جدلية المقاطعة والمشاركة في الانتخابات بين اليسارين البحريني والكويتي

رضي السماك
Radhi-alsammak@hotmail.com

2016 / 11 / 27

جدلية المقاطعة والمشاركة في الانتخابات بين اليسارين البحريني والكويتي / رضي السمّاك
تتشابه محطات ومراحل تاريخ التطور السياسي الحديث في الكويت مع نظيره في البحرين إلى حد كبير وعلى الأخص فيما يتعلق بالمطالب الشعبية بإلإصلاحات والديمقراطية، بدءاً من عشرينيات القرن المنصرم ومروراً بأوائل سبعينياته حيث أستقلت البحرين عام 1971 وأصبح لها برلماناً منتخباً عام 1973 يكاد يكون طبق الأصل لبرلمان الاولى قبل حله في سنة 1975 ، وليس انتهاءً بالعقد الفائت . ومع أن نشوء اليسار ، بشقيه القومي والشيوعي ، هو أسبق تنظيمياً في البحرين ، إلا أن حتى تعاطي اليسار في كلا البلدين في الموقف من الإنتخابات النيابية شديد التشابه ، سواء أكان ذلك في ظل الشكل والمحنوى الأصلي لبرلمان 1962.الكويتي أوالشكل والمحتوى الأصلي لبرلمان 1973 البحريني ، أم في ظل ما أدخلته السلطة في كلتا الدولتين خلال السنوات والعقود اللاحقة من تعديلات تحد من الصلاحيات الدستورية لكلا البرلمانيين نحو التضييق فضلاً عن تعديلات النظام الانتخابي بما يتلائم مع نوعية المرشحين المرغوب في فوزهم .
في عام 1971 جرت الانتخابات النيابية الكويتية في ظل ظروف غير مؤاتية ديمقراطياً على عكس الظروف الإيجابية التي جرت خلالها أول انتخابات نيابية غداة استقلال البلاد 1962، ناهيك عماتركته فضيحة تزوير نتائج انتخابات عام 1967 من ظلال ثقيلة على درجة ثقة الناخبين والمعارضة في نزاهة الانتخابات الجديدة . وبالرغم من مقاطعة شريحة من الليبراليين وشخصيات كومبرادورية وتجارية للانتخابات ، وبحجج دستورية تملك وجاهتها، إلا ان اليسار قرر خوضها وكسب أربعة مقاعد ، وعلى الجانب البحريني قاطع اليسار القومي ( الماركسي الجديد ) مُمثلاً في "الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي " أول انتخابات نيابية جرت في البحرين 1973 لكن اليسار الشيوعي مُمثلاً في " جبهة التحرير الوطني البحرانية " قررالمشاركة فيها مُتزعماً كتلة تتكون من 12 مرشحاً ينتمون لتيارات شيوعية وقومية ومستقلة مختلفة ، وفاز منهم 8 نواب ، لكن السلطة لم تتحمل بعدئذ دورهم المعارض في البرلمان وحلته سنة 1975 وتم تعطيل الحياة النيابية طوال 27 عاماً حتى سنة 2002 حيث أصدرت السلطة دستوراً جديداً ، بدون جمعية تأسيسية مُنتخبة مُختصة بسنه ، ينص على حق التشريع بشكل متساوي لغرفتين إحداهما مُنتخبة والثانية مُعينة من قِبل الملك، كما انفردت بإصدار نظام انتخابي يشكل نكوصاً عن نظام 1973 الانتخابي ، ومررت لائحة داخلية تكبل حرية وصلاحيات النائب بل واُدخلت عليها المزيد من القيود لاحقاً .
ومع ذلك فقد قرر اليسار الشيوعي المشاركة فيها وفاز بثلاثة مقاعد مستفيداً في ذلك من مقاطعة معظم قوى المعارضة ممثلة في أقواها "الوفاق " ( إسلام سياسي شيعي ) وجمعية " وعد " (نفس تيار الجبهة الشعبية ) وقوى قومية وبعثية ، ثم قررت جميع هذه القوى المعارضة مُجتمعة المشاركة في انتخابات 2006 تحت تأثير الدور الملموس الذي حققه النواب اليساريون الثلاثة وعدد محدود من الشخصيات المستقلة من مكاسب على ضآلتها في البرلمان وما جرى بموازاته في المجتمع من عصف فكري شديد دار بين المقاطعين والمشاركين في وسائل الإعلام والمنتديات العامة تمحور حول المقارنة بين جدوى المشاركة وضررها وبين جدوى المقاطعة وضررها ، ثم شاركت هذه القوى أيضاً في انتخابات 2010 وهي آخر انتخابات تخوضها قوى المعارضة مجتمعة وتستأثر أقواها " الوفاق " بجميع مقاعد المعارضة ( 18 مقعداً ) قبل انسحابها لاحقا إثر تداعيات ما عُرفت ب " أحداث دوّار اللؤلؤة " التي وقعت كحلقة من حلقات انفجارات الربيع العربي المتتالية والتي كانت البحرين من أهم بلدانها ، والتي من تداعياتها أيضاً مقاطعة المعارضة مُجتمعة لاحقاً لا نتخابات 2014 . وعلى الجانب الكويتي وعلى إثر ما حققه اليسار في مجلس 1971 من مكاسب ملموسة تشجع أيضاً المقاطعون الممثلون لليبرالية الكومبرادورية للمشاركة في انتخابات مجلس 1975 لكن سرعان ما تم حله 1976 وظلت الحياة الدستورية معلقة إلى عام 1981 حيث تمت الدعوة لإنتخابات جديدة أستبقت السلطة هندسة مخرجاتها ( وبخاصة في طريقة توزيع الدوائر التي جعلت عددها 25 بعدما كانت عشر دوائر فقط ) . ومع ذلك كان القرار الحكيم الذي أرتأته قوى المعارضة اليسارية حينذاك ان من مصلحتها السياسية خوضها على كل مايشوبها من عيوب جديدة أفضل من مقاطعتها . وفيما زيّنت السلطة البحرينية دستور 2002 المختلف كُلياً عن دستور 1973 بالنص على حق المرأة في الترشيح والتصويت ، فقد شكّل هذا بدوره حافزاً لنظيرتها الكويتية لاجراء تعديل دستوري مماثل بالنص على حق المرأة في التصويت والترشيح في الانتخابات بما يخفف من مساوئ التعديلات الدستورية والانتخابية التي تأخذها عليها المعارضة بالرغم من ظروف انحسار اليسار والحركة النسائية التقدمية وصعود الاسلام السياسي بشقيه السني والشيعي في كلا البلدين .
توجه الناخبون الكويتيون منذ صباح اليوم إلى صناديق الاقتراع في ظل مقاطعة اليسار بتياريه الرئيسيين " المنبر الديمقراطي " و" التيار التقدمي " ، أما أسباب المقاطعة كما وردت في بيانيهما فلعل أبرزها : انعدام المناخ السياسي الملائم وغياب الانفراج وانسداد أفق العمل البرلماني لتحقيق الإصلاح ، تصاعد وتيرة التذمر الشعبي من اداء أعضاء البرلمان المحلول وضعف رقابته البرلمانية وعدم تبنيه القضايا المجتمعية وعدم تأثيره على الاداء الحكومي ، سن قوانين مُقيدة للحريات العامة ، رفض مرسوم الصوت الواحد ، عدم الإفراج عن المحكومين في قضايا الرأي والتجمعات ، وعدم الغاء قرارات سحب الجنسية ووقف حملة الملاحقات .
ومع ان البيانين كلاهما تميّز بانتقاده الشديد للأوضاع السياسية السائدة المنافية للمناخ الديمقراطي الصحي المفترض أن تجري في ظله الانتخابات ، إلا أنهما حرصا على التأكيد أن المقاطعة ليست موقفاً دائماً ثابتاً ( بيان التقدمي ) ، وان تحركاتهم المُقبلة ستكون من خلال النضال الجماهيري المُنظّم ذو الطبيعة السلمية الملتزمة بالدستور ( بيان المنبر ) . بيد أن إثمة نقاطاً تنطوي على قدر من التناقض والارتباك في كلا البيانين ، فإذا كان "التيار التقدمي " قد أكّد في بيانه رفضه الانسياق وراء ثنائية المقاطعين والمشاركين في صفوف المواطنين ملمّحاً إلى مقاطعة بدون ان تكون مصحوبةً بحملة تحشيدية ضدها ، ومستذكراً في هذا الصدد موقفه من انتخابات 2013 حيث كانت حركة الجماهير في صعود، حسب تعبيره ، فإن الأشد مدعاة للدهشة والاستغراب ما ورد في بيان "المنبر الديمقراطي " إذ على الرغم من موقفه المقاطع فإنه وضع برنامجاً من خمس نقاط إصلاحية حث المواطنين الراغبين في المشاركة الاسترشاد بها لانتخاب مرشحين يُحسن الظن بهم وبمصداقيتهم !
ويمكن القول ان موقف كلا التيارين يكاد يكون عملياً جوهرهما واحداً ألا هو ترك حرية اتخاذ القرار للناخبين من حيث المقاطعة أو المشاركة ، وهذا مالاينسجم مع ما هو مٰفترض أن يتخذه أي حزب أو تيار حركي سياسي في العالم من الانتخابات ، فإما المشاركة وتحشيد الجماهير والناخبين من أجلها وتوعيتهم بأهمية المشاركة فيها ، وإما المقاطعة وتعبئة الجماهير والناخبين ضدها مادامت مُخادعة وتنعدم فيها أي مصلحة مرجوة للشعب وقواه الوطنية على السواء . وبالرغم من كل المبررات الموضوعية التي ساقها كلا التيارين ، ومن بينها الظروف السياسية المعقدة التي تشهدها الساحة السياسية الكويتية ، فإن الغالبية العظمى من الساحات السياسية العربية التي تتمتع ببرلمانات مُنتخبة على تفاوت درجات صلاحياتها ، تشهد ظروفاً لعلها أكثر تعقيداً من الساحة الكويتية نفسها ولم يقاطع اليسار فيها الانتخابات .
ومن الملاحظ أيضاً أن البديل الذي يطرحه كلا التيارين المُقاطعين عن المشاركة يجتر لغة اليسار العربي القديمة التقليدية في المقاطعة منذ ولادته حيث يجنح إلى الطابع "الشعبوي" المفتقر إلى آليات عملية ذات أفق منظور ، كالقول بضرورة التحرك شعبياً وسياسياً ضد التضييق الحريات العامة ، والمطالبة بحدوث انفراج سياسي ( التيار التقدمي ) ، وإن المرحلة تتطلب تصدياً كاملاً من كافة القوى الوطنية والديمقراطية للدفاع عن مكتسبات دستور 1962، والعمل والنضال الجماهيري المُنظّم ذو الطبيعة السلمية ( المنبر الديمقراطي ) في حين إن كلا التيارين عجزا عن حتى إصدار بيان مشترك بمقاطعتهما .
وإذا كانت قوى اليسار العربية المعروفة بعراقتها التاريخية ما برحت تعاني من انحسار نفوذها الجماهيري ، فلعل اليسار الكويتي الحديث الولادة نسبياً هو الاكثر انحساراً لأسباب موضوعية عديدة لعل أهمها يتعلق بطابع التركيبة الطبقية في المجتمع الكويتي وعدم تبلور طبقة عاملة وطنية إلا في نطاق ضيّق . ودون التقليل من وجاهة وصواب مبررات كلا الفصيلين في المقاطعة إلا أن النظرة التشاؤمية العدمية ، كما بدا ، هي التي غلبت على تقييمهم للموقف المبغي اتخاذه دونما النظر إلى الجزء الآخر المملوء من الكأس الذي لربما يرى بعضه المحللين والباحثين السياسيين من خارج الكويت أكثر مما تراه القوى المقاطعة من داخل البلاد والمتمثل فيما يلي :
أولاً : إن الكويت مازالت أعرق الدول العربية في تجربتها البرلمانية وأعرقها بين دول مجلس التعاون ، وبفضل هذه الخبرة المتراكمة الطويلة ولّّدت تقاليد في قبول الرأي والرأي الآخر على المستويين السلطوي والشعبي ، بغض النظر عما تشهده هذه التقاليد من حالات من الجزر ، ومهما قيل عكس ذلك فإن سعة صدر من يملك تجربة مديدة ، مهما ضاقت بين حين وآخر ليست كسعة من يملك خبرة قصيرة .
ثانياً : إن صدر حاكم الكويت الحالي الشيخ جابر الصباح هو أكثر رحابة مقارنة بضيق الصدر الشديد بالمعارضة والرأي الآخر لدى نظرائه حكام بلدان المنطقة ، إذ مازال يتمتع بقدر معقول من الحنكة والحكمة ( ظل على رأس الدبلوماسية الكويتية نحو 30 عاماً ) ، وبالتالي كان ينبغي على المعارضة عدم استنفاد المراهنة على شخصية حاكم بتلك الخاصية بصورة أو باخرى ، ومن آيات ذلك ، على سبيل المثال لا الحصر ، ما أورده الناشط الحقوقي الكويتي والدولي المعارض واستاذ العلوم السياسية المستقل الدكتور غانم النجار عن لقاءاته بالأمير في سياق نشاطه الحقوقي بالرغم مما يُعرف عنه من انتقادات صريحة للنظام حتى لطابعه القبلي الوراثي وهذا ما لايتوافر للنشطاء الحقوقيين في البلدان الخليجية ولو كان في دولة خليجية اخرى لكان مكانه الآن خلف القضبان .
ثالثاً : إن البرلمان الكويتي المُنتخب مازال يحتفظ ولو بحدود دُنيا بمزاياه الأصلية وأهمها حصر حق التشريع في غرفة واحدة ومازال الكثير من مكاسب دستور الاستقلال 1962 باقية ولا يمكن مقارنته بأي حال من الأحوال بنظيره بالدستور البحريني الذي صدر في 2002 ا بعدما تم تفريغ منه الكثير من مكاسب دستور 1973 حتى مع تسليمنا بما تراه المعارضة الكويتية من مكاسب جرى الإجهاز عليها .
رابعا : إن المعارضة اليسارية الكويتية لو نظرت إلى الظروف السياسية والأمنية البالغة التعقيد التي جرت في ظلها آخر انتخابات بحرينية في 2010 قبيل بضعة أربعة شهور فقط من انفجار الربيع العربي والتي كانت أسوأ بما لا يُقارن بمناخ أول انتخابات خاضها جزء من اليسار في 2002. لأدركت أن الظروف السياسية الراهنة التي حدت بها إلى المقاطعة في انتخابات اليوم هي أفضل بما لا يُقارن بالظروف التي خاض فيها اليسار البحريني الانتخابات الثلاثة مجتمعة التي جرت خلال العقد الماضي ، ولراهنت أيضاً في ظل تفاقم عزلة اليسار وانحساره على ما توفره لها حملاتها الانتخابية من فرص نادرة لا تتكرر لشرح برامجها السياسية والتحامها مع الجماهير مباشرةً حتى لو كانت محدودة العدد وذلك بغية توعيتها بحقوقها السياسية وبممثليها الحقيقيين إلى البرلمان ومن ثم استمالتها نحو شعاراتها وخطها السياسي الايديولوجي ، ولربما فازت أيضاً ببضعة مقاعد في ظل تدني نسبة المشاركة ، تماماً كما نتج عن مشاركتها في انتخابات 1971 ( 4 مقاعد ) ومشاركة جزء من اليسار البحريني في انتخابات 2002 ( 3 مقاعد ) من المقاطعة ولو أخذت بذلك في عين الاعتبار لكان كافياً لمشاركتها في الانتخابات ، ذلك بأنه في مثل هذا المنعطف التاريخي البالغ الخطورة والمجهول المصير والذي تمر به الأوضاع الداخلية لكل بلدان المنطقة فضلاً عن الاوضاع التي يمر به الاقليم والعالم فإنه ما هو متوافر اليوم من النزر اليسير للتعويل والبناء عليه ،إن من خلال الحملات الانتخابية ، وإن من خلال قلب الطاولة سياسياً من تحت قبة البرلمان لو فاز اليسار ببضعة مقاعد سيصب حتماً في توثيق صلاته بالجماهير وفي تسهيل مهمته من أجل تعميق وعيها بحقوقها الدستورية الكاملة والدفع بتغيير ميزان القوى بين السلطة والمعارضة بأدنى قدر ممكن قد لا يتوفر في الغد المجهولة شدة رياحه العاتية حتى لدى أعتى وأنبغ المحللين السياسيين خبرةً .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن