العَدَالةُ الاِنتِقَاليَّةُ: أَهِيَ تِرياقٌ مُضادٌّ للآي سِي سِي؟!

كمال الجزولي
kgizouli@gmail.com

2016 / 11 / 18

(1)
وفدان سودانيَّان، لا وفداً واحداً، شاركا في مؤتمر حقوق الإنسان والشُّعوب الأفريقيَّة بقامبيا، أواخر أكتوبر المنصرم، ويفترض أن يكون قد أنهى أعماله في الرَّابع من نوفمبر الجَّاري. أحد الوفدين مثَّل "المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان" بوزارة العدل، ومثَّل الآخر "المفوضيَّة القوميَّة لحقوق الإنسان".
الهمُّ الرَّسمي الذي احتقبه الوفدان إلى هذا المؤتمر انحصر، على ما يبدو، في التَّرافع عن ثلاث قضايا تهمُّ الحكومة أكثر من المواطن: العقوبات الأمريكيَّة، و"المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة"، وسنشير إليها بالـ "آي سي سي"، فضلاً عن اتِّهام "منظمة العفو الدَّوليَّة"، مؤخَّراً، للقوَّات المسلحة، استناداً إلى تقرير بعثة "يوناميد"، باستخدام أسلحة كيميائيَّة في دارفور (شبكة الشُّروق؛ 25 أكتوبر 2016م).
ولأن قضيَّة "الآي سي سي"، من زاوية الهمِّ الرَّسمي، تعتبر الأخطر، ﻷلف سبب وسبب، بين القضايا الثلاث، يجئ تركيزنا، هنا، على الأسلوب الذي جرى به علاجها في المؤتمر، مِمَّا ينطوي على مفارقة بيِّنة، خصوصاً وقد نال هذا العلاج رضا السُّودان الرَّسمي، حسب ما يشي بذلك تصريح حسين كرشوم، عضو وفد "المفوَّضيَّة القوميَّة لحقوق الإنسان"، قائلاً، بابتهاج لا يخفى، إن المؤتمر أوصى بأن يتبنَّى الاتحاد الأفريقي "العدالة الانتقاليَّة" بديلاً عن الـ "آي سي سي"، بما يعني أن تكون ترياقاً مضادَّاً لها، وإن "المفوَّضيَّة السِّياسيَّة للاتحاد الأفريقي" شرعت في وضع إطارها القانوني، باعتبارها "تتوافق مع المجتمع الأفريقي وممارسته في حلِّ النِّزاعات الدَّاخليَّة" (المصدر نفسه).
لا بُدَّ، إذن، من التَّفريق بين النَّهجين، لنرى كيف تنكَّب الاتحاد الأفريقي، والحكومة، بالتَّبعيَّة، الطريق الصَّائب لعلاج مشكلة "الآي سي سي"، فنطرح، على الفور، السُّؤالين المشروعين التَّاليين: أترى يصحُّ اعتبار "العدالة الانتقاليَّة"، إجرائيَّاً، كترياق "مضادٍّ" لـ "القضاء الوطني"، ولـ "الآي سي سي"؟! وهل تعتبر ميكانيزماتها، موضوعيَّاً، هي ذات ميكانيزمات "القضاء الوطني"، أو "الآي سي سي"؟! وللإجابة نتناوُل المنطق الذي يحكم كلاً من المفهومين، على حدة، وكذا قانونه الباطني.

(2)
يلفـت النَّظـر، فـي شـأن الآي سي سي، مـن جهـة، تعـريـف الجَّـرائـم التي تندرج ضمـن اخـتصـاصـهـا بكـونهـا "الأشــد خطـورة" فـي موضـع "الاهتمـام الدَّولـي"، وفـق نصِّـي المـادَّتـيـن/1 ، 5 مـن "نظام رومـا الأساسي لسنة 1998م" الذي انبنت عليه؛ وهي الجَّرائم التي صنَّفتها المادَّة/5، حصريَّاً، في أربع أساسيَّات: الإبادة الجَّماعيَّة، والجَّرائم ضدَّ الإنسانيَّة، وجرائم الحرب، فضلاً عن العدوان الذي أرجئ تعريفه. ومن نافلة القول أن أكثر ما تتمظهر هذه الجَّرائم في ظروف الحروب الدَّوليَّة، أو النِّزاعات المسلحة الدَّاخليَّة.
ويلفت النَّظر، من جهة أخرى، ما يُعرف بـ "مبدأ التَّكامليَّة Complementarity" الذي تشير إليه الفقرة العاشرة من ديباجة "نظام روما"، كما تفصِّله المادَّة/17 التي تنصُّ على وجوب أن تكون ولاية "الآي سي سي" مكمِّلة لولاية "القضاء الوطني". ومعلوم أن الأخير يطبِّق عناصر القانون الجَّنائي الوطني، وسوابقه، وقواعد إثباته، وإجراءاته، وفقهه، بينما تطبِّق "الآي سي سي"، موضوعيَّاً وإجرائيَّاً، "نظام روما"، وأركان الجَّرائم وقواعد الإجراءات والإثبات المشمولة به، والمبادئ العامة للقانون الدَّولي وقواعده، بما فيها المبادئ المقرَّرة للمنازعات المسلحة، ومبادئ القانون الجَّنائي الدَّولي حسبما راكمتها العديد من الاتفاقيَّات والمعاهدات الدَّوليَّة، بالإضافة لما رتَّبته محاكمات "نوريمبرج وطوكيو" في عقابيل الحرب العالميَّة الثَّانية، وكذلك المبادئ العامَّة التي يمكن استخلاصها من النظم القانونيَّة حول العالم، والقوانين الوطنيَّة للدُّول المختلفة، شريطة ألا تتعارض مع "نظام روما" أو القانون الدَّولي، كما يجوز تطبيق مبادئ وقواعد القانون المفسَّرة في سوابق "الآي سي سي" نفسها، شريطة أن يكون هذان التَّطبيق والتَّفسير متَّسقين مع حقوق الإنسان بالمعايير الدَّوليَّة، وخاليين، على وجه الخصوص، من أيِّ تمييز ضار يستند إلى الجندر، أو السِّن، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الدِّين، أو المعتقد، أو الرأي السِّياسي، أو غير السِّياسي، أو الأصل القومي، أو الإثني، أو الطبقي، أو الثَّروة، أو المولد، أو أي وضع آخر.
مفهوم "الآي سي سي" يفيد، إذن، باتِّجاهين رئيسين: الأوَّل أن الصِّفة "الدَّوليَّة" للجَّريمة لا تبرِّر، بمجرَّدها، وعلى أهمِّيَّتها، ولاية "الآي سي سي" عليها، إذ لا بُدَّ أن تتَّسم، أيضاً، بدرجة كافية من "الخطورة"، وأن تُرتكب في سياق حرب دوليَّة أو نزاع داخلي مسلح؛ والاتِّجاه الثَّاني أن الاختصاص بمحاكمتها ينعقد، ابتداءً، لـ "القضاء الوطني"، فإذا لم يباشره، إمَّا لعدم قدرته أو لعدم رغبته، فإن الاختصاص ينتقل، عندئذٍ، إلى "الآي سي سي".

(3)
أمَّا "العدالة الانتقاليَّة" فمفهوم يقرن بين عنصرين أساسيَّين تنبغي مراعاتهما، وإلا فإن المفهوم نفسه لا يستقيم:
العنصر الأول: "العدالة"، من حيث الفهم الأكثر وسعاً لها، والقائم في تأسيس برامج الكشف عن "الحقيقة"، وإنفاذ "الانتصاف" الشَّامل، تمهيداً لتحقيق "المصالحة" في المجتمعات المنقسمة.
العنصر الثاني: "الانتقال"، ويشير إلى تحوُّل كبير من الشُّموليَّة إلى الدِّيموقراطيَّة، أو من الحرب إلى السَّلام. فرغم أن هذه العمليَّة تستغرق، في العادة، كثيراً من الوقت، إلا أن تطبيقاتها، كما تكشف معظم التَّجارب العالميَّة، نجحت حيثما ساعدت سياسات "فتح الصَّفحات الجَّديدة"، و"خلق البدايات المغايرة" على تقوية وتسريع وتائر عمليَّة التَّحوُّل أو "الانتقال".
هذا المفهوم، إذن، دال على حقل من النشاط يركز على كيفيَّة مخاطبة مختلف المجتمعات لتركة الماضي المثقلة بانتهاكات حقوق الإنسان، سواء في أزمنة السِّلم أو الحرب، بغرض تهيئة الأرضيَّة المناسبة لبناء مستقبل أكثر ديموقراطيَّة وعدلاً وسلاماً. ودلالة هذا المصطلح لا تقتصر على مجرد تصريف شكل من أشكال "العدالة" خلال فترة "الانتقال"، بقدر ما تعني، في الغالب، إنفاذ هذه "العدالة" بصورة "غير تقليديَّة".
من جهة النشأة فإن التاريخ الفعلي للمفهوم غير معروف بدقَّة، حيث جرى تداوله، ابتداءً، في حقل السِّياسة الفرنسيَّة. لكن الثَّابت أن ظهوره يعود، بدلالته التَّطبيقيَّة الرَّاهنة، إلى العام 1992م، وبالتَّحديد إلى كتاب "العدالة الانتقاليَّة: كيف تنظر الدِّيموقراطيَّات الوليدة إلى الأنظمة السَّابقة ـ Transitional Justice: How Emerging Democracies Reckon with Former Regimes"، والذي حـرَّره نيل كريتز Neil J. Kritz فـي ثلاثة أجزاء، ويضم أهمَّ الكتابات الباكرة التي استخدم فيها المفهوم والمصطلح ضمن أدبيَّات السِّياسة والقانون في مختلف البلدان، كمفهوم ومصطلح استثنائيَّين يربطان بين مفهومي ومصطلحي "العدالة" و"الانتقال"، ويشتغلان، فقط، في البلدان التي تروم استدبار الشُّموليَّة، وإقرار السَّلام، وإنجاز التَّحوُّل الدِّيموقراطي، وترميم شروخات الجَّبهة الدَّاخليَّة، والسَّير باتِّجاه إعادة البناء الاجتماعي، وتحقيق المصالحة الوطنيَّة الشَّاملة، من فوق تاريخ مثقل بتركة انقسام اجتماعي ناجم عن حرب أهليَّة متطاولة، أو نزاعات داخليَّة مسلحة، أو ممارسات إبادة جماعيَّة، أو قمع وحشي عام، أو تعذيب منهجي للخصوم السِّياسيين، أو اختفاءات قسريَّة للمعارضين، أو ما إلى ذلك من انتهاكات حقوق الإنسان، أو جرائم الحرب، أو الجرائم ضد الإنسانيَّة.
ومع تنوع التَّجارب في أكثر من أربعين بلداً حول العالم (مثلاً: تشـيلي 1990م ـ وغواتيمالا وجنوب أفريقيا 1994م ـ وبولندا 1997م ـ وسيراليون 1999م ـ وتيمور الشَّرقيَّة ـ 2001م ـ والمغرب 2004م)، فإنه لا يمكن إدراك المفهوم بمعزل عن شبكة من المفاهيم والمصطلحات التي يتضمَّنها، كلجان الحقيقة، والانصاف، وإبراء الجِّراح، وإعادة البناء الاجتماعي، وإعادة تأهيل الضَّحايا، والمصالحة الوطنيَّة، والإصلاح المؤسَّسي: القانوني، والقضائي، والسِّياسي، والعسكري .. الخ. كما تجدر الإشارة إلى أن هذه الخبرات والتَّجارب الدَّوليَّة قد تولد عنها "المركز الدَّولى للعدالة الانتقاليَّة ICTJ"، ومقرُّه نيويورك، وذلك بفضل جهود البروفيسير أليكس بورين والقس ديزموند توتو، واللذين يعتبران المهندسَيْن الحقيقيَّيْن، بجانب نيلسون مانديلا، للتَّجربة في جنوب أفريقيا؛ كما وأن الكشف عن "الحقيقة"، باعتباره بداية الطريق المفضي إلى "المصالحة"، هو القاسم المشترك بين كلِّ هذه التَّجارب، والذي يعتبر بمثابة المنهاج الملائم لمجابهة تركة الماضي كشرط للإصلاح السِّياسي الشَّامل؛ وهو المنهاج الذي يندرج ضمنه:
أ/ إصدار قانون خاص بتكوين آليَّة مستقلة لتنظيم هذه التَّرتيبات، وهي الآليَّة التي غالباً ما تتَّخذ شكل "الهيئة الوطنيَّة للحقيقة والمصالحة" أو "الهيئة الوطنيَّة للحقيقة والإنصاف والمصالحة".
ب/ تقديم اعترافات الجَّلادين لضحاياهم، أو إفادات الضحايا علانية، وذلك من خلال جلسات استماع عمومي public hearing تنشرها الصَّحافة ويبثُّها الراديو والتلفزيون.
ج/ ابتداع حزم من الانتصاف وجبر الضَّرر reparation للضَّحايا وذويهم، أي أنظمة معالجة الانتهاكات، جسمانيَّاً ونفسانيَّاً، وإعادة التَّأهيل "الفردي" الذي قد يتخذ شكل التَّعويض المالي، أو المساعدة على إعادة الإلحاق بالعمل، أو توفير مصدر الرزق المقطوع، أو الدِّراسة، أو السَّكن، أو خلافه، وكذلك "الجَّماعي" الذي قد يتَّخذ شكل التَّمييز الإيجابي positive discrimination في التَّنمية، والإعمار، والخدمات بالنِّسبة للمناطق والمجموعات الإثنيَّة التي يكون قد طالها التَّهميش، كما وبالنِّسبة للنِّساء والفئات التي تكون قد عانت من الاستضعاف، فضلاً عن بعض الإجراءات الرَّمزيَّة، كالاعتذار الرَّسمي من الدَّولة، وما إلى ذلك.
د/ إحياء ذكرى الضَّحايا وتكريمهم، بعد التَّشاور معهم أو مع ذويهم، وذلك بانشاء النُّصُب التِّذكاريَّة، ومتاحف الذَّاكرة، كالمتحف الذي أقيم، مثلاً، داخل مصنع البطاريَّات بسيربينيتسا في البوسنة، حيث وضعت متعلقات 20 من أصل 8000 ضحيَّة من المسلمين الذين تمَّت تصفيتهم فيه من جانب الصِّرب، وإلى ذلك تحويل المواقع التي كانت تستعمل في الماضي كمعسكرات اعتقال، أو بيوت سرِّيَّة للتَّعذيب، إلى منتزهات تذكاريَّة، فضلاً عن تفعيل الحوار المجتمعي البنَّاء حول أحداث الماضي، والذي يستهدف العفو، لا النسيان.
هـ/ العمل على تحقيق ودعم مبادرات "المصالحة" في المجتمعات المنقسمة، بمشاركة الضَّحايا، أو ذويهم، أو من يمثِّلونهم سياسيَّاً ومدنيَّاً، حول ما يمكن عمله لإبراء الجِّراح، وخلق فرص التَّعايش السِّلمي مع "أعداء الأمس"، وفتح الطريق نحو بناء المستقبل الوطني الأفضل.
و/ إصلاح المؤسَّسات التي تكون قد استُخدمت في الانتهاكات (الأمن ـ الشُّرطة ـ الجَّيش ـ القضاء)، كإجراء وقائي ضد الانتهاكات مستقبلاً.
منطق هذا النمط من تدابير "العدالة الانتقاليَّة" قائم في اتساع وضخامة الجَّرائم المرتكبة خلال الفترة السَّابقة على الانتقال، رأسيَّاً من حيث النوعيَّة، وأفقياً من حيث الأعداد الكبيرة للمنتهكين والضَّحايا، والمكوِّنة لتركة الماضي المراد تصفيتها، بحيث تصعب معالجتها جميعاً عن طريق إجراءات المحاكم العاديَّة، كون هذه الإجراءات تتقيَّد بقواعد صارمة، كالإثبات دون شكٍّ معقول beyond a reasonable doubt، مِمَّا يستلزم التَّريُّث، والتَّأنِّي، وعدم استعجال الإجراءات، وبالتالي فإنَّها لا تفِي بالكشف عن نطاق واسع، نسبيَّاً، من الجَّرائم خلال فترة زمنيَّة محدودة؛ وهناك الاصطدام بين بعض هذه الإجراءات، كمنح العفو Pardon مقابل تقديم إفادات عن أدوار الشركاء "شهادة الملك King s Evidence"، وبين بعض المبادئ القانونيَّة الدَّوليَّة التي تعتبر هذا النَّوع من الإجراءات غير مقبول في حالات الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، وللقانون الدَّولي الإنساني؛ وثمَّة، أيضاً، حصانة الإقرارات التي يدلي بها المنتهكون في جلسات الاستماع من أن تُستخدم في أيَّة دعوى تقام ضدَّهم أمام المحكمة، كون هذه الإقرارات مطلوبة فقط لأغراض الكشف عن الحقيقة، لا للتَّقاضي.
غير أن مفهوم "العدالة الانتقاليَّة" يعترف، أيضاً، بكون "الانتقال" عمليَّة محفوفة بالمعوِّقات، بقدر ما هي محفوفة بفرص قيام ديموقراطيَّات حقيقيَّة. فقد تتمخَّض، مثلاً، عن مفاوضات مطوَّلة، فتنتج سلاماً ضعيفاً، وديموقراطيَّة هشَّة، أو يكون عدد المنتهكين أو الضَّحايا أو ذويهم من الرَّاغبين في حكي قصصهم ونيل التَّعويضات كبيراً؛ أو توجد معوِّقات قانونيَّة أو دستوريَّة ناجمة عن جولات تفاوض سابقة، كالعفو عن مجرمين مرتبطين بالنظام السَّابق؛ وقد تعاني الدِّيموقراطيَّات الوليدة من تدخُّلات السُّلطة الجَّديدة، أو تأثيرات مجرمي النِّظام السَّابق، مِمَّا يجعل المفهوم منتقَصاً من ناحية قيم مهمَّة، كالدِّيموقراطَّية، والاستقرار، والحكم الرَّاشد، وسيادة حكم القانون، والمساواة أمامه، وتحقيق العدالة للضَّحايا وأسرهم .. الخ.

(4)
ما من شكٍّ في أن الإجابة أضحت، الآن، جدَّ واضحة على السُّؤالين اللذين بدأنا بهما هذه المقالة: أيصحُّ استخدام "العدالة الانتقاليَّة" ترياقاً "مضادَّاً"، من الناحية الإجرائيَّة، لـ "القضاء الوطني"، ولـ "الآي سي سي"؟! وهل تعتبر ميكانيزماتها، من النَّاحية الموضوعيَّة، هي ذات ميكانيزمات "القضاء الوطني"، أو "الآي سي سي"؟!
وهكذا فإن ما تمخَّض عنه "مؤتمر قامبيا"، من حيث التَّوصية للاتحاد الأفريقي، ولدول القارَّة، بتبني "العدالة الانتقاليَّة"، كبديل يناويء الـ "آي سي سي"، لهو خلط وتخليط منهجيين، فلا يجوزان. بل إن المرء ليعجب أيُّ إطار قانوني شرعت "المفوَّضيَّة السِّياسيَّة للاتحاد الأفريقي" في وضعه لهذا المشروع العجيب، حسبما ورد في الأخبار!
"العدالة الانتقاليَّة" و"الآي سي سي" مؤسَّستان تشتغل كلٌّ منهما في محيطها على حدة. ولئن كانت "العدالة الانتقاليَّة" هي المؤسَّسة الأنسب لمجابهة تركة الماضي في سياق "الانتقال" المطلوب من "الحرب" إلى "السَّلام"، أو من "الشُّموليَّة" إلى الدِّيموقراطيَّة"، فإن من شروط تطبيقاتها الأساسيَّة أن يكون ثمَّة توافق بين الحكومة والمعارضة على تفعيلها، فلا الحكومة وحدها، ولا المعارضة منفردة، تستطيع تفعيل أيِّ شكل من "العدالة الانتقاليَّة"، هذا من ناحية، أما من النَّاحية الأخرى فينبغي ألا يكون قد بدئ في إنفاذ أيِّ إجراء يخصُّ "الآي سي سي" مِمَّا تنصُّ عليه المادَّة/15 من النِّظام.
ودرءاً لأيِّ سوء تفاهم غير مرغوب فيه، نسارع لتوضيح أن اعتراضنا لا ينصبُّ على كون "العدالة الانتقاليَّة تناسب المجتمعات الأفريقيَّة"، حسب توصية "مؤتمر قامبيا"، وإنَّما ينصبُّ، بالأساس، على الخلط والتخليط بين غايات هاتين المؤسَّستين، ومحاولة تنصيب "العدالة الانتقاليَّة" في موضع المناوءة لـ "الآي سي سي". ولعلَّ هذا الفهم يتجلى بصورة أكثر وضوحاً في ما سبق أن أسهمنا به، بتواضع جم، من كتب ودراسات ومقالات ومحاضرات، داخل وخارج السُّودان، طوال سنوات "الفترة الانتقاليَّة" التي أعقبت توقيع "اتفاقيَّة السَّلام الشَّامل CPA"، وإصدار "الدُّستور الانتقالي لسنة 2005م". ففي جُلِّ تلك الإسهامات انصبَّ تركيزنا على التَّنبيه لأهميَّة تطبيق شكل سوداني مناسب من استراتيجيات "العدالة الانتقاليَّة"، قبل نشوء التَّعقيد المتمثِّل في تفاقم إجراءات "الآي سي سي"، مِمَّا كان يقتضي توفُّر قدر كافٍ من الإرادة السِّياسيَّة لتفعيل جوهر المادة/21 من ذلك الدُّستور، والتي توجِّه بأن "تبتدر الدَّولة عمليَّة شاملة للمصالحة الوطنيَّة وتضميد الجِّراح من أجل تحقيق التَّوافق الوطني والتَّعايش السِّلمي بين جميع السُّودانيين". فبرغم ورودها، للأسف، ضمن الفصل الثَّاني من الباب الأوَّل، بعنوان: "المبادئ الهادية والموجِّهات"، على حين كان ينبغي أن تكتسي، وبتفصيل أوفى، صفة أكثر إلزاميَّة، فقد كانت ثمَّة ضرورة سياسيَّة وطنيَّة تستوجب الاهتداء، مع ذلك، بروح هذا النصِّ لإنتاج شكل من "العدالة الانتقاليَّة" في ضوء الخبرات والتَّجارب العالميَّة المشار إليها.
لقد كنا نحلم بتجربة سودانيَّة تنظر في هذه الخبرات، وبالأخص في خبرتي جنوب أفريقيا والمغرب، وربَّما تقتدي بإيجابيَّاتهما، غير أنها، قطعاً، ستتفادي عوارهما. وكم كانت سعادتنا غامرة يوم تبنَّى الحزب الشِّيوعي السُّوداني الدَّعوة لمشروع "العدالة الانتقاليَّة"، خصوصاً من خلال التَّقرير السِّياسي الذي قدَّمه الرَّاحل المقيم محمَّد إبراهيم نقد، السِّكرتير السَّابق، إلى المؤتمر الخامس للحزب عام 2009م، وبشَّر به حتَّى من فوق منصَّة جلسته الاحتفاليَّة المفتوحة بقاعة الصَّداقة بالخرطوم صبيحة 24 يناير 2009م. ولئن كان الرَّجل قد ألمح، خلال كلمته تلك، إلى إمكانيَّة استخدام أجواء "العدالة الانتقاليَّة" لتسوية مسألة "الآي سي سي"، فإنه لم يربط بينهما ربطاً شرطيَّاً، ولم يجعل من الأخيرة ردَّاً انعكاسيَّاً للأولى، بل كان يعبِّر عن مدى استعداد الحزب، في قلب المعارضة السِّياسيَّة، للانفتاح على مثل هذه المناهج الحديثة، مثلما كان يبدي قدراً من حسن النيَّة، في ما لو أبدت السُّلطة ما يماثله.
ونذكر، أيضاً، أننا، في المناقشة التي أثرناها بتكليف من ممثلي منظمات المجتمع المدني العالميَّة، خلال الاجتماع الدَّوري لجمعيَّة الدُّول الأطراف assembly of states parties (ASP) في مقرِّ "الآي سي سي" بلاهاي عام 2006م، كنا أشرنا إلى القصور المتمثِّل في اقتصـار المسـائل المفضـية إلى تقـرير "عدم مقبوليَّة الدَّعـوى"، وفق المادَّة/17، على ثبوت أن إجراء كـ "التَّحقيق" أو "المقاضاة"، فحسب، قد تمَّ في إطار النِّظام القانوني للدَّولة المعيَّنة، وطالبنا، من ثمَّ، بإدراج "العدالة الانتقاليَّة" ضمن هذه المسائل، حيث أن تجربتها المعبِّرة عن رضا الضَّحايا المحتمل، بل وغالباً عن الرِّضا الشَّعبي العام بنتائج هذا الضَّرب من العدالة، آخذة في التمدُّد، عالميَّاً، خلال العقود الماضية. على أن التَّعاطي مع تلك المطالبة كان، للأسف، سلبيَّاً، كما وأن أحداً لم يعُد إلى طرحها من خلال دورات الانعقاد اللاحقة للدُّول الأطراف؛ والمأمول، الآن، أن تنطرح خلال الدَّورة القادمة المزمع عقدها بلاهاي بين 16 ـ 24 نوفمبر الجاري.

(5)
أمَّا في الوقت الرَّاهن، وقد مرَّت مياه كثيرة تحت جسر الصِّراع السِّياسي في بلادنا، فإنه تكاد لا تنتطح عنزان على حقيقة أنه لم يعُد، لا بمقدور الشَّعب ولا النِّظام، مواصلة السَّير بالطريق القديم، كما وأنه لم يعُد ثمَّة مخرج من هذه الحالة سوى أحد اثنين لا ثالث لهما، بدون أيَّة مزايدة أو مناقصة: فإما التَّسوية السِّياسيَّة المشروطة، أو الانتفاضة الشَّعبيَّة. فلئن كان من المعلوم أن الانتفاضة خيار يتَّخذه الشَّارع منفرداً، ويفرض شروط قواه السِّياسيَّة والاجتماعيَّة الحيَّة من جانب واحد، فإن التَّسوية المشروطة تستوجب، بطبيعتها، مساومة تاريخيَّة تؤسِّس لفترة انتقاليَّة متَّفق عليها، تتمُّ خلالها عمليَّات سياسيَّة انتقاليَّة كاملة وشاملة، بما في ذلك إيقاف الحرب، وإنفاذ التَّرتيبات الإنسانيَّة المطلوبة بإلحاح، كما تشمل تشكيل حكومة انتقاليَّة، وهيئة تشريعيَّة ورقابيَّة انتقاليَّة، وإنفاذ شكل من "العدالة الانتقاليَّة" ليس من شروطه أن يحلَّ محلَّ "الآي سي سي"، وإنَّما يستصحب، بالضَّرورة، إطلاق سراح المعتقلين والسُّجناء السِّياسيين، وإلغاء القوانين المقيِّدة للحريَّات، وعقد المؤتمر القومي الدُّستوري، وإجراء الانتخابات الحرَّة النَّزيهة؛ ثمَّ يكون، بعدها، لكلِّ حادث حديث!
ختاماً، لا نضع النُّقطة في نهاية السَّطر، قبل أن نؤكِّد أن مثل هذه التَّسوية تفرض على المعارضة أن تدرك جيِّداً أن "العدالة الانتقاليَّة" ليست محض عمل منفرد من أعمالها السِّياسيَّة، مثلما يتوجَّب على النِّظام أن يضع نصب عينيه أن "المصالحة" التي تترتَّب على هذه "العدالة الانتقاليَّة" ليست مصالحة "إجرائيَّة" معه، وإنَّما "موضوعيَّة" مع التَّاريخ، كما وأنَّها ليست معنيَّة بحلِّ مشكلات أفراد، بل معالجة أزمات وطن، والأهمُّ أنَّها ليست من ذلك النَّمـط الذي تفضِّـله الأنظمـة الشـُّموليَّة، عادة، فتنطلق تروِّج له أبواق بروباقانداه تحـت شـعاره الأثير: "عفـا الله عما سلف"!
***



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن