الذاكرة والمعرفة والحلم -في تقريظ كتاب عبد الحسين شعبان-

محمد جواد فارس
farisjawadmuhammad@gmail.com

2016 / 11 / 15

طبيب وكاتب – لندن

في قراءة لكتاب الصديق د.عبد الحسين شعبان الموسوم (المثقف وفقه الأزمة – ما بعد الشيوعية الأولى)، والذي اتّسم بمراجعة نقدية للحركة الشيوعية العراقية ودور المثقفين العراقيين والعرب في خضم التطوّرات التي سادت العراق والمنطقة قبل احتلال العراق وبعده، استوقفتني العديد من المحطات التاريخية والعناوين المهمة التي حاول معالجتها، والتي تتعلّق بأزمة الثقافة وأزمة المثقف بشكل عام، واليساري بشكل خاص، والشيوعي على نحو التحديد، كما هو واضح من العنوان.
وشعبان تحدّث عن واقع حالنا وأزمتنا العامة والخاصة، ولا سيّما انكسار الأحلام وتبدّد الكثير من القيم، تلك التي ضحينا من أجلها، واستشهد كثيرون إيماناً بها، وإذا بنا نشهد تراجعاً إثر تراجع وانحداراً بعد انحدار، وفي كل مرّة نقدّم الذرائع المختلفة، تارة بحجة "التجديد" وأخرى "التساوق مع التغيير"، وثالثة أن الإمبريالية حقّقت ما يريده الشعب العراقي، بإسقاط النظام ورابعة "أننا نشارك مع الاحتلال في مجلس الحكم الانتقالي كي لا ينعزل الحزب الشيوعي"، وخامسة أننا ينبغي أن نتخذ "موقفاً إيجابياً" مما حصل، خصوصاً الإطاحة بالنظام الدكتاتوري، وسادسة "أن دعوة بريمر لنا للمشاركة، هي لأننا قوة مهمّة" وغيرها من التبريرات التي تقدّم الذاتي على الموضوعي والخاص والمصلحي، على العام والمبدئي.
فهل أصبحت الإمبريالية والرأسمالية محرّرة اليوم، وصديقة الشعوب التي تعطف عليها وتسعى لتحريرها من مستبديها أم أن نظرتنا هي القاصرة لدرجة أُصبنا بعمى الألوان، فلم نعد نميّز العدوّ من الصديق؟ وما هو دور المثقفين في ذلك، وكيف برّر بعضهم النوم مع الشيطان في سرير واحد؟
وكنتُ قد كتبت مقالة في الحوار المتمدن بتاريخ 1/8/2004 بعنوان: "من هم المثقفون في عراق الاحتلال؟" فهل هم بالفعل شريحة عضوية في المجتمع السياسي العراقي، أم أنهم جماعة معزولة عن المجتمع وهمومه وقضاياه؟. إن نموذج العراق بعد الاحتلال يعطي مثالاً سيئاً عن دور بعض المثقفين، وخصوصاً اليساريين والعلمانيين والحداثيين، فقد تحول بعضهم إلى مجرد "موظفين" في خدمة مؤسسات الاحتلال، وبعضهم الآخر أضحى من أدواته، وكان هدف هؤلاء هو تحسين صورة المحتل وتزويق أهدافه من خلال مؤسساته الفكرية والإعلامية.
وأصبح الاحتلال بقدرة قادر هو نصير الديمقراطية والسلام، وليس هو قاتل الشعب العراقي ومدمّر البنية التحتية للعراق، وهذا ما نشاهده الآن من التركات الثقيلة التي خلّفها الاحتلال ومنها في قطاعات التعليم والصحة والمؤسسات الدفاعية والأمنية، حيث ترك العراق منهكاً وضعيفاً وسيادته الوطنية منتهكة.
ولكن ما هو معروف لدى الكثير من أبناء العراق والوطن العربي أن المثقف، ولا سيّما اليساري يلعب دوراً ريادياً في نقل الحقيقة ونقل الخبر من خلال كتاباته في مجالات متعدّدة في الفكر والسياسة والفن بكل أنواعه والرواية والقصة، معتمداً على ما أنتجه الفكر الإنساني في الفلسفة والاقتصاد والاشتراكية العلمية وحقوق الإنسان وعلم الاجتماع، ويجسد فيها قيم الخير والجمال والعدالة، بحيث يستطيع التأثير على المتلقي.
كنّا نتوقع من مثقفينا، وخاصة المدّعين بالفكر الماركسي أن يهتدوا بما قاله ماركس: إن مهمة الفلسفة لا تقتصر على تفسير العالم بل تغييره، وتلك هي الغاية الحقيقية لإقامة المجتمع السعيد. لقد أفرط بعضهم في عرض واقع الحال وتهرّب من السؤال الكبير: لماذا لم يقاوم الاحتلال سلمياً على الأقل؟ ولماذا ينتقد ويعادي الذين قاوموه ورفضوا التعاون معه؟
ومع كل المحاولات للتعتيم على دور المثقفين الوطنيين واليساريين، إلاّ أن عدداً غير قليل منهم برز بالضد من مثقفي الاحتلال الذين باركوه، بحجة الخلاص من الدكتاتورية الجاثمة على صدور العراقيين، ومن هؤلاء الذين برزوا كان عبد الحسين شعبان بما كتبه وحاضر به ونشره من كتب وأبحاث ومقالات.
ولكن لنتذكر ما قاله هتلر ونابليون عن مثل هؤلاء الذين قبلوا بدمغة الاحتلال وهويّته، عندما سئلوا بعد احتلالهم لبلدان قالوا إنهم يحتقرون من وقف إلى جانبهم في احتلال بلدانهم. ونقول إن الوطن هو الأول وهو الأخير، ولو كان الذين ضحوا بأرواحهم مثل فهد وسلام عادل والحيدري وحسن سريع قد عرفوا بأن بعض اليساريين العراقيين سيقفون مع الاحتلال لتبرأوا منهم ومن شيوعيتهم، ولكانوا ماتوا مرّتين.
كان للسرد الذي أتى بكتاب الدكتور عبد الحسين شعبان في تفصيله لمجريات الحدث ومن خلال متابعته الميدانية لما جرى في الحركة الشيوعية العراقية بعد المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي العراقي (1985) وما رافقته سلسلة من الكولسة والتآمر على مصير الحزب وكوادره بحيث ظهر جلياً عدم التزام القيادة الرسمية للحزب بأبسط معايير القيادة الجماعية والقواعد التنظيمية المعروفة، نضرب مثلاً واحداً: حين أعطى سكرتير الحزب عزيز محمد لنفسه الحق في اختيار (تعيين) عشرة أعضاء في اللجنة المركزية دون معرفة أحد، ليس هذا فحسب، بل هو من قال: اجتمعنا ليلغي نصفنا النصف الآخر. كان الاختلاف قد تعمّق بسبب رفض واسع لمواقف القيادة من الحرب العراقية – الإيرانية، والتواطؤ مع الموقف الإيراني، وكذلك بسبب ذيلية القيادة للحركة الكردية.
لم يكتفِ شعبان بذلك، بل عرض المعاناة الحقيقية في حياة بعض الرفاق من الذين مشهود لهم بنضالهم وخلاصهم وحرصهم وكفاءتهم، خصوصاً وأن بعضهم من الكوادر المعروفة في مسيرة الحزب، بغض النظر عن النجاحات والإخفاقات، كما عرض مفاصل تاريخية لليسار العراقي بإيجابياته، وهي كثيرة وسلبياته وهي غير قليلة، وذلك من خلال ممارسة عملية النقد والمكاشفة وتحديد المسؤوليات لتاريخنا، وقد جاء على ذلك بكتابه الموسوعي "تحطيم المرايا في الماركسية والاختلاف"، والتاريخ مُلكنا جميعاً ومن حقنا نقده، وقد عملنا في صفوف الحركة الشيوعية لعقود من الزمان، وآن الأوان لمراجعة الأخطاء والنواقص والعيوب الفكرية والسياسية، وأن من يحاول التغطية عليها أو إخفائها إنما يصبّ ذلك في مصلحة العدوّ الذي يهمه عدم مراجعة أخطائنا والتخلص منها، وأعتقد أن الرفيق شعبان حاول تبصير الجيل الجديد وتنويره للمستقبل لكي لا تتكرّر مثل تلك الأخطاء.
لقد تصدعت وحدة الحزب خلال الحرب العراقية – الإيرانية بسبب وجود موقفين متعارضين الأول مساير لإيران والثاني معارض للمشروع الحربي والسياسي الإيراني، وكشف هذان الموقفان عن المأزق الفكري والسياسي الذي عانى منه الحزب الشيوعي وانعكس على علاقته بالجماهير، إضافة إلى وجود مراكز قوى داخله بعضها لم يكن بعيداً عن تأثيرات خارجية، وقد جاءت الفرصة لهذا الفريق بعد الاحتلال بشكل خاص، فسار خلف قيادات دينية وقومية كردية، وامتثل لأوامر بريمر ومجلس حكمه، وهكذا تم تشويه الهويّة الوطنية الناصعة للشيوعيين العراقيين.
لقد أماط الكاتب اللّثام عن أحداث تاريخية لهذه القيادة ومنها ما حدث للقياديين السابقين في الحزب من معاملة قاسية وكيل للتهم المفبركة ضد عامر عبدالله وثابت حبيب العاني، وطرح الكاتب سؤالاً حول مذكرات عامر عبدالله وما حدث لها، ولِم لمْ ترى النور لكي يستفيد منها الشيوعيون بما لها وما عليها.
إن مذكرات عامر عبد الله التي أخفيت، كان الهدف منها أن يكون مصيره النسيان، وحتى لا يكشف المستور، وهو ما كان قد هدّد به، وسبق أن وجّه رسائل إلى السوفييت يتهم القيادة الرسمية في حينها، وأجرى اتصالات عديدة ومعه باقر إبراهيم وعدد من أعضاء القيادة، إضافة إلى انشقاق حركة المنبر التي اتخذت خطاً واضحاً وصريحاً، من الحرب ومن بعض القضايا الفكرية والتنظيمية.
وعلى الأغلب أن هناك شلّة من الحرس القديم وبعض أتباعهم عملوا على ألاّ ترى مذكرات عامر عبدالله النور، لأنهم لا يريدون للحقيقة أن تظهر وتكشف ممارساتهم اللاّتنظيمية وغير الأصولية في السياسة وتبديد أموال الحزب ووضعها بأيادي غير أمينة، وبخصوص ثابت حبيب العاني فقد كانوا يضمرون له الشر وهو ما كشفته صحيفة "المنبر الشيوعي" في حينها، التي عرضت ما عاناه خلال وجوده في كردستان أيام الكفاح المسلح، حيث كانت حياته تحت رحمة الأقدار.
وقد دافع الكاتب عن وطنية الشيوعيين من جهة وعن نضالهم ضد الدكتاتورية من جهة ثانية، وكذلك مواقفهم من الاحتلال الأمريكي، وهو ما أزعج القيادة الرسمية، وذلك حين كتب مقالة بعنوان: "عن ثقافة وهموم شيوعية وطنية" والمقصود بذلك ثقافة بعض المثقفين الذين تعاونوا مع الاحتلال، وأكّد الكاتب أنه لا يوجد حزب يضم الفسيفساء العراقية بكل أطيافها مثل الحزب الشيوعي العراقي، وهذا ما يؤكد وطنية الشيوعيين بامتياز، وهو ما ينبغي الدفاع عنه.
أظهر المؤلف بشكل جلي أزمة الثقافة والمثقف في حركة التحرّر الوطني، طارحاً رأياً سديداً في الحديث عن أهمية الطريق لحوار جاد ومخلص من تيارات هذه الحركة الشيوعية، القومية، الوطنية والديمقراطية، مؤكداً على أهمية هذا الطريق من أجل صياغة استراتيجية وخط ثوري صحيح للنهوض بحركة التحرر الوطني من جديد، وما جاء بطرحه ما هو إلاّ استنتاجاته القائمة على الدراسة والتمحيص والنقد عن صيغة الأزمة وأسبابها وطرق الحل لها، وهي أزمة قيادة وأزمة فكر وأزمة تنظيم كما يرى الكاتب شعبان.
ولعلّ أهمية ما جاء من سرد المؤلف هدفه هو بحث ما جرى ويجري في الوقت الحاضر من انكسارات وخيبات أمل، لما يحدث في العالم والمنطقة العربية وعلى جه التحديد في عراقنا، حيث يسود نظام المحاصصة الطائفي – الإثني، وحيث تتمزّق البلاد، ويستمرّ داعش في إرهابه، وعلى الرغم من هزيمته المحتمة، إلاّ أن غياب مشروع وطني جامعي يلعب فيه اليسار دوراً مؤثّراً يجعل البلاد حالياً عرضة للتشظّي والتفتيت.
أجزم أن الكتاب جدير بالقراءة لما يتضمنه من أفكار واستنتاجات لا تغني اليساريين فحسب، بل جميع الوطنيين والمتابعين للشأن السياسي والثقافي بشكل عام.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن