معدان الوردة الهولندية

نعيم عبد مهلهل
noor21949@windowslive.com

2017 / 2 / 13


ما أن يعبر القطار الذاهب من مدينة دوسلدورف الى امستردام مدينة فينلو الهولندية حتى تظهر لكَ حقول ملونة من زهرة التوليب بضوئها المتعدد الألوان واغلبه البرتقالي الذي صار شعارا للملكة الهولندية ولون قمصان منتخباتها الوطنية .
أتت زهرة التوليب الى هولندا من اراضي الدولة العثمانية وكان في القرن السادس عشر كيلو غرام من بصيلاتها يساوي سعر طن من الزبدة .
تعرفت على التوليب من خلال زميل معي في ذات المدرسة التي تعينت فيها في الاهوار ، وكان هذا المعلم مغرما بهولندا ويزورها كل عطلة صيفية أيام كان الدينار العراقي يساوي اكثر من 3 دولارات امريكية ، وكان الوصول الى تركيا ومن ثم دول أوربا بقطار طوروس لا يكلف سوى خمسة دنانير.
لم يسمح لي راتبي (33 ) دينار شهرياً أن ارافق زميلي بسبب أن أبي أخذ منه وكيل الخواجه اليهودي علوة القمح وعليه أن يتدبر اخرى وهو لا يملك من الدنيا سوى تنور خبز يذهب عنا الجوع وبيت بغرفة من الصرائف واثنتين من الطين.
لهذا ومن خلال عشق صديقي لزهرة التوليب كنت اصغي لحكايات ممتعة عن جمال بنات لاهاي وامستردام ولماذا اهدى الهولندي فان كوخ إحدى اذنيه الى سيدة ابدت ملاحظة هزلية حول حجمهما ، تلك القصص بخيالها ومتعة صديقي بالحديث عنها دفعت عاملي الخدمة في مدرستنا ( شغاتي وريكان ) الى الطلب من المعلم ومني إن كان بالإمكان جلب بصيلات او بذور زهرة التوليب لزرعها في حقل صغير امام المدرسة ، وحين قال صديقي أن زراعتها تحتاج الى سماد جيد ،اجابا : أن روث الجواميس افضل انواع السماد ، معللين ذلك انهما تولعا بالزهرة وهولندا وحكاية الهولندي الطائر ، فهي تحمل رسائل مثل رسائل نوح ، وايضا استغربت من اصغائمها لموسيقى الهولندي الطائر التي صنع منها فاكنر اوبرا شهيرة، وربما شغاتي وريكان اول رجلين من اهل المعدان يستمعان الى موسيقى أوبرا .
جلبت أبصال زهرة التوليب بعد ان وجدتها في محل لبيع البذور ، وكانت سعادة الرجلين كبيرة عندما بدآ بشتلها والعناية بها مع اول ظهور للنبتة من بين التراب ، وهكذا مع مرور الزمن وحكايات زميلنا عن سحر هولندا وجمال نسائها وحدائقها وعلنية القبلات الغرامية بين العشاق في الباص والقطار والشارع العام ، كبرت زهور التوليب وظهرت بألوان عديدة في حقل صار يهدئ فينا التعب والغضب.. وفي المساء نضع حوله الكراسي ونستمع لأوبرا فاكنر او اغنية لنجاة او ام كلثوم فيما شغاتي وريكان يفترشان الارض وهما يستمعان بمرح للموسيقى وعيونها تنظر بحنان الى حقل الورد.
كبر الحقل بعدما كانت عناية الرجلين له تزيد من ابصاله وبذوره ، ولينقلا بعضا من تلك الابصال ويزرعاها امام بيتهما ، وحين توفي ريكان وفارق صديق عمره شغاتي كانت امنيته أن يزرعوا زهرة التوليب قرب قبره ولقد اوفى شغاتي بما تمنى عليه صديقه أن يفعله ، ولكنه قال لي مرة بحزن : أنا حين اموت اتمنى أن يكون التوليب قرب قبري ،هل تتكرم وتزرعه قرب رأسي النائم.
قلت :بكل امتنان.
الآن أنا اعيش حياة المنفى قرب قبر غوته وازور هولندا بين الحين والحين واتذكر شغاتي وريكان كلما تداهمني حدائق التوليب بجمالها ثم انفث حسرة على عدم وفائي لما تمناه شغاتي مني ،حيث انتقل الى السماء فيما انا اعيش هنا صباحات غربتي بعيدا عن سعادته المسائية وهو يستمع الى موسيقى فاكنر وينظر بحنان لزهور التوليب.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن