ذهان Psychoses

رويدة سالم
samiasharafeldin70@yahoo.com

2016 / 12 / 13

ذهان Psychoses
الساعة الخامسة صباحا. الظلام لازال يلف الكون. كانت تقف أمام نافذة المطبخ المطلة على سجن النساء. أفاقت منذ أكثر من ساعتين. أعدت قهوتها دون سُكّر ووقفت هناك تشربها بتوأدة. نزل المطر غزيراً طوال الليل. والرياح التي لا يزال صفيرها يخترق السكون جعلت هطوله أهوجاً فبدا كما لو أنه يهطل أفقياً. صفع بعنف واجهات المباني المحيطة وسكن الأحلام المضطربة. لكنه لم يكن هو سبب استيقاظها المبكر. أمر أهم بكثير جعل النوم يغادر شقتها ويحلق بعيداً بحثا عن ضحايا آخرين.
لقد منحها نصبيها من الكوابيس ورحل...
في حلمها، رأته يعود. يقتحم الباب ويدخل الشقة لاعنا التجارة والكساد وحراس الحدود، مثلما اعتاد أن يفعل بعد كل غياب طويل.
هي تعلم أن خوفها من الفضيحة كان السبب المباشر في تطور إستبداده. صرخ في وجهها فكتمت دمعها ثم صفعها فصمتت فتوالت الاعتداءات حتى صارت قدراً. إنها تكره خنوعها بذات القدر الذي تكرهه به. ماذا كان ليحدث لو أنها بادلته إهانة بإهانة؟ هذه الاحتمالات الخيالية لم تخفف حنقها عليه ولا على نفسها. إلى أين كان يمكن أن تلجأ؟ لو تصدت له منذ البدء فطلقها. فمن سيحتملها وإبنتها عمراً بأكمله ؟
"لو أنني أنهيت دراستي وحصلت على شهادة ما ؟ ألم يكن الوضع ليكون أفضل ؟"
في الحقيقة، تعجز عن البت في الأمر.
أُجبِرت على ترك الدراسة لأن "الماء اللي ماشي للسدرة الزيتونة أولى به". هذا ما كان يردده والدها. حاولت دوماً إقناع نفسها بمنطقية الحيف الذي طالها. المداخيل كانت محدودة والوالد حين قرر تخصيصها لدراسة الولدين كان مقتنعا أن لها ما يكفي من جمال ليتقدم لخطبتها كل شبان الحي ثم يختار لها الزوج الأنسب الذي سيتحمل مسؤوليتها مدى الحياة. وجدت سبيلاً لتفهُّم أسبابه فلم تحمل تجاهه أي ضغينة. بعد السنوات الأولى من الزواج حين لم يتمكنا من إنجاب سوى الطفلة "لين" بدأ مزاجه يتعكر وبدأت القسوة تسكن قلبه.
فكرت حينها، أن زملاءه يضايقونه لأنه لم ينجب ولداً فغفرت له كل تجاوزاته لكنه تمادى.
"لماذا أخلط الأوراق؟ سأفعلها اليوم. لم يبقى مجال للتخاذل."
فتحت الدرج. تلمستها. سرت قشعريرة في جسدها. إنها اللهفة. لوَّحت بها في فضاء المطبخ. ستخفيها في طيات ثوبها. حين ينحني لنزع حذائه ستغرزها هنا. في مستوى الرقبة. سينتهي كل شيء في لحظة. ماذا عليها أن تفعل لو أنه قرر أن لا يخلعه؟
ستنتظر إلى أن يتمدد على الأريكة. حين يغفو، سيكون الوقت مناسبا أكثر.
مررت أصابعها على الحافة. لم تشعر أنها جُرِحَت. سالت قطرات الدم على النصل. انتبهت إلى واقع أنها قد فقدت الشعور بالألم. زمت شفتيها لكن لم يبدو على وجهها أي امتعاض. بدا لها الأمر طبيعيا. عاد تنظر إلى الفراغ خارج الشقة. دققت النظر لكنها لم ترى في الشارع سوى خيالات مشوهة لاشكال ثابتة لا تقدر أن تمنحها هوية محددة.
"ما تحرك هناك ثم سكن سريعا هل هو خياله هو؟ أين اختفى يا ترى."
عادت تدقق النظر.
"لا... ليس هو. لن يعود الان."
كان موظفا بسيطا في الإدارة العامة للغابات. قال والدها أنه الأنسب.
"كلما كان الإنسان أقرب للطبيعة كانت أخلاقه أرقى".
"هل تعلم، أبي، كم تشوِّه النقمةُ الروح ؟"
"النقمة امرأة. تأثير النساء أكبر".
حين كان لازال يعمل في الإدارة العامة، كان ينزل جام غضبه من الضيم الذي يتعرض له في عمله عليها وابنتها ناعتاً إياها بأبشع الصفات.
بعد الثورة ترك عمله قائلا أن الأشغال الحرة أجدى. لم تعرف بماذا كان يتاجر. حاولت الفهم لكنها فشلت إزاء السرية المطلقة التي يعتمدها. بدأت الأموال تتدفق بكميات هائلة.
ذات يوم وجدت في حقيبته مسدساً. كانت أول مرة ترى فيها مسدساً حقيقياً. لم تتمكن من فهم جدواه. أمرَها أن تصمت وأن لا تتدخل في شؤونه ثانيةً وأن لا تلمس أي شيء من أشياءه ففعلت.
عمر من العنف والإرهاب جعلها تصمت.
"أنّى لمثله أن يعرف الله ؟ مَن يزود الانتحاريين بكل ما يلزم لقتل الأبرياء هل يمكن أن يكون مؤمناً؟"
عادت تلك الجملة تدق بعنف على أعصابها. ودت أن تصرخ في وجه أخيها يوم أخبرها بذلك: "اتركني أرجوك. لا تضاعف كراهيتي وعذابي". لكنها صمتت كما إعتادت أن تفعل.
فهِمَت أخيراً سر أبواب الرزق الجديدة التي فُتِحَت بعد الثورة. كان مُهيأ لولوجها. الثورة منحته فقط الدافع. رفاق العمل السياسي القدماء عَبَّدوا له السبُل لاستثمار طاقاته فحسب. شبكة جهنمية، منحه الحظ، فقط، مكانة في هيكلها الإشرافي.
"مهمتك، بما أنك تعرف مسالك الجبل، هي تسهيل دخول وخروج السلاح."
رافقت السلاح، كل صنوف الاتجار في الممنوعات الأخرى.
قطرات الدم تجمدت... فركتها بظفرها. مسحت النصل وأعادت السكين إلى الدُرج ثم أغلقته.
"لين" في بيت خالها. عندما سيخبرونها ستبكي لحين، مثل كل الأطفال في سنها، ثم ستنسى. ستجد من يحميها ويعطف عليها. لن تعيش في بؤرة السوء هذه. ستكون لها حياة مختلفة.
"هل ستحزن حقا لفراقه؟"
ربما قليلا. ككل المراهقين ستأخذها حياتها الجديدة إلى عوالم أكثر إثارة وستنسى.
لكَم تمنت لو أن لين كانت ولدا. لين ولد ؟ ربما كانت حياتها لتختلف نوعا ما لكن كون لين فتاة عذبة أجمل كثيرا. هل عنّت لوالدتها نفس الفكرة؟ ليست واثقة تماما. من المؤكد أن هذه الفكرة راودت نساء كثيرات. انتشين لحلم أن لا يكون لهن سوى الذكور.
هل ينتقمن بهذا الأمل من ذواتهن أم هي رغبة لاواعية في تجنيب فلذات كبدهن سمة النقصان؟
أنهت قهوتها ثم غسلت الفنجان وجففته ووضعته في الخزانة.
سيأتي بعد بضع ساعات وسيستحم حتماً. سيتخلص من رائحة الأسلحة والزطلة والنساء. بعد الحمام سينتهي الأمر.
هل ضاعفت رائحة النساء التي تعشش في ثيابه كراهيتها؟
ربما...
"لا غير صحيح".
هل تمنت أن تكون لين ولدا لكي، حين تصير رجلا، تحمل ثيابها رائحة النساء فتعوضها بشكل ما عن خيباتها؟
تنتقم من أنوثتها. من هذا النقص الذي صبغتها به الطبيعة والمجتمع.
ربما...
"لا غير صحيح".
بعد الثراء المباغت صار يعود إلى البيت عند الفجر إن لم يطل الغياب ليومين أو أكثر. هناك دوما أشغال ملحة تحتم البقاء بعيدا عن البيت. لم يكن ذلك يسوءها. كانت تفرح بغيابه لكن ذلك الفرح سرعان ما يتحول في ظرف ساعات قليلة إلى رعب. يسكنها هاجس عودته ويبدأ في خنقها شيئا فشيئا. تصير عودته السريعة ارحم من عذاب خشية حدوثها.
غير مهم على كل حال التفكير في مثل هذه الأشياء. ستقوم بالأمر وينتهي بذلك كل شيء: الحيرة والتفكير والإرهاب والعذاب.
اليوم هو يوم جمعة وسيرجع باكرا. حين يصل سيستحم كما اعتاد منذ الثورة وسيلبس الجبة ويتعطر ويذهب إلى الجامع سيرا على الأقدام من أجل أجر أكبر. تلك الزبيبة التي علت جبينه تعلم جيدا كيف ولدت بين عشية وضحاها. لكنه لن يغادر البيت. سيكون آخر يوم. سيرحل لا إلى الجامع بل إلى الجحيم.
طافت في كل غرف الشقة. كل شيء مرتب كما يجب أن يكون عليه حين سيأتي العالم للبحث في الحادثة. الجريمة.
لم يبقى إلا أن تعد الغداء.....
"لا... لن يكون ضروريا".
ماذا ستفعل بانتظار عودته. الوقت يمر ببطء قاتل. عليها أن تشغل نفسها بشيء ما. أي شيء مهما يكن تافهاً. يجب أن تمر الساعات سريعة. لكن الساعة الجدارية تعاندها وتحطم أعصابها.
نزعتها من مكانها وحركت العقارب. منتصف النهار سيكون رائعا.
ستستحم استعدادا للحدث الجلل الذي سيكلل يومها.
مشهد الدماء التي ستسيل وتغمر جسده وفكرة الماء الدافيء حين ينساب على الجسد أشعراها بالإثارة. رغبة مجنونة نبتت في كيانها وامتلكت عليها عقلها.
من قال أن القتل لا يوازي الرعشة مُتعةً؟
قتل العدو وقتل النفس التي رضيت الهوان قَدَراً.
لون الدم يصبغ الجسد. اقشعر جسمها. مررت يديها فوقه.
"ما الذي يعتريني؟"
"لاشيء مهم".
ملأت الحوض ثم خلعت عنها ملابسها. تشممتها قطعة قطعة قبل أن ترمي بها في سلة الثياب المتسخة. غمر الماء الدافيء جسدها واحتضنها بلمساته الحريرية المثيرة. استسلمت له كما نستسلم لحضن الحبيب الذي تعشق. شعرت بمداعباته اللطيفة حين حاول التطاول لبلوغ قمة الجبل في خريطتها: ذاك النهد المكتنز المغرق في بذخه فإبتسمت. أغمضت عينيها لتستمتع بأكبر قدر من دفئه ومن هذا العناق القدسي الذي يمنحه بسخاء لانهائي. رأت نفسها حورية أسطورية تنساب من بين متون القصص القديمة وتنطلق عبر البحار والمحيطات بحثا عن الحبيب المشتهى المنتظَر.
إشتعلت حرائق الرغبة في دماءها. مررت أطراف أناملها على الحلمة. شعرت بها تتصلب شيئاً فشيئا منتصبة في خُيَلاء. ضغطت على النهدين بشدة إلى أن صدرت عنها تأوهات تختزل الألم والمتعة معاً في تزاوج ساحر رغم غرابته ثم انزلقت الأصابع على البطن. لامست سهله وداعبت وهاده ببطء. طافت حول الصرة ثم تسللت نحو أعماق الغابة. انسابت بين أدغالها. طافت حول الهضبة المشرفة من عليائها على الوادي. لامستها في البدء بخجل ثم مأخوذة بالتجربة ازداد الضغط رويداً رويداً واستمر الدعك إلى أن إستقامت قمتها وارتفع رأسها ثم خاضت غمر الوادي. أغرقها الماء الذي سرعان ما إختلط بالماء فإنزلقت إلى الداخل كما تنزلق قطرات المطر خلال الأرض العطشى وتنساب إلى أعماقها واعدةً ببداية عصر الخصب والنماء.
لم يبقى خصب ونماء بل رغبة في القيام بذلك الأمر. أعادتها الفكرة إلى الواقع. قفزت خارج الحوض. الماء يقطر من شعرها وينساب على جسدها قطرات تتجمع عند قدميها. مثل الدم الذي سينساب بعد بعض الوقت. نظرت إلى نفسها في المرآة. الصورة المنعكسة على الصفحة المغطاة بالبخار بدت باهتة. غائمة. في المساء ستكون تماما بهذا الشكل. بيضاء بملامح جامدة. خالية من الحياة.
تركت غرفة الاستحمام وتوجهت إلى غرفة النوم عارية تماماً. فتحت خزانة الملابس. مرّت بنظرها على الثياب المعلقة. فجأة وقع نظرها على علبة المفاتيح. سحبتها ثم فتحتها. وجدته. أخذته برفق كما لو أنه قطعة من الزبدة. هل تخشى عليه الانكسار؟
عادت إلى غرفة الاستحمام. إنّها لَتَكاد تجري. وضعته في القفل وأدارته. كررت الأمر عدة مرات. إنه يعمل. سيكون هذا أسهل. دون أن يشعر أنه يرحل. سيُفقده الغاز الوعي ثم سيحمله نقص الاوكسيجين إلى العوالم السرية. لن يتعذب ولن ترى الرعب في عيونه لكنها الطريقة الأسهل لأنه إن انتبه للسكين فقوته الجسدية ستمنعها من تحقيق ما تصبو إليه.
لن يشك القادمون لدراسة الحادثة انها جريمة مرتبة عن سبق إصرار وترصد.
رنين الهاتف جعلها تنتفض.
"هل تسرب الخوف إلى القلب بهذه السرعة؟"
ربما...
"حتما هذا غير صحيح".
كان المتصل أحد أصحابه. أخبرها أنه قد تعرض لحادث سير مريع وأن السيارة تحولت إلى كومة من الحديد... والسماعة تفلت من بين أصابعها تناهى إليه صوته يقول " آسف. لكن يجب أن تستعدي للأسوء."
سقطت السماعة وارتطمت بحافة الطاولة ثم تدلّت إلى الأسفل...
لماذا تتكاتف كل الأشياء ضدها؟ كان يجب أن تقوم هي بالأمر.
فقدت توازنها وتهاوت بدورها على الأرضية. حاولت التشبث بالطاولة فجذبت غطاءها وأسقطت المزهرية التي تتوسطها فتهشمت. لم تكن جراحها بليغة لكن الدم انتشر في كل مكان حولها. تحاملت على نفسها محاولة تنظيم تلك الفوضى. لكنها كانت مُنهَكة جداً حد العجز.
"الإنهاك يجتاح كياني. يتمكن منه. يسيطر عليه. يحوله لكتلة صخرية ثقيلة لا أقوى على تحريكها. هل هو الاحتضار !!؟ لا أخاف الرحيل لكني أخشى فقط أن يحدث قبل أن تسبقني إليه".
جعلها قرارها ذاك تستجمع بعض قواها وتقف مترنحة. ربما من الأفضل أن الأمور سارت على هذا النحو. أن يرحل بهذه الطريقة ربما يكون عقاباً ربانياً أبشع مما أعدت له. لكن يجب أن ترافقه في رحلته هذه. يجب أن تدفع ثمن العجز الذي إختارته أو جعلتها التربية الأولى تختاره مرغمة. لا سبيل إلى الخلاص الّا بالرحيل الثنائي للجلاد والضحية.
من قال أن الضحية أقل جرما من قاتل روحها أو منتهك جسدها؟
هراء...
هشت بيديها كمن يحاول طرد بعوضة عنيدة تأبى الذهاب. بدت مثل مخبول يصارع خيالات من أوهام.
لم تتمكن من جمع شظايا المزهرية المكسورة فتركتها ودخلت غرفة نومها. فتحت خزانة ملابسها وإنتقت ثوبا. كان ثوبا أبيضاً تُزيّنه زهور صغيرة حمراء بلون الدم.
سيستغرب القادمون ارتداءها له لكنه يوم فرح ويجب أن تحتفل على طريقتها. لن تهتم لما سيقوله الناس لأنها حين سيأتون ستكون قد رحلت هي أيضا. عليها أن تحيى اللحظة بكل كيانها وبكل رغبتها في الرحيل. الرحيل بثوبها الأبيض هذا سيكون رائعا.
" ها أن أوان الرحيل قد أزف. سينتهي كل شيء بعد بعض الوقت. لن يكون الانتظار طويلا. راودتها فكرة أن موته سيكون خلاصا نوعا ما لا ل(لين) وحدها بل للكثيرين.
"يجب أن أحتفل إذا".
"كيف يكون الاحتفال بالأمور الجليلة؟"
ستعد وليمة. لا لن ينفع ذلك لان لا احد سيهتم بالأكل وسط مظاهر الحزن المفتعل. الموسيقى. نعم ليرتفع صوت الموسيقى. لن يعلوا شيء عليه بعد اليوم. سترافقها إلى أخر رحلتها. حين تصل إلى عالم الموتى ستجددها تترد هناك أيضا حتما.
الله جميل ويحب الجمال والموسيقى. لن يحرمها من هذه المتعة الوحيدة التي تعشقها. إنه رحيم حقاً ويحب أن يحقق لخلقه ما يسعدهم.
انتقت مجموعة من الألحان التونسية القديمة ثم جعلت تتمايل على إيقاعها. انهمرت دموعها غزيرة. لم تعرف لماذا كانت تبكي. الفرح أيضا يحتاج دموعاً كثيرة ليتفتح زهر القلب وتسكن الروح الحَيْرى.
هل يجب أن اذهب إلى المستشفى لأشهد صعود الروح للجحيم ثم أرافقها في مسيرها؟
هل ستسكن روحه الجحيم حقاً؟ روحه مشوهة وستعرف كيف تصنع قنوات لتهرب من أسرِها وتشارك في الاتجار بالممنوع والتغرير بالجهَلة. هل في مملكة الرب أيضا خارجون عن القانون؟
ربما... حياتنا في بؤرة الخوف والنفاق والخيانة جعلت إيماننا بكل شيء يهتز.
- لنعد لمسألة الذهاب إلى المستشفى. هل الذهاب ضروري ليكتمل الاحتفال؟
هناك حتما أناس كثيرون ينتظرون ويتباكون ولن يمنحها أحد فرصة التشفّي ثم الانتحار...
لا إنها ليست فكرة جيدة.
إحتفلي هنا.
كم هو الوقت يا ترى؟.
أسرعت للساعة الجدارية لكنها كانت متوقفة عند منتصف النهار. كيف فعلت ذلك؟
غير مهم يجب أن احتفل. انه اليوم المنتظَر. لن انزع ثوبي هذا وسأجعل طفلتي تلبس ثوبها الزهري. وسنغنى ونضحك. سأضمها لصدري وستتسرب إلى قلبها الصغير فرحتي.
سمعت حركة فرفعت نظرها. إنه هو.
من أين دخل؟ متى عاد؟
لا تعلم كيف حصل ذلك لكنها تراهُ أمامها. يمسك الطفلة ويضربها بعنف... تتدخل لمنعه فيشد شعرها ويجرها إلى الحمام ويضع رأسها في المرحاض. لا تسمع ما يقوله لكن صراخ ابنتها يصم أذنيها والهواء يغدو ثقيلا. يغادر صدرها رويدا فتشعر بالاختناق. تسعل بقوة. تتخبط بذراعيها في الهواء. تمسك رقبتها. تحاول أن تطلب النجدة. صوتها يخذلها.
تنهمر دموعها. تبكي بحرقة. تلتفت باحثة عنه. تنتبه إلى أنها وحدها. ما رأته كان مجرد خيالات. لم يعد بعد. لقد مات وانتهى الأمر. لماذا كل هذا الرعب الذي يسيطر عليها.
"انه يوم احتفال".
"انه يوم احتفال" قال لها حين عاد ذات مرة من جبل الشعانبي. كانت صفقة رابحة. من مات كان مقدرا له أن يموت في تلك اللحظة ذاتها. انه قدره الذي خطه الله في كتابه قبل أن يخلق الكون كله. لا اعتراض على أمر الله. المهم أننا كسبنا مالاً كثيرا."
هي امرأة بسيطة لكنها تعلم انه لم يكن الله من قرر موتهم في تلك اللحظة بل شبكة من الشياطين بكساء بشري. وبما أن الطامعين في الحور العين كُثُر فلا مانع من دفعهم دفعاً لتحقيق حلمهم. في كل معركة يجب أن يكون هناك حطب يُحرَق ليعمي بصر العدو المتربص والمصلحة أيضا معركة دونها حرس يجب أن يُقصى من الميدان.
"يجب أن نكون ذئابا تنهش أن كنا لا نرغب أن تنهشنا أنياب الذئاب الكافرة التي تحكم البلاد".
صار ذئبا شرسا. حين كان يعنفها لان الأكل احتر ق أو لان بعض الأمور لم تقضى على وجه حسن كانت تصبر مرددة اأنه حال كل من يشقى في بلاد لا تنصف أحداً... بلاد، جور الحاكم فيها، شرعة ومنهاج. هل جلب أهل الله الأمان ونشروا العدل؟ لا تزال العجلة تدور بنفس الوتيرة. تغيرت الواجهات فقط. كل يستعمل لغة مناسبة لمنطلقاته لكن النتائج واحدة.
احتفل في يومه ذاك وستحتفل هي اليوم. هو احتفال منقوص حتما لكن النتيجة واحدة.
طرقٌ عنيف على الباب سحبها من أفكارها فأسرعت لتفتحه. وقفت ذاهلة تنظر في وجه جارتها. تأمّلتها الزائرة ثم أرسلت نظرها داخل الشقة. لاحظت المزهرية المهشمة وأثار الدم والفستان الأبيض. بدا أن المشهد الذي يعرض أمامها قد صدمها أكثر من خبر الحادث الذي تعرض له الجار. قالت متلعثمة: اتصل بنا أخوك وطلب أن نعلمك أنه حاول الاتصال بك مراراً لكن الهاتف كان دوما مشغولا فاعتقد أنك ربما ذهبت إلى المستشفى. أخبرك أن لين ستبقى عنده اليوم وأنهم لم يخبروها شيئا بعد. سيأتون غدا و...
قبل أن تنهي الجارة كلماتها، أغلقت الباب بعنف وعادت إلى ما كانت مشغولة به.
لكن ماذا كانت تفعل منذ حين. قبل أن تأتي الزائرة الغريبة وترحل. لا تذكر لماذا أتت.
"ماذا كانت تريد يا ترى؟"
حاولت أن تتذكر لكن خانتها الذاكرة. عادت تدور في الشقة. تجلس لتقف مباشرة ثم تعود للجري بين الغرف والصالون والمطبخ.
ابتسمت. مررت يدها على جبينها. لقد تذكرت.
" أي طريقة هي الأجدى للاحتفال".
لو أنه فقط لم يتعرض لهذا الحادث. لو أنه يعود سالماً...
يا للمفاجأة الجميلة التي تنتظره... قميص نوم مُغرٍ وعطر نفّاذ. أغنية جميلة وحمام ساخن.
هل القميص المغري ضروري؟
لا مطلقا...
ستدفعه دفعا لغرفة الاستحمام ثم ستغلق الباب وتطلق الغاز وحين يتخدر ستدخل وستجلس قبالته وستقول له كل ما رغبت في قوله منذ زمن بعيد. ستخبره بكل أحلامها المجهضة وبكل آلامها. وسترحل معه لتحرس روحه كي لا تفلت من العقاب الربّاني.
"هل هناك عقاب ربّاني حقا لأمثاله؟"
"أي عقاب سيكون مكافئاً لما فعلوه ثم ما فائدة العقاب بعد كل الأذى الذي نالته نفوس بريئة. هل سيكفيها مثل هذا التعويض في العوالم السرية ثمناً لما عانت؟"
مع الظهيرة وصل الأقارب. اقتحموا عليها خلوتها. نزعوا عنها فستانها والبسوها السواد. تخبطت بين أيديهم رافضة لكنهم تمكنوا منها. قيدوا حركتها وفعلوا بها ما رأوه مناسباً للحدث.
كانت تُردّد أنه يوم احتفال وأنه يجب أن تعد كل ما يلزم لكن لم يصلهم صوتها. كانوا يسمعون همهمات غاضبة وصراخا مكتوما لا يقبل أن يخرج من صدرها. اعتقدوا أنه تأثير الصدمة. أغرقوا وجهها بالعطور ثم طلبوا طبيبا أعطاها حقنة مهدئة ورحل.
عندما استفاقت في المساء، كان اللغط مرتفعاً في أرجاء الشقة. كانوا قد أوقفوا الجهاز الذي بث بعض النصوص المقدسة وشرعوا في الزغاريد والضحك وتبادل النكات.
"هل يحتفلون؟"
هذا ما أرادته منهم منذ حين عندما أجبروها على نزع الفستان الأبيض. لكن لماذا مرت الساعات بكل هذه سرعة.
هذا هو بالتحديد ما رغبت فيه. موسيقى واحتفال وأن ترى الجثة تأتي ثم يمددونها أمامها لتغرز في قلبها سكينا حتى وهي هامدة باردة. لكن كيف حدث ذلك.
عليها أن تُعيد ارتداء فستانها بما أنهم قد أدركوا ما أرادت منهم منذ البداية. والموسيقى؟ ليرقص الجميع. اقتربت منها إحداهن وهمست في أذنها: "الحمد لله على سلامته. ربنا منحه عمرا جديدا".
"ماذا؟ أنت تهذين؟"
لكن السيدة واصلت الكلام متحدثة عن المعجزة الإلهية التي أنقذته وأن من كان يرافقه في السيارة هو مَن مات.
إبتسمت. ازدادت دقّات قلبها عُنفاً. إذا لقد أعاده لها الرب لتنجز ما عزمت عليه. يجب أن يخرج الكل لتهيأ موكب الرحيل النهائي. صرخت بهم أن أخرجوا. سأقتله حال وصوله وغدا عودوا لتحتفلوا برحيلنا معا. رَنَت إليها نظرات الحاضرات مُشفقةً راثية.
- "فقدت الصوت من هول الصدمة. يا لها من زوجة فاضلة."
- "لستُ فاضلة. أنا عاهرة منحت جسدها بثمن باركه المجتمع. أنا عاهرة حرثها أنّى شاء ومن حيث عنّ له ذلك دون أن تكون لها رغبات أو وجود. أخرجوا."
واصلت النسوة الزغاريد والابتسام.
"أمرهن غريب. إنهم يحتفلن معي لأنه رحل. هل رحل؟ لا أعتقد أنه نجا. السيارة كومة من حديد. هل سيعود محمولا أم سائرا على قدميه؟ هل يقدر أحد ما على توضيح ما يحدث، لي؟"
"زغاريد. ضحكات. موت. بعث. ترى ما الذي يحدث بحق الجحيم؟"
حاولت القيام. اعتمدت على كل ما وقع تحت يديها. أجساد رخوة مكتنزة. طاولة. جدار. سارت مترنحة حتى باب غرفة الاستحمام. تأكدت أن المفتاح لا يزال في مكانه ثم عادت إلى وسط الشقة ولوَّحَت بيديها تدعوهنَّ للخروج لكنهن لم يفهمنَ ما كانت ترمي إليه.
أمام بلاهتهم تأكدت أنهم أتوا للاحتفال معها. الضجيج عال جدا والأصوات تحطم أعصابها بعنف. لقد مات. الجثة ستصل في أي وقت.
لفتت انتباهها وهي واقفة هناك جَلَبة عند الباب. دققت النظر. فركت عينيها بقوة. فتحتهما فبدا لها وجهه باهتا في البداية ثم شرعت الصورة تتضح. إنه هو يعود من موته الذي كان من المفترض أن يكون محتوما. يتقدم منها خطوة ثم أخرى. زغاريد النسوة جرحت أذنيها في العمق. ضحكات مرسلة من كل مكان خنقتها. سالت الدموع غزيرة. تردد صوت في الحوش:
"يكاد يغمى عليها، المسكينة، إنها تقع. ساعدوها".
حملتها أيد لم تعرف لمن تنتمي. غابت عن الوجود.
حين أفاقت كانت ممدة على السرير. تلمست نفسها. إنها لا تزال على قيد الحياة. لقد كان كل ذلك حلما. كابوسا رهيبا.
الظلام يعم المكان.
المطر لا يزال ينزل بغزارة ويطرق على البلور بعنف. الريح تعصف بقوة ويتسرب صوتها مرعبا من خلال النوافذ غير محكمة الإغلاق.
عليها أن تقوم وتستحم وتأكل شيئا لتستعيد قواها وتواجه واقع أن كل ما حدث في يومها كان وهما سببه الحمى التي تحرق جسدها.
"لم يحِن بعد موعد الرحيل لكنه سيأتي حتما".
سترتب الأمر في يوم تكون فيه أكثر تماسكا. أكثر قوة وهدوء.
تملصت من قبضة الفراش وتركت الغرفة. ذهبت إلى المطبخ. دارت دورة كاملة حول نفسها. هرشت شعرها لتتذكر ماذا كانت تريد. لم تتمكن من معرفة سبب مجيئها.
تذكرت، فقط، "لين" ابنتها. ذهبت لتتفقدها. قبل أن تفتح الباب نادتها لكن صوتها ظل حبيسا في حلقها. آلمها عجزها.
"لين"؟
فراش لين كان مرتبا. مررت يدها على جبينها. العرق ينز غزيرا. مسحته. ضربت رأسها على الحائط لتتمكن من التذكر. فجأة اتضح لها سر غياب "لين". إنها في بيت خالها.ربما الشوق هو ما صنع بها كل هذا. عليها أن تعود لفراشها وتنام. غدا سيكون يوما مختلفا حتما. ستنجز الأمر ثم تستسلم للراحة الأبدية.
عندما عادت إلى غرفتها، وقفت مشدوهة عند الباب. سرت رعدة عنيفة في كامل جسدها.
كان هناك ممدا في السرير. كان على بعد بعض الخطوات منها.
كيف لم تشعر به حين أفاقت منذ برهة؟
وقفت طويلا عند الباب تتأمله. كان يئن في نومه المضطرب. يده اليمنى مكسورة ومغطاة كلها بالجبس وعلى وجهه الأيسر ضمادات لا تزال تفوح منها رائحة الكحول. نادته لكنه لم يتحرك. لقد حقنه الممرض بمنوم ليتمكن من النوم رغم الوجع. ابتسمت. لقد صار كل شيء واضحا الآن. "سينتهي كل شيء في ظرف دقائق فقط".
"لن تمنحه فرصة التعافي."
أسرعت للمطبخ وجلبت السكين ثم اقتربت منه. أين ستغرزه. هنا في الرأس الذي لم يحسن يوما قولا رقيقا... لا... بل في الصدر... لا... لا... بل هنا في مستوى الخصر. في أكثر المواضع التي كسرتها. قتلتها ألف مرة ومرة.
"للرحيل طقوس. كما أتيت يجب أن ترحل. عارياً الّا من أفعالك."
رفعت عن جسده الغطاء. شرعت تنزع عنه ثيابه بهدوء وبطيء. نزعت القميص ثم سحبت البنطلون.
فغر فاها حين وجدت ضمادات وأثار دم على كامل خصره. أزالتها قطعة قطعة. كتمت صرخة. غالبها القيء. أسرعت للحمام. خرجت إلى الفناء. تنفست بعمق ثم عادت.
"أين ذهب صولجانك. هل ابتلعته عاهرة ما أم تمسكت السيارة المحطمة ببعض منك وهي تنتقل إلى مصب الخردوات؟"
لم يعد من معنى لقتله. لم يعد يستحق أن يُقتَل. لقد عاد لأصله الأول. لم يعد جنساً ثانياً. عادت الأرض لتعيش من جديد عصر الأنوثة المطلقة. ها قد عاد إلى الصورة الأولى التي خلقه عليها الإله قبل أن تتدخل الطبيعة في بعض طفراتها الجينية فتقلص حجم الثدي وتعبث بالجهاز التناسلي لنسل أفروديت وهيرمس.
ارتفعت في سماء المدينة الساكنة، في ذلك الليل البهيم، زغرودة طويلة، تلاها مواء قطط فزعة قطع سيمفونية تزاوجها صدى ارتطام حاد على إسفلت الطريق العام.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن