألني "بن لادن" مداعباً عما إذا كان بمقدوري تحقيق ما أسماه بالإنجازات التاريخية لتنظيم القاعدة لو كان قد تم تبديل موقعي معه أو مع نائبه وخليفته "أيمن الظواهري"!!.
(11)
كانت عقوبة احتجازي في "السودان" بدون إجازات لمدة خمسة أعوام هي الأخف بالمقارنة مع عقوبات خشنة أخرى عديدة طالتني بمجرد عودتي النهائية إلى "القاهرة" بعد اكتمال مهمتي الدبلوماسية عام 1997، وذلك على أيدي مجلس الدفاع الوطني الذي انتظر عودتي لتصفية حساباته القديمة معي، في مرحلة تاريخية كان عنوانها العريض هو التصفيات المتبادلة للحسابات على امتداد العالم بين أعضاء التحالف الدولي الذي أصبح معادياً للعنف الإسلامي بعد أن كان معادياً للشيوعية، لاسيما وقد أدرك المقاتلون الحقيقيون من الاستشهاديين الإسلاميين أخيراً حقيقة أن حلفاءهم السابقين خدعوهم بإساءة استغلالهم في الحروب الأفغانية، وكانت الإدارة الأمريكية هي البادئة بتصفية حساباتها المعلقة عبر تحريضها لصديقها الرئيس العراقي "صدام حسين" على غزو "الكويت" عام 1990، لترويع الجار السعودي ومن خلفه مجلس تعاون الخليج العربي والجار التركي ومن خلفه حلف الأطلسي مع ترويع "مصر" باعتبارها الأخ العربي الأكبر و"بريطانيا" باعتبارها دولة الاستعمار السابقة للعراق والكويت معاً، تمهيداً لانتزاع موافقة هؤلاء وأولئك على النهب الأمريكي المنظم والشره لثروات الخليج العربي تحت سواتر متتالية بدأت بحصار العراق عام 1991 وانتهت بالاحتلال المباشر لأراضيه الذي استمر طوال الفترة الممتدة بين عامي 2003 و2011، بينما كان الجهاديون في "الصومال" قد انقلبوا ضد شركائهم السياسيين السابقين ليسيطروا بمفردهم على حكم "مقديشيو" عام 1991، فاجتاحت القوات الأمريكية أراضيهم عام 1992 لينجحوا في طردها عام 1994 ويظل الكر والفر مستمراً بينهما هناك حتى عام 2011، أما الجهاديين الأفغان والذين كانوا قد سيطروا بمفردهم على حكم وأراضي دولتهم عام 1999، فقد شرعوا يذبحون كل شركائهم السياسيين السابقين بمن فيهم مندوبي الإدارات الأطلسية والخليجية والباكستانية والمصرية والإخوان المسلمين، ودفعتهم شهوة تصفية الحسابات إلى حد تفجيرهم لأبراج التجارة العالمية وغيرها من المباني الاستراتيجية الواقعة في الأراضي الأمريكية عام 2001، فردت الإدارة الأمريكية الصاع صاعين ضدهم بالتدمير الشامل لكل مقومات الدولة والمجتمع في "أفغانستان" تمهيداً لاحتلالها المباشر الذي استمر طوال الفترة الممتدة بين عامي 2001 و2011، وتعرض "السودان" لعشرات الضربات العسكرية والعمليات الأمنية الدموية الموجهة إلى حكامه الإسلاميين من قبل شركائهم السياسيين السابقين في التحالف الدولي، بهدف احتوائهم وإحكام الحصار عليهم منذ عام 1992 وصولاً إلى تقسيم "السودان" لدولتين متنازعتين في عام 2011، وكان لابد أن تحصل "مصر" على نصيبها من التصفيات الدموية المتبادلة للحسابات القديمة، لاسيما مع إنشاء برنامج الاستجواب السري المشترك للمخابرات المركزية الأمريكية والمخابرات العامة المصرية عام 1995 في إطار التحالف الدولي الجديد المعادي للعنف الإسلامي، ففي عام 1997 ارتكب الجهاديون المصريون مذبحة راح ضحيتها عشرات السواح الأمريكيين والأطلسيين ذوي الطابع "الخاص" خلال رحلتهم "السرية" لمدينة "الأقصر" المصرية، وفي عام 1999 قاموا بمحو طائرة "رسمية" مصرية تقل عشرات الضباط المصريين ذوي الطابع "الخاص" خلال عودتهم من رحلتهم "السرية" إلى إحدى القواعد العسكرية الأمريكية، ليعزل الرئيس "حسني مبارك" كل قادة أجهزة الأمن السياسي المصرية الأعضاء في مجلس الدفاع الوطني باستثناء "عمر سليمان" أمين عام المجلس ورئيس المخابرات العامة الذي أعلن "مبارك" فيما بعد قرار تعيينه نائباً لرئيس الجمهورية، ربما لأن عضويته بالفريق المصري المشارك في التحالف الدولي قد أقنعت "مبارك" بالإبقاء عليه إلى جانب أعضاء الفريق الآخرين من العسكريين مثل "صفوت الشريف" و"زكريا عزمي" و"حسين سالم"، والذين ظلوا مرتبطين بشخص "مبارك" حتى زوال جمهورية الخوف الأولى عام 2011 على عكس "عمر سليمان" الذي باعه لخصومه الانقلابيين، وربما لأن المعلومات المسبقة التي أفشلت محاولة اغتيال "مبارك" في "أديس أبابا" عام 1995 كانت مرفوعة إليه مني بواسطة "سليمان" و"الشريف" معاً حسب قواعد عملي المهني في السودان آنذاك، وذلك رغم وضوح المسئولية السياسية الكاملة لعمر سليمان عن حادثتي الأقصر والطائرة وتقصيره الأمني في منعهما، لاسيما وأنه كان قد تسلم مني قبل وقت كافي المعلومات الخاصة بهاتين الحادثتين واللتان تم تدبيرهما بمعرفة المكتب الفني السري لدعم حركات الإسلام السياسي المنبثق عن هيئة الصداقة الشعبية العالمية في رئاسة الجمهورية السودانية، أما أنا فكان نصيبي من تصفية الحسابات هو تهميشي المهني ومنعي من السفر خارج البلاد بقرار الحاكم العسكري العام رغم استصداري أحكاماً قضائية بحريتي في السفر، ورفض علاج عمودي الفقري المصاب بكسور مضاعفة إثر هجوم كان قد وقع ضدي لاغتيالي بهدف الحيلولة دون وصولي إلى بعض المعلومات الهامة خلال عملي في "السودان"، إلى جانب الاستخدام المكثف والمتوازي لكافة شرور السيطرة والتقييد تجاهي بالإضافة إلى عدة محاولات لإزالتي بالأساليب النظيفة والمستترة مع ثلاث محاولات فاشلة للتصفية الجسدية الصريحة والمكشوفة!!.
(12)
كان احتلال القوات العسكرية الأمريكية للأراضي العراقية في مارس 2003 عقب حوالي عام واحد من احتلالها للأراضي الأفغانية في ديسمبر 2001 وعشرة أعوام من احتلالها الفاشل للأراضي الصومالية، قد أثار اعتراض الشعب الأمريكي ضد السياسة الخارجية لإدارة الرئيس "جورج بوش الابن"، الذي حاول الدفاع عن نفسه بادعاء أنه أرسل قواته المسلحة لإسقاط أنظمة حكم شمولية دموية تقمع شعوبها بدرجة لا تستحق معها تعاطف الشعب الأمريكي، الرافض من جانبه أكاذيب "بوش" استناداً إلى استمرار صداقته الحميمة مع أنظمة حكم أخرى في العالم أكثر شمولية من نظامي "الملا عمر" الأفغاني و"صدام حسين" العراقي، بل وأكثر دموية من عصابات أمراء الحرب وميليشيات المحاكم الشرعية المتصارعة فيما بينها على حكم الصومال دون أن يحاول التدخل لوقفها عن قمع شعوبها، لاسيما أنظمة حكم "مصر" و"باكستان" ومنطقة الخليج العربي أبرز أعضاء التحالف الدولي المعادي للعنف الإسلامي والذي تقوده "واشنطون" منذ كان معادياً للشيوعية في خمسينيات القرن العشرين، مما كان لابد معه أن تسعى الإدارة الأمريكية لتحسين الصورة الذهنية حول الحكام الشموليين لتلك الأنظمة بإظهارهم وكأنهم أكثر ديمقراطية حتى يتقبل الشعب الأمريكي صداقتهم مع "بوش" وذلك من خلال قيام خبراء علم النفس الاجتماعي وشركات العلاقات العامة العالمية بتأليف وإخراج بعض السيناريوهات جيدة الحبكة لوضعها موضع التنفيذ هنا وهناك، والتي كان من بينها اختيار رئيس الجمهورية للدورة الرئاسية المصرية التالية بطريقة الانتخاب المباشر بين عدة مرشحين بدلاً مما كان معمولاً به منذ قيام جمهورية الخوف عام 1952 بالاستفتاء على المرشح الوحيد للحزب الحاكم، الأمر الذي نجحت الوساطة الأمريكية الضاغطة في إقناع الرئيس "حسني مبارك" بقبوله، ليجد نفسه مضطراً تحت ضغط الوساطة الأمريكية ذاتها إلى الاتفاق مع الإخوان المسلمين على صفقة مصالح سياسية متبادلة تلزمهم بتأييده المكثف في انتخابات رئاسة الجمهورية التالية لدورة 2005 ــ 2011 ضد منافسه الشاب القوي "أيمن نور"، مقابل سماحه بتمثيلهم المكثف داخل مجلس الشعب المصري في دورته التالية 2006 ـــ 2010، وكالعادة فقد شملت الصفقة بعض البنود الجانبية الأخرى لصالح الطرفين مثل التزام الإخوان بالصمت تجاه خطط "مبارك" من أجل توريث موقعه لنجله "جمال" عند حلول الدورة الرئاسية التي تليها (2011 ــ 2017)، مقابل إسقاط الأحكام العسكرية السابق صدورها ضد قادة وكوادر وأعضاء الجماعة، ليعود الشيخ الثري مالك شركة الإنتاج الإعلامي ورئيس شعبتي الإعلام والعلاقات الخارجية بالجماعة من العاصمة السودانية "الخرطوم" عبر صالة كبار الزوار في مطار "القاهرة"، ورغم حصول "مبارك" على مبتغاه بتجديد رئاسته للجمهورية للدورة الخامسة على التوالي عقب فوزه في انتخابات عام 2005 بنسبة تقارب التسعين في المائة من أصوات الناخبين، فقد أخل جزئياً بالتزاماته تجاه الإخوان فلم يسمح لهم سوى بنسبة عشرين في المائة فقط من عضوية برلمان 2006 بدلاً مما كان قد وعدهم به وهو نسبة الثلث التي تسمح لحائزيها بتعطيل ما يرفضونه من تشريعات وقوانين وقرارات تنفيذية، مع التزامه بإفساح المجال أمام القيادي الإخواني العائد من الأراضي الأمريكية "محمَّد مرسي" للترشح والنجاح في إحدى دوائر محافظة "الشرقية" تمهيداً لاعتلائه رئاسة كتلة نواب الإخوان وبالتالي رئاسة المعارضة البرلمانية، وقد أثار تراجع "مبارك" عن وعوده بتلبية كل المطالب الإخوانية غضب الإدارة الأمريكية بنفس قدر إثارته للغضب الشديد ضد شخصه من قبل الإخوان أنفسهم، بينما كان لم يزل يحتاج إلى دعمهم ولو بالصمت تجاه خططه الرامية لتوريث نجله "جمال"، بما اقتضته تلك الخطط من إجراءات استثنائية اتخذها "حسني مبارك" لإقصاء منافسي "جمال" الحقيقيين عن الترشح لرئاسة الجمهورية، بدأت باعتقال منافسه السابق "أيمن نور" على خلفيات جنائية ملفقة تمنعه من معاودة ترشيح نفسه ضد "جمال"، إلا أن أخطرها على الإطلاق هو ما أجراه "مبارك" من تعديلات دستورية عام 2007 بهدف إقصاء قيادات المؤسسات السيادية العميقة للدولة المصرية في الجيش والمخابرات العامة والرقابة الإدارية والسلك الدبلوماسي عن الترشح للرئاسة، ولما كان بعض قادة تلك المؤسسات من ذوي العلاقات المميزة مع الإدارة الأمريكية يتطلعون إلى شغل موقع رئاسة الجمهورية في المستقبل بتشجيع أمريكي، فإن تعديل "حسني مبارك" للدستور عام 2007 قد أثار غضب الإدارة الأمريكية بنفس قدر إثارته للغضب الشديد ضد شخصه من قبل هؤلاء القادة أنفسهم الذين انضموا إلى سابقيهم في الغضب وهم الإخوان المسلمين، وهكذا وجد الغاضبون القدامى والجدد أنفسهم مضطرين إلى أن يشكلوا فيما بينهم وتحت رعاية الإدارة الأمريكية جبهة سرية معادية ساعية لإسقاط مبارك الأب والابن معاً!!.
(13)
من الناحية التقنية كانت تلك الجبهة الاضطرارية التي تضم مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين وبعض قادة أهم المؤسسات السيادية العميقة والإدارة الأمريكية قادرة على خلع "مبارك" منذ بدايات عام 2008 بانقلاب عسكري صريح ومباشر، الأمر الذي كان سيصطدم حتماً مع كل اعتبارات القرن الواحد والعشرين الرافضة للسيناريو الانقلابي بصرف النظر عن عيوب المخلوعين، لاسيما لو كان في دولة إقليمية هامة كمصر وكان تحت رعاية الإدارة الأمريكية التي تتشدق "ليل نهار" بتصريحات مخادعة عن احترام الإرادة الشعبية، مما أجبر الجبهة الاضطرارية على اللجوء إلى مناورة التفافية ماكرة لتمرير انقلابها المستهدف، حيث قامت الجبهة بتمهيد الأرض وتهيئة مسرح العمليات مع الاستمرار في التعبئة العامة السرية المعادية ليس فقط لمبارك الأب والابن وأنصارهما، ولكن أيضاً لبعض السياسيين المصريين المعارضين بطبيعتهم لأنظمة الحكم الدينية أو العسكرية أو التابعة للإدارة الأمريكية مثلي أنا، وذلك انتظاراً لنقطة الصفر التي تتوفر عندها السواتر الشعبية المناسبة لقيام الجبهة بتنفيذ انقلاب غير مباشر، وفي العاشر من أغسطس 2010 أصدر الرئيس الأمريكي الجديد "باراك أوباما" أمراً رسمياً تنفيذياً سرياً لكافة الوحدات السياسية والاستخباراتية والعسكرية العاملة في الخارج والتابعة للإدارة الأمريكية، باليقظة والاستعداد لتطورات ميدانية هامة على وشك الحدوث في العالم العربي كما جاء في جريدة "الأهرام" المصرية يوم 3/4/2013، وهي التطورات التي حدثت بالفعل خلال الأسابيع الأخيرة لعام 2010 في "تونس" ثم انتقلت إلى "مصر" يوم 25 يناير 2011، باندلاع انتفاضة "ميدان التحرير" الشعبية البطولية المعبرة عن تنامي الغضب الجماهيري الحقيقي والمشروع ضد استشراء الاستبداد والفساد والتبعية للخارج في مختلف مؤسسات الدولة والمجتمع، سواء كانت خاضعة لآل "مبارك" أو لخصومهم الانقلابيين، الذين استغلوا أحداث "ميدان التحرير" لتطوير مناورتهم الالتفافية الماكرة عبر خطوات محسوبة بدقة نقلاً عن لعبة "الشطرنج"، تلك اللعبة الذهنية التي سبق لأحد رموز المؤسسات السيادية العميقة وهو "محمَّد حسنين هيكل" أن كتب عنها مقاله المعنون "بصراحة" والمنشور في جريدة الأهرام يوم 14/7/1972، واصفاً إياها بأنها "السلف الصالح لكل علوم الحرب الحديثة والأب الشرعي لكافة الاستراتيجيات السياسية المعاصرة"، ورغم أن خطط آل "مبارك" ومساعي خصومهم كانت قد تقاطعت مبكراً وبوضوح لا لبس فيه مع أنشطتي المهنية وتحركاتي الإعلامية والسياسية إلا أنه قد أُسْقِطَ في يدي حيث رأيتُ الطرفين على باطل بالنظر إلى محاور الاستبداد والفساد والتبعية للخارج، فكان قراري العقلاني بالتزام الحياد الإيجابي بينهما تحاشياً للتورط في صراع الأشرار الذي قد يدفع بالوطن نحو مستقبل لا يقل ظلامه عن ظلمات الواقع المتواصل منذ عام 1952، ومع ذلك سَرَبَ قلمي المتمرد بعض التحذيرات التي أخذت طريقها إلى النشر ابتداءً بكتابي المعنون "انهيار الدولة المعاصرة في مصر" الصادر عن دار "العالم الثالث" المصرية عام 2006 بنصه على: "إن مصر تتجه نحو مسار الانقلاب المنظم المباغت الذي يمكن تنفيذه بواسطة بعض الأجنحة العسكرية الموالية لأحد الاتجاهين الديني أو القومي، وهو مسار سيقود مصر نحو سلسلة متتالية من الانقلابات المضادة التي تدفع بالبلاد إلى أتون الحرب الأهلية، كما تتجه مصر نحو مسار السحب التدريجي للبساط والذي لا يقدر عليه سوى الاتجاه الديني باعتباره الأكثر نفوذاً داخل أوساط النخب الموزعة على مؤسسات الدولة المختلفة بما فيها المؤسسات العسكرية والقمعية، وهو مسار يعني خروج مصر من تهلكة قائمة لتقع في تهلكة جديدة، كفانا الله وحده شر النوعين من التهلكة"، مروراً بمقالي المعنون "واحد اثنين الجيش المصري فين" والمنشور بجريدة "الحياة" البريطانية في مارس 2008 وانتهاءً بمقالي المعنون "المجد للجمعية السرية" والمنشور بجريدة "العربي" المصرية في أكتوبر 2010، ورغم أن تسريباتي المتعمدة كانت تنصح الفريقين المتصارعين بضرورة مراعاة قواعد اللعب النظيف لصالح الوطن أثناء صراعهما، فقد عرضتني للضرب غير النظيف من الفريقين معاً بشكل متداخل زمانياً ومكانياً ربما بسبب اقترابي أكثر من اللازم إلى درجة رؤية الوجوه الحقيقية لهؤلاء وأولئك، حتى إنني لم أستطع التمييز بين المصادر النيرانية المختلفة لما لحق بي من إصابات عديدة تحت الحزام، سواء قبل انتفاضة 25 يناير2011 أو بعد انقلاب 11 فبراير 2011 أو خلال الأيام الثمانية عشرة البينية التي شهدت اعتصامي في "ميدان التحرير" وسط مئات ألوف المصريين، الهاتفين ضد فريق "مبارك" رغم أن غضبهم الحقيقي كان ناتجاً عن ممارسات الفريقين معاً!!.

(14)
حسب قواعد لعبة "الشطرنج" فقد قام الانقلابيون بتحريك أحجارهم على الرقعة لإزالة مصادر التهديد المحتملة عبر عدة نقلات مبرمجة سلفاً ومحسوبة بدقة، مما أسفر عن تكسير بعض الأحجار المنافسة وشل حركة البعض الآخر مع محاصرة الملك الخصم "حسني مبارك" لإجباره على التبييت في خانة وزيره "عمر سليمان" بحثاً عن الحماية، فإذا بوزيره الماكر الذي انفرد به قد تواطأ مع الانقلابيين لخلعه، وهكذا فإن "سليمان" القائم بأعمال رئيس الجمهورية والذي كان يدرك جيداً أن ما يحدث هو انقلاب لم يعترض على اعتلاء الجناح العسكري للانقلابيين رأس السلطة يوم 11 فبراير 2011، عبر إعلانهم عن انعقاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة في اليوم ذاته برئاسة وزير الدفاع بدلاً من رئاسته الشرعية الممثلة في شخص رئيس الجمهورية أو القائم بأعماله، بل زاد على ذلك بإعلانه في نفس اليوم قراراً مزدوجاً منسوباً لحسني مبارك بتخليه عن رئاسة الجمهورية وتكليفه المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي أصبح تحت رئاسة وزير الدفاع بإدارة شئون البلاد، ليبدو الأمر كأن خلع "مبارك" قد تم نزولاً عند الإرادة الشعبية فقط، وفي النقلة الشطرنجية التالية قام الانقلابيون العسكريون يوم 30 يونيو 2012 بتسليم القيادي الإخواني "محمَّد مرسي" رئاسة الجمهورية ذاتها على مضض، عقب قيامهم بانتزاع أهم سلطاتها وصلاحياتها لأنفسهم دون مقاومة جدية من جانبه رغم فوزه المستحق في انتخاباتها، ليبدو الأمر كأن تمكين الإخوان الشكلي قد تم بدوره نزولاً عند الإرادة الشعبية فقط، في ظل دعم وتغطية الإدارة الأمريكية المؤيدة لسيناريو الانقلاب المستتر غير المباشر باعتباره قد رفع عنها الحرج أمام شعبها والرأي العام العالمي بعد فشل محاولاتها السابقة لتحسين صورة "حسني مبارك"، الذي كان في إطار سعيه لتوريث رئاسة الجمهورية المصرية إلى نجله "جمال"، قد حرم الأنصار القدامى لتلك الإدارة داخل المؤسسات السيادية العميقة عام 2007 من "جزرة" التطلع إلى شغل موقع رئاسة الجمهورية، بعد أن حرم أنصارها الجدد داخل مكتب إرشاد جماعة "الإخوان المسلمين" عام 2006 من "جزرة" الحصول على نسبة الثلث البرلماني المعطل، لاسيما وأن "واشنطون" كانت لم تزل تحتاج إلى مشاركة الإخوان والعسكريين معاً في أنشطة التحالف الدولي لمكافحة العنف الجهادي الإسلامي وبقايا الشيوعية، فكان جزاء "مبارك" هو حصوله عام 2011 على "عصا" الانقلاب الثلاثي الذي نجحت مناورة "ميدان التحرير" في تمريره وكأنه ثورة شعبية خالصة، رغم مروره فوق أجساد عشرات الألوف من جماهير المصريين الشهداء والمصابين والمفقودين والمضارين، الذين راحوا ضحية النقلات الخطرة المتبادلة بين مختلف أطراف تلك المناورة الشطرنجية التي لم يكن للشعب المصري فيها ناقة ولا بعير، ابتداءً من قمع نظام "مبارك" للموجة الاحتجاجية الأولى الممتدة خلال الفترة منذ 25 يناير 2011 إلى 11 فبراير 2011، مروراً بقمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة للموجة الاحتجاجية الثانية الممتدة خلال فترة حكمه فيما بين 11 فبراير 2011 و30 يونيو 2012، وانتهاءً بقمع الحكم الإخواني للموجة الاحتجاجية الثالثة البادئة في 30 يونيو 2012 والممتدة حتى 3 يوليو 2013، ويتصاعد العنف المتبادل بين عدة أطراف بمضي الزمن ليسقط المزيد من الضحايا سواء بسبب استمرار غضب جماهير المحتجين المصريين، وهم "الشرفاء" بحق الذين يصعب عليهم تصديق حقيقة أنهم كانوا مجرد بيادق شطرنجية تم التضحية بها لإعادة توزيع مربعات رقعة الشطرنج على أحجار آل مبارك والإخوان والعسكريين والأمريكيين، أو بسبب استمرار وجود فريق من البلطجية يضم حوالي نصف مليون مجرم ومسجل خطر، هم الأعضاء السابقين فيما كان يسمى كذباً بلجان "المواطنين الشرفاء" السرية التابعة للمخابرات العامة أثناء حكم "مبارك"، والذين لا يعلم أحد على وجه الدقة لمن أصبحت تبعيتهم اليوم رغم استمرار تحريكهم المنظم لشن عمليات عنف مخططة سلفاً بحيث تؤدي إلى تمزيق الوطن لعدة أجزاء سهلة الابتلاع حسب مشروع "برنارد لويس" التفكيكي الشيطاني السابق الإشارة إليه، ورغم تحديد بياناتهم الصحيحة على لسان "أبو العلا ماضي" رئيس حزب "الوسط" الإسلامي نقلاً عن حديث شخصي أفضى به إليه رئيس الجمهورية "محمَّد مرسي" عام 2013، بعد تكرار الإشارات المبهمة إليهم على مدى عامين كاملين باعتبارهم "الطرف الثالث" أو "اللهو الخفي" أو "النخانيخ" نسبة إلى أكثر نجومهم شهرة "المعلم صبري نخنوخ"، هؤلاء الذين لم تزل كوابيسهم جاثمة على أنفاسي أنا وغيري من المصريين المسالمين حتى اليوم!!.
(15)
لم تخدعني مناورة الشطرنج الانقلابية رغم مشاركتي على مدى ثمانية عشر يوماً متواصلاً في اعتصام "ميدان التحرير" ضد الاستبداد والفساد والتبعية للخارج، الأمر الذي دفعني لكشف تلك المناورة وهي في أوج ازدهارها بنفس قدر معارضتي لنظام "مبارك" وهو في أوج جبروته، ونظراً لبداية مكاشفتي المبكرة بمقالي المعنون "ربع ثورة" المنشور في فبراير 2011 بجريدتي "الأهالي" و"الوفد" المصريتين فقد عاقبني المسئولون الجدد مبكراً، بسحب رتبتي المهنية كمستشار إعلامي مع نقلي إلى ديوان رئاسة الجمهورية لشغل وظيفة تكرارية هي كبير إعلاميين، إلى جانب استمرارهم كسابقيهم في الامتناع عن علاج عمودي الفقري المكسور نتيجة لإصابة واجب وطني بل واستدراجي إلى عملية جراحية فاشلة زادت الطين بلة، مما اضطرني للإقامة داخل دار رعاية معاقي الإصابات الجسمانية والعجزة والمسنين الكائنة بضاحية "التجمع الخامس" في محافظة "القاهرة"، حيث زارني للترحيب بقدومي أكبر نزلاء الدار سناً والذي لم يكن سوى الشيخ الثري مالك شركة الإنتاج الإعلامي والقيادي الإخواني، بعد أن أقعدته الشيخوخة عن مواصلة مهامه التنظيمية على رأس شعبتي الإعلام والعلاقات الخارجية بالجماعة، فالتقاني باكياً بحرقة لأنه على وشك لقاء ربه وفي عنقه ذنوب المناورات الإخوانية القديمة والحديثة، قائلاً إن أطياف عشرات الألوف من الضحايا المصريين الذين احترقوا كوقود لنجاح مناورتي "الجهاد الأفغاني" و"ميدان التحرير" يزورونه أثناء نومه ليبصقوا في وجهه حتى جعلوه لا ينام، ورافضاً مغادرة غرفتي قبل حصوله على وعدي بمساعدته في كشف المستور لتصل هذه البصقات المشروعة إلى بقية مستحقيها من المناورين الآخرين، سواء كانوا قادة معسكر الانقلابيين القدامى الذي أدار جمهورية الخوف منذ عام 1952 حتى عام 2011 بمؤسساته العسكرية والمخابراتية وأجنحته السياسية ثلاثية المراحل الناصرية ثم الساداتية ثم المباركية، أو كانوا قادة المعسكر الإسلامي التقليدي بفروعه الصوفية والسلفية والجهادية أو كانوا قادة معسكر النخبة المدنية بفروعه الليبرالية والماركسية والقومية، وسواء كانوا قادة معسكر الانقلابيين المعاصرين بأجنحته الثلاثة المتحالفة اضطرارياً وهم الأمريكيون والعسكريون والإخوان المسلمون، الذين نجحت مناوراتهم الالتفافية أخيراً في تمكينهم لمدة عام واحد فقط من الاستحواذ على السلطة المصرية بعد تسعة عقود من مغازلتها، إلا أنه لم يتعد كونه استحواذاً ظاهرياً فقط حيث استمر التمكين الحقيقي لمفاصل الدولة والمجتمع في أيدي الوجوه الجديدة لنفس المؤسسات العسكرية والمخابراتية القديمة تحت غطاء جديد لنفس الإدارة الأمريكية التي كانت تغطي الدولة القديمة، رغم أن "أحمد أبو الغيط" آخر وزراء خارجية جمهورية الخوف الأولى قد وصف الإدارة الأمريكية في كتابه الشهير "شهادتي" نقلاً عن الرئيس السابق "حسني مبارك" الصديق الحميم لتلك الإدارة على مدى تجاوز الخمسة وثلاثين عاماً بأنها "من يتغطى بها عريان"، ولا عزاء لعشرات الألوف من الضحايا المصريين الذين كان القادة المذكورون قد نجحوا في المناورة بهم وعليهم، ليس فقط أثناء كفاحهم الديمقراطي ضد استبداد "جمال عبدالناصر" وكفاحهم الوطني ضد تبعية "أنور السادات" للخارج وكفاحهم الاجتماعي ضد استشراء الفساد في عهد "حسني مبارك"، ولكن أيضاً أثناء جهادهم الديني لإخراج القوات السوفيتية من "أفغانستان" وقبل ذلك كله أثناء مقاومتهم القومية ضد الاحتلال الإسرائيلي لأراضي "فلسطين"، بما سمح لإسرائيل أن تتوسع وتفرض احتلالها كأمر واقع على المزيد من الأراضي المصرية والعربية، ناهيك عن المناورات السياسية السامة التي أنجزها عملاء "الطابور الخامس" المحليين تنفيذاً لأوامر أسيادهم المقيمين في الخارج بإشعال الفتن بين المصريين، الذين وجدوا أنفسهم اليوم بعد كل تضحياتهم لإزاحة جمهورية الخوف الأولى يقفون على أعتاب جمهورية خوف جديدة، فأخطاء الماضي قابلة للتكرار في الحاضر والمستقبل طالما استمرت آفة تزوير التاريخ لدى مؤرخي السلطة المغرضين وآفة التناقض بين الأفكار النظرية وتطبيقاتها العملية لدى المؤرخين الانتهازيين!!.
طارق المهدوي



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن