التوراة وشعبها وأربابها

سيد القمني
elqemany@yahoo.com

2016 / 10 / 20

العلم للجميع
التوراة وشعبها وأربابها
الطقطوقة الثانية
وخلال ذلك السير التطورى الطويل كان كهنة يهوه وأنبيائه يكافحون طوال الوقت العبادات الغريبة الأخرى، وحاولوا - خاصة فى الأسفار الأخيرة ـ تمييز يهوه بحسبانه ربا عالميا. ومع التطور أمكن لهم إدماج جميع الرموز المعبودة فى رب واحد هو يهوه، الذى صار ربا واحداً لكن تتجلى فيه قدرات آلهة أخرى قديمة، فهو رب البرق والرعد والأعاصير مثل (بعـل)، وهو الذى ينزل السخط والعذاب والجوع والجفاف مثل (سيت) المصرى، وهو رب الرحمة رغم ذلك مثل (أوزيريس) المصرى، وهو أيضاً رب البراكين والزلازل المدمرة (تيفون)، وهو الذى قتل الحية الشريرة المعروفة فى مصر باسم (أبو فيس) عدو رع الشمس، والمعروفة فى بلاد الشام باسم (لوياثان الحية متعددة الرؤوس). ومثلما كان رع وأتباعه ينتصرون على أبو فيس كل يوم لتعود الشمس ساطعة فى اليوم التالى، وكما كان البعل الكنعانى ينتصر على لوياثان، فإن ذات المهمة قد نسبت إلى يهوه، فنجد وصفا مرعبا للوياثان فى الكتاب اليهودى المقدس يقول: " من يفتح مصراعى فمه، دائرة أسنانه مرعبة، عطاسه يبعث نوراً وعيناه كهدب الصبح .. من فيه تخرج مصابيح، شرار نار يتطاير منه، من منخريه يخرج دخان كأنه من قدر منفوخ
أو من مرجل، نفسه يشعل حجراً . . / أيوب 41 / 14 ــ 20 ". وهذا التنين الثعبانى قد قتله يهوه فى النص " أنت شققت البحر بقوتك، كسرت رؤوس التنانين على المياة، أنت رضضت رؤوس لوياثان / المزمور 74".
وهـو الأمـر الـذى سجلته لنـا ألواح أو غاريت المكتشفة على الساحل السـورى / رأس شمرا الآن قبل التوراة بأزمان فنقرأ فى ملحمة البعل " في ذلك الوقت ستقتــل لـوياثان الحية الهاربة وتضع نهاية للحية الملتوية شالياط ذات الرؤوس السبع " ( ).
وقد كررت هذا النص التوراة فى قولها نصيا " فى ذلك اليوم يعاقب الرب بسيفه القاسى العظيم الشديد لوياثان الحية المتحوية / إشعيا 27 / 1 ".
وأدمجت جميع الآلهة ووظائفها فى شخص يهوه، بعضها كان يمثل الخير، وبعضها الآخر يمثل الشر، أما يهوه فحاز الدورين معاً " أنت فجرت عينا وسيلا ، أنت أيبست أنهاراً دائمة الجريان، لك النهار ولك الليل أيضاً / المزمور 74/15".
لذلك - وبالضرورة - احتسب أن الخير والشر ينبعان كلاهما من يهوه الواحد بذات الدرجة دون تناقض. لكن ذلك أدى إلى مشكلة مستعصية ظلت بعد ذلك أرقا دائما للأنبياء والكهنة.
وتتمثل المشكلة فى أن الديانة اليهودية على غير المعتاد فى جميع الديانات، اختار فيها الرب شعبه إسرائيل من دون الناس ليتأله عليه وينقذه من ظلم المصريين، بينما المعتاد أن تختار الشعوب آلهتها. أى أنه خص تلك القبيلة دون العالمين بذاته وعبادته وفضلها على العالمين، ومع ذلك فإن هذا الرب الذى جمع صفات آلهة الخير مع آلهة الشر، لم يكن ينزل الشر فقط بالآخرين الأغيار غير اليهود، بل باليهود أنفسهم بشكل يكاد يكون أكثر من الآخرين، لقد كانت مهمته بعد دمج الآلهة فى شخصه إنزال الشرور بالأعداء فما باله ينزل نقمته على شعبه الذى اختاره واصطفاه وفضله على العالمين؟ وتفاقمت المشكلة بعد انقسام مملكة سليمان وظهور قوى جبارة أخرى فى الشرق كالآشوريين والبابليين إضافة إلى المصريين، وهم من جعلوا المملكتين الإسرائيليتين كرة يتقاذفونها فيما بينهم، إضافة إلى سنوات القحط والمجاعة المتواترة، ناهيك عن أولئك اليهود الذين أخذوا بالإثراء على حساب إخوانهم الآخرين بجشع لا يرحم، وهنا ظهرت المفارقة ما بين الإيمان بإله حليف للشعب ظهر أصلاً لإنقاذ هذا الشعب وحمايته، وبين مابات يعانيه من آلام وخطوب لا شك أن الذى ينزلها يهوه نفسه بعد عمليات الإدماج الألوهى، فكيف يجوز احتساب هؤلاء شعباً مختاراً أم كان مختاراً للعذاب؟
لقد كان ضرورياً من أجل توحيد يهوه الجمع بين السمتين القومية والشمولية، ليصبح يهوه كلى الجبروت وتشمل سلطته الشعوب جميعاً، لكن إسرائيل شعبه المختار والمحبوب فكيف يمكن تفسير ما لحق بهم من هزائم من الوثنيين؟
إن هـذا التنـاقض كـان قـد سـاقـه مـن قبـل الفيلسوف اليونانى أبيقور 341 - 218ق.م حين تساءل: {إذا كان الإله كلى الجبروت وكلى الخير فلماذا يوجد الشر فى العالم؟ إما أن الإله يريد القضاء على الشر ولا يستطيع، وفى هذه الحالة يكون عاجزاً ولا يستحق صفته الكلية، وإما أنه يستطيع ولا يريد وفى هذه الحال يكون شريراً وشيطاناً يتلذذ بتعذيب عباده، وإما أنه لايستطيع ولا يريد وهذا أمر لايتناسب مع إله، وإما أنه يريد ويستطيع ويبقى السؤال: فمن أين الشر إذن؟} ( )
أما المشكلة الثانية التى اعترضت طريق اليهودية وترتبط بالمشكلة الأولى تماماً، فهى غياب فكرة البعث والحساب ثم المصير الأبدى إلى ثواب أو عقاب دائمين، عن أفق التفكير الإسرائيلى، مثلهم فى ذلك مثل بقية محيطهم من الشعوب السامية، يعتقدون أن المصير بعد الموت هو الهبوط إلى مملكة تقع تحت الأرض هى مملكة شيول المظلمة دوما المخيفة، حيث يعيش الموتى على شكل هوام شبحية، وضعها أسوأ من الحياة ومن العدم. الكل فيها سواء، الصالح مثل الطالح.
وبينما عالجت جارتهم الكبرى مصر هذه المشكلة مبكراً فقررت وجود عالم آخر بعد بعث جسدى فيه ثواب وعقاب عن العمل فى الحياة الدنيا، حتى يمكن الاعتراف بعدل الإله، ويأخذ الشرير عقابه وينال الخيِّر ثوابه، فإن الديانة الإسرائيلية ظلت منذ فجرها وحتى القرن الثانى قبل الميلاد تعتقد أن الثواب والعقاب دنيويان. فالصالح من عباد يهوه ينال حياة أطول وخيراً مادياً (وهو بالطبع الكلام المنطقى)، بعكس الشرير المنحرف دينياً يموت مبكراً بقرار إلهى ولا ينال خيراً فى دنياه، فيضربه يهوه بالأمراض والسقم والفقر والخيبة ثم يموت حزيناً كميداً. اليهودية كانت تثق فى يهوه وترفض وهم العزاء الأخـروى زمناً طويلاً. لكن يهوه أبداً لم يأبه، الوثنيون أعزاء كرام بين العالمين، والإسرائيليون يكابدون، وبين اليهود أنفسهم يعيش الشرير وأصحاب المال عيشة رغداً ويتمتعون بالصحة والعافية، بينما يموت المؤمن بيهوه المخلص له فقيراً مريضاً بعد أن ذهبت تضرعاته هباء. وهو الأمر الذى أدى إلى نزعات شك وإلحاد بدأت تنتشر بين هؤلاء نجدها واضحة فى أسفار مثل سفر الجامعة وسفر أيوب بالكتاب المقدس ذاته.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن