حكايا جدو أبو حيدر -22-

كمال عبود
daryusi@yahoo.de

2016 / 11 / 11

ثمينٌ جداً

كل الينابيع إلى السواقي ، كُلُّ السواقي إلى الوديان ... ولكلِ وادٍ نهرهُ الجامع للمياه ، يُغذي القرى مزارِعاً وناساً وماشية، لكلِ نهرٍ حكايات وحكايات ...
في الشتاءاتِ الغابرة ، كانت السنوات ماطرة ، كانت تمطِر بغزار ه، أياماً طوالاً تظلُّ ماطرةً وعاصفةً ...
هناك النهر الكبير في وادي قنديل الواسع ، النهر الصدوق الودود ، الجار الكريم للقرى الوادعة ... حنون ورؤوفٌ كل الايامُ ، إلا أيام الغضب .. أيام تكفهرّ السماء وتنزل أثقالها عليه دفعة واحدة ، هناك يغضب .. يتعكّرُ ويهدرُ مرسلاً صوتُهُ إلى الجميع أن ابتعدوا عني ...

أهل قرية قنديل ، يحبون النهر ، وهو يبادلهم الحب ، يحفظ أسرارهم ، أحياناً يُطعمهم سمكاً ويسقي نباتات الورد البري ، وأعشاباً يأكلونها ، تخففُ فقرهم القاسي الثقيل ...

تخرج العائلات من القرية كل صباح إلى الحقول الصغيرة ، يحرثون ويزرعون ، يعزفون الأرض ويسقون ، ويأكلون من تعبهم حلالاً طيّبا ،
تخرج ( خديجة ) ، ابنة القرية التي لم تتزوج ، تحمل زوادتها مثل الجميع ، لكنها تُخفيها تحت الثوب ، لم يعرف أحد قط ما تخفيه ، تعمل في أرضها ، وتأكل لوحدها دائماً ، فيما الجميع يتشاركون الطعام الموجود في جماعات عند الظهيرة ، وعبثاً راحت دعواتهم ل( خدوج) كي تشاركهم الطعام ...

أيام تصحو السماء في الشتاء ، يخرج العاملون ، يتفقدون ما زرعوا ... يحفرون خنادق صغيرة باتجاه النهر كي لا يغرق النبات ، في صباحٍ شمسهُ واهنة ضعيفة ، خرجت خدوج مع آخرين ، كل إلى عمله ...
مضت ساعات قبل أن يتكثّف الغيم ، ثمّ فجأة أظلمتْ الدنيا ، عاصفةٌ وبرق ورعد قصف الحقول والجبال ، ارتبطت السماء مع الاأض بحبال المطر ، أثقلت الأمطار كاهل من كان هناك ، ثقلتْ خطواتهم في الأوحال .. حبّاتُ البَرَدْ الكبيرة تطرقُ الرؤوسِ كالحصى الكبيرة .. كالمطارقْ ...

وتنادوا لبعضهم :
سيفيض النهر .. أسرعوا .. أسرعوا يا لعالم .. اتركوا كل شيء ، لن نستطيع أن نعبر النهر إلى القرية لو تأخرنا نصف ساعة ...
أسرع يا مصطفى .. اترك العجل مكانه الى الغد..
وأنت يا أم محمود ما كان عليك إحضار الولد ، أسرعي ..
وأنتَ وانتِ يالله عجٌلوا
وانتِ ياخدوج ، اسرعي ، اسرعي ..

خدوج لا ترد
أين خدوج ، اصرخوا لها ... وصرخوا
قالت خدوج من بعيد : ما خلصت .. بدي شوية وقت ..
فاض النهر ياخدوج!
خدوج لا ترد ..
تجاوز الجميع وحل الحقول وتجاوزوا النهر الذي فاض عن جانبيه ، والمطر الغزير يلتفُ بالتفاف الرياح الشديدة...

وأخيراً وصلت خدوج إلى ضفة النهر ..
صاحوا: من هنا ياخدوج .. من هنا .. النهر ليس عميقاً .. اسرعي ..

نزلت خدوج النهر .. حملتْ حذاءها بيدها اليمنى ، رفعته عالياً، ومشت في الماء تجدّف باليسرى .. تقاوم سيل الماء الجارف .. ولكن السيل أقوى...

اتركي الحذاء وجدّفي باليدين يا خدوج ..
الماء يرتفع ويرتفع ، وخدوج تقاوم الخطر بيدها اليسرى
اتركي الحذاء يا خدوج
صرخت: لا أستطيع ، ما عندي غيره .. هو جديد ..
قال أحدهم: .. هاكم الحبل .. ارموه لها ..
رمى الحبل أحدهم : خذي يا خدوج تمسكي الحبل بيديك الاثنتين .. اتركي الحذاء
الحبل يصل قربها، تحاول أن تمسكه بيدها اليسرى ، تبوء بالفشل .. يرمونه مرّةً أخرى فيسحبه السيل
خدوج تصارع السيل والسيلُ يعلو ، يلفها حول نفسها مرات ومرات .. يزداد الصراخ ..: اتركي الحذاء يا خدوج .. اتركيه ..
والحذاء لمّا يزل عالياً فوق الماء تحمله يدها اليمنى...
لم يجرؤ أمريءٍ على إنقاذها
انُهِكت .. لم يسعفها حبل ولا مقاومة .. والماء المُعكّرُ الذي يجرف جذور الأشجار والحجارة تضرب في قسوة جسد خدوج الذي يُعارِك السيل ... يُعَرِّض الموت ..
الحذاء مازال عالياً محمولاً بيد خدوج اليمنى ، والنَّاس تحت وابل المطرِ في ذهول ..
رفع السيل جسد خدوج ، دار بها دورات ودورات وسحبها الى أبعد وأبعدْ .. ثمّ غاب الجسد إِلَّا من يدٍ تحمل حذاءً ...
اختلط صوت الرعد والمطر وهدير السيل بصوت الذاهلين :
راحت خدوج .. خلص .. راحت

بعد ساعاتٍ وجدوها بعيداً كثيراً ، جثّةٌ عالقة بِجِذْع شجرةٍ مرميةٍ فوق النهر .. تعلو وتهبطُ مع علو النهر وهبوطه..
وجدوا جثةً ممددةَ الذراعين وفردةَ حذاء واحدةٍ في فم خدوج ، تعضُ عَلَيْهِ بقوة وقسوه ..
*****
هكذا يُطبق الفم في بلدي على ( الثورة) - عدم المؤاخذة –



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن