الكسل الفكري السوري بين الضلالة والهدى

خليل عيسى
khalil_issa1982@hotmail.com

2016 / 12 / 21

منذ مدّة نشر الباحث الأميركي توبياس شنايدر من جامعة "جونز هوبكنز" مقالًا بعنوان معبّر هو "إنّ تعفّن النظام السوري هو أسوأ مما تعتقد" طرح فيه مقولة تفيد بأنّ النظام السوري يواصل ضموره الفعلي في ظلّ وجود تحالف لا تنفصم عراه بين "الإقطاعية واللصوصيّة" وترجم للعربيّة. وحسب الكاتب، فإنّ من يقاتل تحت راية النظام أعداد كبيرة من المرتزقة بتمويل إيراني بينما "تحارب الغالبية العظمى من القوات في سوريا اليوم، وخاصةً بين الأقلية من مؤيدي النظام، في حرب محلية متزايدة لحماية مجتمعاتهم خصوصًا". هذه التشكيلات الأخيرة "المحليّة الصنع" هي تحت إمرة أمراء حرب شكّل لهم اقتصاد الحرب فرصة الثراء من موارد مثل النفط وفرض الأتاوات والتهريب والتشبيح على الممتلكات العامة والخاصة وغيرها الخ، أمّا رأس الهرم في دمشق فهو لم يعد يتحكّم فعليّا بكل هذا الجسم المتلاطم من التشكيلات التي تنعدم سيطرته عليها في كثير من الأحيان. طرح شنايدر هذا يقع في تعارض مباشر مع توصيف للنظام السوري هيمن منذ بدء الثورة السوريّة على الأكثرية الساحقة من الكتابات المؤيدة للثورة. ويمكن اعتبار مقالة الكاتب ياسين الحاج صالح التي خُطّت منذ أربع سنوات تحديدًا قبل كتابة مقالة شنايدر بعنوان "الدولة الباطنة والدولة الظاهرة في سورية" أفضل ممثّل صريح وجدّي لهذا الطرح النظري حول النظام السوري المهيمن. كَتب الحاج صالح نصّه غداة "انشقاق" رياض حجاب الذي انتقل حينها من رئيس وزراء حكومة النظام إلى الصفوف الأمامية للمعارضة. يبدأ النصّ من عدم تأثّر النظام بانشقاق حجاب ليقول أنّ الدولة الباطنة "هي ما نسمّيه عموماً "النظام"، هي مركّب سياسي-أمني، قائم على علاقات الثقة الشخصيّة، ونواته الصلبة عائلية طائفيّة. أمّا الدولة الظاهرة... فهي جملة الأجهزة والوظائف العامة المخفوضة القيمة التي تظهر أمام السوريين ويتعاملون معها في حياتهم اليومية: الحكومة والإدارة والتعليم والشرطة والجيش العام والقضاء ومجلس الشعب." لقدّ تمّ في الكثير من الأحيان تحديث أو تعديل هذه النسخة من "الدولة الباطنة" وإقامة تنويعات عليها، وليس دومًا من قبل الكاتب نفسه. أما أكثر التحديثات انتشارًا كانت المماهاة بين هذه "الدولة الباطنة" و"الطائفة العلوية" ككلّ واحيانًا بافتراض وجود "علوية سياسية" (صادق جلال العظم)، مما يعني أنّ "الثورة" هي ببساطة كلّ ما تبقّى، وبالتكامل يكون ذلك "الطائفة السنّية". إنّ فكرة الدولة "الباطنة/العميقة" ترجع في أصلها إلى مقولة صوفية عشّشت تاريخيًّا في مكان من مكانين: المكان الأوّل هو نظريات المؤامرة الأميركيّة الصنع حول "من يمتلك "السلطة الحقيقية" في الولايات المتّحدة والذي ما لبث أن انتقل إلى مكان ثانٍ هو تركيا حيث راجت تلك "النظرية" لسنوات هناك، قبل أن يضحدها واقع تصفية اردوغان لهذه "الدولة العميقة" المفترضة وزجّ "أعضائها" في السجون باسم "الحرب على الانقلابين" بسهولة فائقة، مما يجعلنا نتساءل هل كان هناك في تركيّا حقًا "دولة عميقة" في يوم من الأيّام. أمّا في السياق السوري فهي ترث مقولة "الدولة العميقة" التي راجت هناك بعد انقلاب السيسي.لقد جرى تبنّي هذه النظرية الزائفة حول الدولة المملوكية/العميقة/الباطنة في السياق السوري عندما كان هناك لا يزال أمل كبير بإسقاط النظام.
يجدر الول بأنّ مفتاح بُعد كل هذه النظريات السائدة عن فهم الواقع يكمن في وعيِ أنّ من يقف مع النظام السوري من "السنّة" كما من غير "السنّة"، إنّما يفعلون ذلك على مبدأ المنفعة أو المصلحة وليس لانّهم "يحبّون" بشّار الأسد. وأعداد هؤلاء ليست بسيطة بأيّة حال. فقد نجح بشّار الأسد فيما لم تنجح الثورة ومعارضتها السياسية به، إلا وهو تجميع العديد من الناس والمصالح المتناقضة في ما بينها على أساس المصلحة المشتركة. من نافل القول إذًا أنّ تجريد "الدولة الباطنة" الموجودة في أذهان الناس يزيّف، على سبيل المثال لا الحصر، واقع أنّ هناك رجال أعمال "سنّة" لا ينتمون لنواة "العائلة والطائفة" كانوا ولا يزالون من أعمدة النظام، وأنّ معظم مسؤولي الأفرع الأمنية في المدن الساحلية السوريّة حيث تتواجد أكثرية "العلويين"، هم من الضباط "السنّة" ولا زالوا. لا يشير هذا "الفهم" إلى أنّ العدد الأكبر من صفوف جيش النظام كان وبقي دومًا من "السنّة". ومن نافل القول إذا أنّ النظام السوري ولو أنّه نظام مخابراتي ممسوك أمنيًّا وعسكريًا من قبل حلقة ضيّقة، لكنّه لم يكن يومًا نظاما "علويًّا" بالمعنى الإيديولوجي للكلمة. وأنّه ليس هناك أصلًا من أيديولوجيا "علوية" ترافق الضباط "العلويين" الموجودين برتب عالية وبكثافة في الأجهزة الأمنية والتي فيها ضباط "سنّة" بكثرة كذلك. هناك أيضًا أعداد هائلة من الطبقات الوسطى المدينية في حلب ودمشق منها أكثرية من "السنّة" بطبيعة الحال، كانت دومًا تناصر النظام وتدعمه أو تبقى محايدة على الأقلّ. هؤلاء كلّهم من المستفيدين من بقاء النظام ولهم مصلحة مباشرة أو غير مباشرة بأنّ يكونوا معه. ليس في الأمر كره أو حبّ مسبق للنظام أو رئيسه. حبّ النظام وكره الثورة يأتي فقط بعد تحقّق المصلحة. هذا كلّه لا تلتقطه صورة "الدولة الباطنة" التي لا تريد أن تقول أنّ النظام السوري هو أكثر من "نواة" بكثير، وهي مقولة بدأت ثوريّة وتفاؤلية الأهداف لكنّها أمست الآن بعد خمس سنوات عاجزة سوى عن أن تكذب على نفسها: "النظام" لم يكن يومًا مجردّ نواةً صغيرة مغلقة بل كان دومًا عالماً كاملاً من الناس من كل الطوائف والمدن والأرياف والعشائر بمن فيهم بشر من الطائفة "السنيّة" تحديدًا قبل أيّ طائفة أخرى، علمًا أنّ رؤية ذلك لا تقلّل من شرعية المطالبة بإسقاط النظام، ولكن عدم رؤية ذلك إنّما يقلّل من فرص حصول ذلك، لأنّه وببساطة "لم يُعرف عن الجهل أنّه ساعد أحدًا بعد" على حدّ قول ماركس.
وماذا عن النواة؟ هناك فعلًا نواة في النظام تتحكّم بالخطوط العريضة والاستراتيجية للحرب، لكنها تفعل ذلك بوصفها المحصّلة النهائية لكل الصراعات التي يخوضها النظام بشكل كلّي من خلال واقعه الكامل ضد التناقضات في المصالح التي قد تنشأ داخله ومع/أو بين الحلفاء الإقليمين والدوليين الداعمين له. لكن المشكلة الأكبر من خلال كلّ ما سبق، هو حقيقة أنّ التنظير للثورة السوريّة اعتمد دومًا التضليل المعرفي للواقع، وهو ما لم ينشر في النهاية سوى التشويش. فمقالة شنايدر تتفوّق مثلًا على الطرح المهيمن في أنّها تكترث فعلًا للوقائع وتكترث للتحوّلات التي تنشئ في بنية النظام وبشره لتحاول أن تنطلق مما يحصل على أرض الواقع، لكنّها تغالي كذلك في التفسير الإقتصادوي لما يحصل والذي يبدو أحيانًا كمقاربة وضعية "أميركية" تقليديّة تنزع لأن تنطلق من بعض الوقائع الثانوية الأهمية لتعمّم على الظاهرة ككلّ: النظام فعلا مؤلّف من ميليشيات وأمراء حرب، الواحد تلو الآخر، لكنّ ما لم يفهمه شنايدر هو أنّ النظام إيّاه أكثر من عملية جمع الواحدة مع الأخرى. نقول هذا بينما الطرح السائد في النظر إلى النظام بين كتّاب المعارضة لا ينشغل أصلًا بكل هذا النقاش فيتكّل على إيمان غيبي يقدّم قرابين "الدولة الباطنة" على مذبح الواقع الواقعي، ليبني جبالًا من الأوهام والأحلام. الثورة السوريّة تستحقّ أكثر من هذا الكسل الفكري بكثير وصراحة أكثر ثوريّة في مواجهة الواقع الذي نكره. (نشر في جريدة "المدن")



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن