نقد مفهوم الأصالة

سمير أمين

2016 / 9 / 24


تتجلى النزعة الثقافوية المنقودة فى المقال السابق فى خيار ثان – دون اعتبار احتمال ثالث لهما – بين «الحداثة» و «الأصالة». فلم يناقش خطاب الثقافوية مضمون الحداثة المنقودة، واكتفى باعتباره مرادفاً للحداثة القائمة بالفعل، أى الحداثة الرأسمالية الراهنة.

أزعم أن هذا المفهوم المنقوص للحداثة هو مصدر التباس خطير وحبس الخيار فى ثنائية عقيمة.

فالحداثة فى واقع الأمر لم تصل إلى نهاية مسيرتها، ولن تكون نهاية لهذه المسيرة. الحداثة هى انقلاب ايديولوجى وفكرى جوهرى، حدث عندما اعتبر المجتمع نفسه مسئولاً عن مصيره، عندما أعلن الإنسان أنه هو صانع تاريخه. علماً بأن جميع الإيديولوجيات القديمة – السابقة على الحداثة – فى الشرق وفى الغرب – قد قامت على مبدأ آخر، ألا وهو أن ثمة قوى ميتا اجتماعية (فوق اجتماعية) تحكم مصير المجتمع كما تحكم الكون. من الواضح إذن أن الحداثة – بهذا المعنى – لا نهاية لها. وبالتالى فإن نبذ الحداثة معناه التنازل عن العمل فى سبيل صنع التاريخ – كما أن الدعوة “بالأصالة” لا تعنى فى هذه الظروف عدا محاولة ايقاف سير التاريخ عند مرحلته السابقة على الرأسمالية ونشأة الحداثة، وهو هدف طوباوى يتعذر تحقيقه. فليس هناك معنى للخيار بين الحداثة والأصالة الذى يؤدى بالضرورة إلى خلط المفهومين على أساس قبول الحداثة كما هى – أى حداثة رأسمالية من جانب وتلوينها بألوان “الأصالة” من الجانب الآخر. وهو بالنتيجة قبول الوضع الراهن أى التبعية فى المنظومة الرأسمالية.

وفى مواجهة هذا الطرح المزيف العقيم الذى لابد أن يؤدى إلى مأزق تاريخى، ليس ثمة بديل صحيح عدا العمل فى سبيل تطوير الحداثة، لا إنكارها وتلوينها. فالشعوب التى لا تشارك فى تطوير الحداثة تتخلف بالضرورة حتى تهمش. فمن يختار أن «يخرج عن التاريخ» لن يمنع الآخرين من التقدم فى مسيرته.

فالخيار كما هو مطروح فى خطاب الثقافوية لا يعدو أن يكون دعوة لتجميد تطور المجتمع. وبالتالى فهو دعوة يتعذر تنفيذها حقيقة، الأمر الذى يفرض بدوره الالتجاء إلى الكذب فى الممارسة السياسية. فالنظم الثقافوية مضطرة إلى أن تقول شيئاً وأن تفعل شيئاً آخر. فمن جانب وظيفتها الحقيقية هى إدارة الأزمة، فتقبل فى واقع الأمر الاندماج فى النظام الرأسمالى العالمى بشروطه، ومن الجانب الآخر تدعى أنها مستقلة بل معادية لهذا النظام.

ألا يرى الجميع أن القيم الثقافوية المعلنة تتحول فى هذه الظروف إلى طقوس فارغة؟ ألا يعلم الجميع أن الفساد الذى يسود فى النظم التى تزعم انها “اسلامية خالصة” لايقل عما هو عليه فى أسوأ النظم “غير الدينية” رسمياً؟

يفرض التعامل الفعال مع التاريخ، أن تنظر الشعوب دائماً إلى الأمام، وأن تحرر من قيود ماضيها فهو شرط ضرورى من أجل الإجابة عن الأسئلة السابق ذكرها والتى يلغيها الخطاب الثقافوى.

فالتحديات الحقيقية التى تعبر هذه الأسئلة عنها هى اذن الآتية:

كيف نستطيع أن نناضل فعلياً ضد الاستلاب الاقتصادى، كيف نعمل ضد الاستقطاب العالمى؟ أى: بمعنى آخر كيف نخلق الشروط الملائمة من أجل تطوير القيم العالمية حتى نتجاوز حدود الرأسمالية التاريخية.

يتطلب مثل هذا العمل نظرة نقدية إلى «الأصالة» والموروث الثقافى التاريخى، وذلك أمر ضرورى بالنسبة إلى الجميع على قدم المساواة. شرقيين كانوا أم غربيين. هل كان من الممكن أن تبدع أوروبا الحداثة دون أن تقوم بنقد ذاتى سابق لموروثها، بما فيه تعاملها مع العقائد الدينية؟ هل كان من الممكن أن تبادر الصين فى التقدم دون قيام طليعتها الفكرية بنقد موروثها الكونفوشيوسى وهو ما فعلته الماوية؟ علماً بأن ذلك لم يمنع فيما بعد إعادة اندماج الموروث الدينى والفلسفى (المسيحى والكونفوشيوسى فى الأمثلة المذكورة) فى الثقافة الجديدة، ولكن بعد تثويرها تماماً، بحيث إن هذا الاندماج لا يرادف عودة إلى الماضى على الإطلاق. يختلف هذا التعامل مع الأصالة والموروث عما تدعو إلية تيارات الثقافوية الإسلامية المعاصرة التى تعلن رسمياً رغبتها فى العودة إلى الماضى – «الأصل» – والامتناع عن نقده – وفى هذه الظروف

ليس من العجب أن انتشار الثقافوية الإسلامية يرافق تدهور المنطقة المعنية فى التراتبية العالمية.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن