في فرضية التطور: مزيد من الشرح

محمد عادل زكي
m_adel_z@yahoo.com

2016 / 12 / 14

(1)
أثار مقالي (التطور: أزمة التصادم بين الدين والعلم، المنشور بالعدد: 5369، بالحوار المتمدن) الكثير من الآراء المتحفظة بوجه عام، والرافضة بوجه خاص، ولذا أجد واجباً، في هذا المقال، استكمال شرح ما قد كتبته موجزاً. وبطبيعة الحال ما أقدمه هو محض فرضية، وليس نظرية.
(2)
من آلاف السنين، ونحن البشر لا نكف عن التطور على الصعيد الاجتماعي. فما هو المحرك الأساسي لهذا التطور؟ كيف تطورنا من سكن الكهوف إلى حياة المنتجعات وناطحات السحاب؟ ومن لبس جلود الحيوانات إلى ارتداء أرقى وأفخم أنواع الثياب المصنوعة بواسطة أعلى التقنيات؟ ومن الارتعاد رعباً من صوت الرعد ولمعان البرق إلى استئناس قوى الطبيعة والسيطرة عليها في سبيل خدمتنا؟ كي نتعرف إلى ملامح الإجابة على السؤال المركزي المتعلق بالمحرك الأساسي لتطور جنسنا البشري على الصعيد الاجتماعي، وما يرتبط به من أسئلة، يتعين أن لا نكتفي بالتعرف إلى محددات عملية التطور، بل نتعرف، وفي المقام الأول، إلى المحرك الأساسي لمغادرة الإنسان مرحلة تطورية والولوج في أخرى.
(3)
ولكن، قبل المضي في التحليل، يتعين علينا أن نناقش أمر التطور، فمن الإشكاليات التي أثارتها ابحاث داروين (1809-1882)، أن الإنسان تطور على القردة العليا. كما أن الابحاث التالية، وباستخدامها تقنية الكربون المشع (C12، C14) أثبتت أن عمر الإنسان يعود إلى ملايين السنين وليس آلاف السنين. والأمران، من جهة تطور الإنسان وعمره على الأرض، يتصادمان تمام التصادم مع الدين؛ فالدين، سواء العبراني أو الإسلامي، يقول أن الله خلق البشر. وداروين يقول أن الإنسان تطور عن القردة العليا. كما أن الدين يقول أن عمر الإنسان لا يتجاوز الـ 50 ألف سنة، ولكن الابحاث العلمية تقول أن الإنسان وجد منذ ملايين السنين!
ولكي نحاول فض هذا الاشتباك، غير الحقيقي في تصورنا، يتعين أن نتعرف إلى بدء الوجود، وحينئذ نجد لدينا ثلاثة مصادر أساسية:
أولاً: الكتب المقدسة.
ثانياً: كتب التراث.
ثالثاً: الابحاث العلمية.
فبالنسبة للكتب المقدسة، لدينا أولاً سفر التكوين، وهو أول أسفار التوراة الخمسة، ويقسم هذا السفر منهجياً إلى قسمين كبيرين: أولهما: ينشغل بذكر موضوع الخلق، ويتناول بالسرد المرحلة من آدم إلى نوح، وما تحتويه هذه المرحلة من مجريات الأمور في جنة عدن بين آدم وحواء والشيطان، ثم ذكر قتل قايين لهابيل، ثم ينتقل السرد إلى ذكر الفترة من نوح إلى إبراهيم وما تحتويه هذه الفترة من أحداث تبدأ بالطوفان وتنتهي ببرج بابل الَّذي هدمه الرب بعد أن تغطرس البشر وأرادوا الوصول إلى آلهة السماء. أما القسم الثاني: فينشغل بتاريخ الآباء ويحتوي على تاريخ إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف. وحينما يموت يوسف يترك إخوته وأهله في أرض مصر الَّتي سوف يذوقون فيها العبودية، وسيكون تحريرهم وإعادتهم إلى"أرض الآباء" موضوع السفر التالي أي سفر الخروج.
أما القرآن فهو يذكر ثلاث مراحل: مرحلة خلق آدم، الذي كان محل تحفظ من الملائكة (البقرة،30- 35)، ثم مرحلة الخروج من الجنة، أثر مخالفة الأمر الإلهي (البقرة، 36)، وأخيراً بدء الصراع، بقتل قابيل لهابيل (المائدة، 27-31).
وبالنسبة لكتب التراث، المستقى أغلبها من مرويات معتمدة على الكتب المقدسة، فمن أبرزها: الكامل لابن الأثير، تاريخ الرسل والملوك للطبري، البداية والنهاية لابن كثير، الشهنامة للفردوسي، مروج الذهب للمسعودي.
أما الابحاث العلمية، فمع نهايات القرن التاسع عشر ظهر كتاب داروين، مؤكداً أن «كلما ولد عدد أكبر من الكائنات الحية كانت احتمال نجاتها أكبر، ومع ذلك يبقى هنالك المزيد من الصراع بين الكائنات للبقاء على قيد الحياة, وذلك شامل لكل الموجودات, وإن كان هذا مختلفا لكنه مفيد ولو بشكل قليل لأي نوع من الأنواع, وتحت هذا التعقيد والاختلاف في ظروف المعيشة للكائن, سوف يكون هناك فرصة أفضل للعيش فقط من قبل أولئك المنتقون من قبل الطبيعة. من المبدأ القوي للوراثة, فأن أي تنوع مختار سوف يميل إلى التطور والارتقاء في شكل جديد»(1) كي يخلص إلى انحدار الإنسان من القردة العليا.
ومن جهة أخرى، فحتى منتصف القرن التاسع عشر أيضاً كان ينظر إلى تاريخ الجنس البشري ابتداءً من انقسامه إلى حقبتين كبيرتين: حقبة المجتمع البدائي، وحقبة الحضارة. ولكن مع منتصف القرن التاسع عشر بدأت المؤلفات الكلاسيكية بالظهور وكان أبرز تلك المؤلفات كتاب ه. مين (1822-1888) القانون القديم، عام 1861، وكتابه المجتمعات القروية في الشرق والغرب، عام 1861. وكتاب ي. باخوفن (1815- 1887) حق الأم، عام 1861. وكتاب ف. دو كولانج (1830- 1889) المدينة العتيقة، عام 1864. وكتاب ج. ماكلينان (1827-1881) الزواج البدائي، عام 1865. وكتاب أ. تايلور (1832- 1917) ابحاث في التأريخ القديم للجنس البشري، عام 1865، وكتابه الحضارة البدائية، عام 1871. وعلى الرغم من هذه المساهمات المهمة، فقد كان كتاب ل. ه. مورجان (1818- 1881) نظم روابط الدم والمصاهرة في العائلة الإنسانية، الذي صدر عام 1870 بمثابة نقلة نوعية حاسمة في سبيل دراسة التطور بمنهجية أكثر عمقاً وأكثر وعياً، فقد وجه مورجان ضربة قاضية إلى التقسيم القديم، حينما قدم فرضيته التي تحدد المعاني العلمية للمراحل الثلاث من مراحل التطور البشري وهي الوحشية والبربرية والحضارة، والتي تتميز عن بعضها البعض عن طريق خصائص مادية محددة، وتنقسم بدورها إلى مستويات أدنى ومتوسطة وعليا.(2)
(4)
ونحن من جانبنا نرى أن رفع التعارض يبدأ من إعادة فهم النص القرآني لا التوراتي؛ فالقرآن يقول:
"وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَال من حَمَإ مَّسْنُونٍ، وَالجَانَّ خَلَقنَاهُ من قَبلُ مِن نارِ السَّمُوم، وإِذْ قَال رَبُّك لِلْمَلائِكَة إِنِّي خَالِقٌ بَشَرا من صَلْصَالٍ من حَمَإ مسنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيتهُ وَنَفَخْتُ فِيه مِن رُّوحي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين".
والمفهوم، بجلاء، من النص أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان (بصيغة الماضي)، ولكنه سيخلق بَشَرَاً (بصيغة المضارع التي تفيد الاستقبال)، والمفهوم أيضاً أن الله سوف يخلق البشر بشكل، وبموضوع، أكثر تطوراً عن الإنسان، ولذا لا إشكال طالما نؤمن بالخالق، حينما نجد تشابهاً شكلياً أو جينياً مع الإنسان الأول، سواء إنسان جاوة أو إنسان بكين. وما يدعم فرضيتنا أن الله سبحانه وتعالى دوماً ما يذكّر البشر بأصلهم الإنساني حينما يستخدم كلمة الإنسان على سبيل الذم. فمثلاً:
"وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا"(النساء، 28)
"إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ"(إبراهيم، 34)
"خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ" (النحل، 4)
"وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا"(الإسراء،11)
"وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا" (الإسراء 67)
"وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ" (الإسراء 83)
"وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا" (الإسراء 100)
"وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (الكهف 54)
"إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ" (الحج، 66)
"وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" (الأحزاب، 72)
"أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ" (يس، 77)
"قتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَه"ُ)عبس، 7)
ومع الوقت والتطور، لم تعد كلمة بشر، في النص القرآني، جديدة أو مستغربة، بل صارت الكلمة الأكثر استخداماً وتعبيراً عن جنسنا الإنساني المتطور، فمثلاً:
"قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ" (آل عمران، 47)
"بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ" (المائدة، 48)
"وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ" (الأنعام، 91)
"قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا" (إبراهيم، 10)
"قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ" (إبراهيم، 11)
"وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ" (النحل، 103)
"قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ" (الكهف، 110)
"مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ" (المؤمنون، 24)
"مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ" (الشعراء، 154)
"وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ" (الشعراء، 186)
"وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ" (الروم، 20)
"قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَٰنُ مِنْ شَيْءٍ" (يس، 15)
"قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ" (فصلت، 6)
والبشر، كما يقول أبو هلال العسكري(3)، يقتضي حسن الهيئة، وذلك أنه مشتق من البشارة، وهي حسن الهيئة؛ يقال: رجل بشير، وامرأة بشيرة إذا كان حسن الهيئة. ويجوز أن نقول من البَشَرة وهي ظاهر الجلد وقالوا عبر عن الإنسان بالبشر لأن جلده ظاهر بخلاف كثير من المخلوقات التي يغطيها وبر أو شعر أو صوف فسمي بشراً باعتبار ظهور بشرته. ومنه قيل لظاهر الجلد بشرة. كما أن كلمة إنسان مناسبة للمراحل الأولى حيث الإنسان في أمس الحاجة إلى المؤانسة في ظل قوى الطبيعة الغامضة والأخطار الدائمة.
أما قوله تعالى:
"وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ".
فيشير إلى انتقال الإنسان إلى مرحلة تلقي التكليف. والملائكة كانت تعاين الحياة الأولى للإنسان الأول، وتراه مفسداً. ولذا تسألت هل سيكون هذا الكائن وبمثل بتلك الأوصاف محلاً للتكليف؟
ومن هنا يمكن فهم النص التوراتي، فحينما خلق الله آدم في اليوم، أو المليون، السادس، لم يكن الإنسان الأول، بل كان أول البشر. أول التطور نحو الأرقى بيولوجياً. والمؤمنون، وأنا منهم، لا يرون أدنى مشكلة في التدخل الإلهي بالخلق الاستثنائي لآدم، إيذاناً ببدء مرحلة ثانية من التطور.
"وَقَالاَ اللّهُمَّ، إِلهَ أَرْوَاحِ جَمِيعِ الْبَشَرِ، هَلْ يُخْطِئُ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَتَسْخَطَ عَلَى كُلِّ الْجَمَاعَةِ"( العدد 16: 22)
"لِيُوَكِّلِ الرَّبُّ إِلهُ أَرْوَاحِ جَمِيعِ الْبَشَرِ رَجُلاً عَلَى الْجَمَاعَةِ" (العدد 27: 16)
"لأَنَّهُ مَنْ هُوَ مِنْ جَمِيعِ الْبَشَرِ الَّذِي سَمِعَ صَوْتَ اللهِ الْحَيِّ يَتَكَلَّمُ مِنْ وَسَطِ النَّارِ مِثْلَنَا وَعَاشَ"(التثنية 5: 26)
"فَاسْمَعْ أَنْتَ مِنَ السَّمَاءِ مَكَانِ سُكْنَاكَ وَاغْفِرْ، وَاعْمَلْ وَأَعْطِ كُلَّ إِنْسَانٍ حَسَبَ كُلِّ طُرُقِهِ كَمَا تَعْرِفُ قَلْبَهُ. لأَنَّكَ أَنْتَ وَحْدَكَ قَدْ عَرَفْتَ قُلُوبَ كُلِّ بَنِي الْبَشَرِ". (الملوك الأول 8: 39).
"فَاسْمَعْ أَنْتَ مِنَ السَّمَاءِ مَكَانِ سُكْنَاكَ، وَاغْفِرْ وَأَعْطِ كُلَّ إِنْسَانٍ حَسَبَ كُلِّ طُرُقِهِ كَمَا تَعْرِفُ قَلْبَهُ. لأَنَّكَ أَنْتَ وَحْدَكَ تَعْرِفُ قُلُوبَ بَنِي الْبَشَرِ".(أخبار الأيام الثاني 6: 30).
"فَعَادَتْ وَأَخْبَرَتْ بِهذِهِ الْبُشْرَى. فَبَارَكَ رَعُوئِيلُ وَحَنَّةُ زَوْجَتُهُ الرَّبَّ".(طوبيا 8: 16)
"فَخَيْرٌ لَنَا أَن نُبَارِكَ الرَّبَّ وَنَحْنُ أَحْيَاءٌ فِي الْجَلاَءِ مِنْ أَنْ نَمُوتَ وَنَكُونَ عَاراً عِنْدَ جَمِيعِ الْبَشَرِ بَعْدَ أَنْ نَكُونَ عَايَنَّا نِسَاءَنَا وَأَطْفَالَنَا يَمُوتُونَ أَمَامَنَا".(يهوديت 7: 16)
"إِنَّهُ لَيْسَ وَعِيدُ اللهِ كَوَعِيدِ الإِنْسَانِ وَلاَ هُوَ يَسْتَشِيطُ حَنَقاً كَابْنِ الْبَشَرِ".(يهوديت 8: 15)
"وَنَحْنُ لَمْ نَجِدْ قَطُّ ذَنْباً فِي الْيَهُودِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِمْ بِالْمَوْتِ بِقَضَاءِ أَخْبَثِ الْبَشَرِ، بَلْ بِعَكْسِ ذلِكَ، وَجَدْنَا أَنَّ لَهُمْ سُنَناً عَادِلَةً".(أستير 7: 15)
"الَّذِي بِيَدِهِ نَفَسُ كُلِّ حَيٍّ وَرُوحُ كُلِّ الْبَشَرِ". (أيوب 12: 10)
"يَا بَنِي الْبَشَرِ، حَتَّى مَتَى يَكُونُ مَجْدِي عَارًا؟ حَتَّى مَتَى تُحِبُّونَ الْبَاطِلَ وَتَبْتَغُونَ الْكَذِبَ؟" (المزامير 4: 2)
"اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ جَمِيعَ الْخَطَايَا تُغْفَرُ لِبَنِي الْبَشَرِ، وَالتَّجَادِيفَ الَّتِي يُجَدِّفُونَهَا". (إنجيل مرقس 3: 28)
"لأَنَّكُمْ بَعْدُ جَسَدِيُّونَ. فَإِنَّهُ إِذْ فِيكُمْ حَسَدٌ وَخِصَامٌ وَانْشِقَاقٌ، أَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ وَتَسْلُكُونَ بِحَسَبِ الْبَشَرِ" (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 3: 3)
"الَّذِي فِي أَجْيَال أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو الْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ الآنَ لِرُسُلِهِ الْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِالرُّوحِ". (رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس 3: 5)
"وَبِهِ أَيْضًا خُتِنْتُمْ خِتَانًا غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، بِخَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا الْبَشَرِيَّةِ، بِخِتَانِ الْمَسِيحِ". (رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسي 2: 11)
وعلى هذا النحو يصبح البشر، عكس ما يرى البعض، أكثر تطوراً من الإنسان. فالإنسان هو الكائن الأقل تطوراً من البشر. وحينما يستأنف البشر مسيرة الإنسان، يشرعون في تجديد إنتاج أسلافهم بشكل أكثر تطوراً، فيكتشفون الزراعة والنار والفخار ويصهرون المعادن ويصنعون الأدوات ويتوصلون إلى بناء المساكن، ويستأنسون الحيوانات ويدجنون الطيور. والأهم أنهم سيبلغون مرحلة إنتاج الفائض، ومن ثم تبادل هذه الفوائض. ولذا يجب أن نتعرف إلى المحرك الأساسي لهذا التطور.
(5)
من مئات الآلاف من السنين واصل البشر تطورهم بفضل خلقه واستخدامه أدوات عمله الأولى، لقد كان إنسان ما قبل التاريخ، مثل جميع الحيوانات الأخرى، تحت رحمة الطبيعة، ولم يكن يختلف أسلوب حياته إلا قليلاً عن أسلوب حياة الوحوش، فربما كان الإنجاز الأساسي في مرحلة الوحشية، هو نشوء النطق.
لقد كان أسلافنا، في مرحلة الوحشية، حيث امتلاك منتجات الطبيعية، وما يصنعه الإنسان إنما يكون بهدف المساعدة في هذا الامتلاك، عبارة عن جماعات تجوب الغابات ووديان الأنهار بحثاً عن الطعام وتجمع كل ما يمكن تناوله من الجذور والثمار والحيوانات بطيئة الحركة وربما الجيف. في مثل تلك الأزمنة السحيقة لم يكن لدى أسلافنا أدنى فكرة عن كيفية صنع المساكن، وكانوا مثل باقي الكائنات الَّتي يشاركوهم الغابات والأحراش يبحثون عن الملجأ الذي يحميهم بين أوراق الأشجار الكثيفة وفي شقوق الصخور والكهوف.
وبالرغم من كل هذا فقد كان الإنسان يملك مواهب ميزته عن جميع الكائنات الحية الأخرى، ذلك أنه شرع في إنتاج أدوات يمكن استخدامها في العديد من الأغراض: مثل تحطيم درقة سلحفاة أو كسر عظمة. وكان أكثر هذه الأدوات بدائية أزاميل حجرية أو فؤوس بدائية بلا مقابض أو أيدي. وقد تمكن الإنسان، بكسر ثم صقل الأحجار، من أن ينتج هراوات الحفر المسنونة، والحراب، والأدوات الثقيلة ذات الحروف الحادة القاطعة؛ ومن ثم تمكن من أن يقتل الحيوانات الصغيرة ويستخرج الجذور الَّتي تؤكل، كما كان في إمكانه استخدامها في مواجهة الوحوش المفترسة الَّتي تهدد وجوده، أو مهاجمة الحيوانات الكبيرة ليزود نفسه بأكل حيواني أكثر غناء من الناحية الغذائية.
ومع اختراع سلاح القوس والسهم، اللذين بفضلهما صارت الطريدة طعاماً دائماً، والصيد أحد فروع العمل العادية، أخذ السلاح الجديد يشكل الآن أداة معقدة جداً يفترض اختراعها خبرة مكدسة زمناً طويلاً وكفاءات فكرية أكثر تطوراً. وقد أدى هذا الاختراع الحاسم إلى تحول عملية الصيد ذاتها إلى أحد أوجه النشاط الاقتصادي، فلم يزود هذا الاختراع الإنسان بغذاء حيواني فحسب، بل زوده كذلك بالجلود التي صنع منها ملابسه، بل ومسكنه، ومن قرونها وعظامها صنع أدواته.
وفي وقت متأخر نسبياً وقع حدث غاية في الأهمية في حياة أسلافنا؛ فقد تعلموا استخدام النار(2). وكانت الأهمية العظمى للنار، بالإضافة إلى استخدامها في صنع الأدوات، في استخدامها في الطريقة الجديدة لإعداد الطعام. فقد بدأ الإنسان بشواء طعامه وتحميصه وأخيراً سلقه، وهذا زوده بغذاء أفضل خاصة من اللحم مما ساهم في تطور مخه. أن طهي الأطعمة النباتية ربما يكون قد تسبب في توسيع القدرات العقلية من خلال جعل الكربوهيدات المركبة في الأطعمة النشوية أسهل في الهضم وبالتالي تسمح للبشر بامتصاص المزيد من السعرات الحرارية.
ومع الطور الأدنى من البربرية يبدأ الإنسان في تربية الماشية والزراعة، ويشكل تدجين الحيوانات وتربيتها وتربية النباتات عنصراً مميزاً. وقد جعل التحول إلى الزراعة المستقرة الإنسان أكثر استقلالاً في مواجهة البيئة؛ فقد مكن الارتفاع النسبي في إنتاجية العمل التي أمكن بلوغها في العمل الزراعي من أن يدخر الإنسان رصيداً معيناً من الطعام لاستخدامه في حالات الكوارث الطبيعية أو العجز في المحاصيل أو الصيد. وحينما اكتشف الإنسان، في نفس وقت اكتشافه الزراعة تقريباً، تربية الماشية أخذ الإنسان يزود نفسه بمورد احتياطي من اللحم الطازج من الحيوانات البرية التي يطاردها إلى أماكن مسورة، ورويداً رويداً تبين الإنسان أن الحيوانات يمكن أن تستأنس وتتوالد في الأسر. وكان الاهتمام بها أولاً كمصدر للحم واللبن، ولم تستخدم كحيوانات للجر إلا في مرحلة تالية تاريخياً.
(6)
إن أهم ما نلاحظه حتى الآن أن الزراعة البدائية لم تخلق أي جديد في شكل الملكية، وكذلك تربية الماشية. فالملكية العامة لوسائل الإنتاج كانت لا تزال هي الشكل الوحيد من الملكية. ذلك أن الزراعة وتربية الماشية في الحظائر كانت تتطلب الجهود المشتركة لكل العشيرة؛ وبذلك اقتضت الملكية العامة لوسائل الإنتاج الأساسية العمل المشترك.
وقد قوى التحول إلى طريقة مستقرة من المعيشة، من الروابط الاقتصادية والإنتاجية بين قبائل شتى. فمن أجل الدفاع عن أنفسهم ضد أخطار الطبيعة ولحماية مخزونهم من الطعام ومساكنهم من غارت الأعداء من جيرانهم، اتحدت العشائر المتجاورة في قبائل. ومن ثم اعتبرت الأرض التي تستخدمها القبيلة كموطن إقامة لها ومراعي الصيد ملكية للقبيلة. وكان لاندماج العشائر في قبائل أهمية قصوى في نشر مهارات الإنتاج المختلفة. وقد توافق نظام إدارة العشيرة والقبيلة بأكمله مع علاقات الإنتاج آنذاك. فجميع شئون العشائر والقبائل كانت في أيدي الرؤساء ومجالس القبائل التي يتم باختيار أفراد القبيلة، وكان نفوذ الرئيس يتوقف فقط على ميزته الشخصية وخبرته ومهارته في الصيد وشجاعته في الحرب. ولم يكن من الممكن وراثة سلطة الرئيس، كما لم تكن تلك السلطة لتعطي صاحبها ميزات خاصة بالملكية عما لدى أفراد القبيلة الآخرين.(4)
ولقد أدى تخصص مختلف القبائل في الزراعة وتربية الماشية إلى ظهور أول تقسيم اجتماعي كبير للعمل. فتطور قوى الإنتاج للقبائل الَّتي تعيش على تربية الماشية وعلى الزراعة كان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بحرفهم المحددة واعتمد على علاقاتهم المتبادلة.
أما الطور الأعلى من البربرية فهو يبدأ بصهر الحديد. فلقد أدى استخدام المعادن إلى حدوث تغيرات جذرية. فقد تطلبت الحرف الجديدة مثل صهر خامات المعادن وصناعات المعادن والفخار، أدوات خاصة وظهور قسم خاص من الناس يمتلكون المعرفة والمهارة اللازمة. كون الحرفيون مجموعة منفصلة في المجتمع. وكان الجزء الأكبر من عملهم ينفق في إنتاج الأدوات التي يتطلبها المجتمع وليس في إنتاج ما يحتاجونه هم من أدوات وأشياء. وعلى هذا النحو أصبح التقسيم الاجتماعي الثاني للعمل ممكناً حينما مكن تطور القوى الإنتاجية المجتمع من أن يشبع إلى درجة كبرت أم صغرت، مطالب جميع أفراده بما فيهم أولئك الذين لا يشتغلون في إنتاج المواد الغذائية بأنفسهم ولكنهم يشتغلون في أعمال ضرورية اجتماعياً.
استتبع التقسيم الأول والثاني للعمل تدعيم الروابط بين المجتمعات المختلفة. فقد أدت الزيادة في إنتاجية العمل داخل المجتمعات الرعوية إلى وجود فائض في الماشية والجلود والصوف واللحم والمنتجات الحيوانية الأخرى. ومع ذلك كان ينقص هذه المجتمعات الحبوب والخضروات والمنتجات الزراعية الأخرى. وفي الناحية الأخرى كان هناك فائض في المنتجات الزراعية، مع نقص في المنتجات الحيوانية، في المجتمعات التي تخصصت في الزراعة. وبذلك نشأت ظروف التبادل الاقتصادي المنتظم بين المجتمعات. وبما أن المنتجات كانت حصيلة عمل جماعي، وبالتالي كانت ملكية مشتركة، فكان التبادل يتم بين المجتمعات بكاملها. وشيئاً فشيئاً اكتسب التبادل صفة العادة وصار مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالإنتاج. وبالإنتاج وتجديد الإنتاج شرعت البشرية في استكمال حلقات تطورها.

















الهوامش
--------------------------------------

(1) انظر: أصل الأنواع، طبعة جون موراي، ص43.، وانظر كذلك:
P, 488 CONCLUSIONS. CHAP. XIV.
(2) انظر:
Friedrich Engels, Origin of the Family, Private Property, and the State. Marx/Engels Selected Works, Volume Three- October 1884, in Hottingen- Zurich.pp.13-5.
وفي الإشادة بابحاث مورجان والبناء عليها، انظر: روزا لوكسمبورج، المجتمع البدائي وانحلاله، ترجمة إبراهيم العريس (بيروت: دار ابن خلدون، 1976)، وللمزيد من التفصيل حول مراحل التطور، انظر:
History of Humanity: Prehistory and the Beginnings of Civilization, edited by S. J. De Late, Co- edited by A.H. Dani, J. L. Lorenzo and R. Nunoo (London: Routledge. Paris: and United Nations Education, Scientific and Cultural Organization, 1994). William Howells, Back of History: The Story of our own origins ( New York, Garden City Doubleday & Co.1954). Mankind in the Making: The Story of Human Evolution (New York ,Garden City: Doubleday & Co,1959(Preece, R. C."Humans in the Hoxnian: habitat, context and fire use at Beeches Pit, West Stow, Suffolk U.K,"Journal of Quaternary Science. (2006) John Wiley & Sons, Ltd,485- 96.
(3) انظر: أبو هلال العسكري، تحقيق محمد إبراهيم سليم ( القاهرة: دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع)
(4) انظر: ف. كيروف، ي. روبريتسكي، و. متروبوكسلي، موجز تاريخ مجتمعات ما قبل الرأسمالية، ترجمة محمد يوسف الجندي (القاهرة: دار يوليو للنشر، د. ت)، ص14-33.




https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن