استراتيجيات تقليص الدعم - قراءة فى التجربة المصرية من منظور دولى

محمد شيرين الهوارى
mohamed.shirin@gmx.com

2017 / 2 / 9

تعانى مصر من مشكلة قديمة قِدم دولتها الحديثة منذ محمد على وحتى الآن، وربما تعود جذورها إلى أبعد من ذلك حيث دائماً ما يعتقد الشعب ومعه قياداته السياسية والإدارية والاقتصادية أن مصر حالة فريدة لا يمكن مقارنتها بالحالات الأخرى فى أقطار المعمورة كافة وأن تفردها الثقافى والتاريخى يجعلها غير قابلة للقياس الموضوعى مع باقى الدول.
وقد كان لهذا الفكر العقيم أثراً شديداً على أن يكون لمصر اليوم موقعاً خارج التاريخ وأن نجد أنفسنا فى الكثير من الأمور مضطرين كل مرة إلى "اختراع العجلة من جديد" وليس الاستفادة من تجارب الغير وتفادى أخطائها ومحاولة استنساخ مميزاتها وهو ما كان إن تم سيوفر علينا الكثير من الوقت والجهد والمال ويقينا من محاولات فاشلة عديدة تحمل الكثير من المجازفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولعل أبرز مثال على هذا هو إجراءات تقليص الدعم شديدة القسوة التى تنتهجها الإدارة الحالية منذ يوليو 2014 والتى تبدو مثلها مثل سياسات اقتصادية أخرى كثيرة وكأنها لم تسبقها أى دراسات أو أبحاث جدية وتجئ فقط مدفوعة بضيق ذات اليد دون أن يكون لها مقدمات موضوعية أو منطقية.
فنحن حتى لو افترضنا أن هناك ضرورة فعلية لتقليص الدعم من الأصل وأن هذا هو الحل الوحيد للخروج بالاقتصاد المصرى من محنته – وأنا شخصياً أختلف على ذلك وأرى فى هذا الإجراء ضرراً يزيد عن المنافع – سنظل نقول أن حكومتى محلب وإسماعيل تجاهلا أبسط البديهيات التى كان يجب مراعاتها أولاً، إما عن قصد وهذه مصيبة أو عن عدم علم وهذه مصيبة أكبر. وعليه جاءت ولا تزال تجئ خطوات تقليص الدعم بشكل فوقى وبفروض قسرية معبرة عن فكر يعتمد على الحلول الأمنية لقمع أية احتجاجات شعبية قد تنتج عن معاناة البسطاء من ارتفاع أعباء المعيشة.
ونرى على سبيل المثال فى حالة النيجر، وهى دولة أفقر من مصر كثيراً وتتشابه معها فى ظروف عدم الاستقرار السياسى والأمنى منذ الإنقلاب العسكرى فى فبراير 2010 ، نموذج مثالى على أهمية إجراء حوار مجتمعى موسع حول الإجراءات التقشفية المزمعة إن كانت هناك نية لانجاحها وإشراك منظمات المجتمع المدنى مثل النقابات والروابط المهنية المختلفة فى التطبيق وهو ما رأيناه أيضاً فى ناميبيا التى شهدت هى الأخرى تحركات واسع النطاق لإعادة هيكلة الدعم فى أعوام 2008 و2011.
أما الإدارة المصرية، فقد اختارت تجاهل الجميع والاستمرار فى نهج الانغلاق الكامل على نفسها وغلق كافة منافذ الحوار ومفاجأة الشعب بقرارات تؤثر على حياته اليومية بشكل مباشر وتقلل من مستوى معيشته إلى حدٍ كبير.
وتعلمنا كذلك من التجربة الأندونيسية فى هذا الشأن – رغم إشكالياتها وسلبياتها العديدة – ضرورة أن تصاحب إجراءات تقليص الدعم خطوات جادة نحو زيادة الشفافية فى عرض تفاصيل الإيرادات والمصروفات العامة للدولة حتى يتبين للمواطنين أن الحكومة لم يكن أمامها مفر سوى توفير جزء من بنود الدعم لمعالجة عجز الموازنة العامة واختلالات الميزان التجارى وأن هذا فى النهاية يصب بالتالى فى مصلحتهم. ,وقد فعلت الحكومة الأندونيسية ذلك عام 2014 وتمكنت بالفعل من توفير 15.6 مليار دولار من المبالغ المخصصة لدعم الوقود وحده وكاشفت شعبها عن كيفية إنفاق كل سنت من هذا المبلغ والذى ذهب معظمه حينها إلى استثمارات جديدة فى البنية التحتية المتهالكة. إلا أن إدارة الرئيس السيسى تتفنن ولا تزال فى إخفاء معظم الحقائق الاقتصادية عن الشعب فأصبح كل شئ متعلق بذلك يكتنفه الغموض ولا يعرف المواطن يقيناً أن الحكومة قد استنفذت بالفعل كافة الخيارات الأخرى قبل أن تقرر الإثقال عليه من جديد مما يقلل من قبوله للوضع الجديد ويؤثر بالتالى على السلم الاجتماعى عموماً.
وكما سبق وأن ذكرت ليس من الظاهر أن الحكومة قد قامت بإجراء ما يكفى من الدراسات لتحديد تداعيات تقليص الدعم على مختلف أنواع الأنشطة الاقتصادية والتجارية لتلافى أكبر قدر ممكن من أثاره العكسية كما فعلت غانا مثلاً والتى قلصت الدعم على المحروقات بشكل كبير فى سبتمبر 2015 ولكن تمكنت فى الوقت نفسه من امتصاص سلبيات عديدة لهذا القرار عبر زيادة دعم الصحة والقطاع الزراعى وهو ما لم يحدث فى مصر بالطبع حيث كانت الإجراءات شمولية دون مراعاة حقيقية للبعد الاجتماعى أو أى محاولات جادة لتطبيق آليات تخفيف الآثار على الطبقات الأكثر فقراً مثل تلك التى رأيناها فى موريتانيا مثلاً أو – مرة أخرى – فى النيجر. وليس من المنطقى بالطبع اعتبار زيادة شهرية مقدارها ثلاثة جنيهات على البطاقات التموينية أنها معادلة للغلاء الجنونى الذى تشهده الأسواق المصرية كافة فى هذه الأيام.
ومن الواضح أيضاً أنه لم يتعلم أحد شيئاً يذكر من الشلل والركود الذى أصاب أسواق موريتانيا جميعها تقريباً عندما قامت بتخفيض الدعم على الأسماك عام 1998 والمحروقات عام 2011 ثم منتجات اللبان عام 2015. ولم يكن ذلك بالضرورة بسبب تقليص الدعم فى حد ذاته ولكنه جاء فى الأساس على خلفية اتخاذ هذه القرارات وتطبيقها بسرعة مبالغ فيها وهو نفس ما فعلته الحكومة المصرية التى خفضت كافة أنواع الدعم بدرجات متفاوتة – ولكن كانت جميعها مؤثرة – فى أقل من عامين ونصف مما جعل الأسواق غير قادرة على التأقلم مع الأوضاع الجديدة وأدى إلى عجز البنك المركزى ووزارة المالية عن اتخاذ الإجراءات اللازمة لامتصاص الآثار التضخمية المتوقعة.
هذا بالإضافة إلى سوء توزيع الأعباء الناتجة عن عملية إعادة هيكلة الدعم التى أقدمت عليها حكومتى محلب وإسماعيل لما جاءت التخفيضات غير متوازنة ولم تتحمل الطبقة شديدة الثراء الجزء العادل النسبى منها كما حدث فى البرازيل وشيلى حيث جاءت التخفيضات الرئيسية لدعم المحروقات مثلاً فى البداية فقط على حساب وقود المركبات الفاخرة التى يستطيع أصحابها تحمل فروق الأسعار.
أما فى مصر، فقد تم تحميل العبء الأكبر للطبقات الوسطى وما أسفلها مادياً. ومن هنا كانت المأساة.
الحقيقة هى أن الحكومات المصرية منذ يوليو 2014 لم تلتزم فى كافة قراراتها الخاصة بتخفيض الدعم سوى بجزئية واحدة فقط لا غير مما تعلمه لنا الكتب والتجارب العالمية فى هذا الصدد ألا وهى الحملة الإعلامية الضخمة التى تحاول الحكومة من خلالها تسويق تطلعاتها لعموم الشعب وهو أمر لا أنكر أهميته وإن كان يتم بشكل ساذج نوعاً ومفتقد بشكل شبه كامل لصحيح المبادئ المهنية وبالتالى للمصداقية أيضاً.
خلاصة القول إذن هى أن ما يحدث فى مصر حالياً نوع من الفقر فى الفكر الاقتصادى، بل والجهل به تماماً والتعامل مع كافة التجارب الدولية بدرجة من الاستخفاف يصعب تصديقها وهو إن نم عن شئ أصلاً فهو ينم عن ضعف المؤهلات والقدرات لدى القائمين على الشأن الاقتصادى للبلاد.
أحذروا!!!!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن