عبد الكريم قاسم المغدور مرتين

مصطفى علي نعمان

2003 / 2 / 6


  في سنة 1258م أثمرت خيانة رجل السلطة القوي في بغداد، الوزير(1) ابن العلقمي، في إسقاط الإمبراطورية العراقية العريقة، التي كانت بغداد عاصمة لها، فاندفعت جحافل المغول المتحالفة مع الطابور الخامس بقيادة الخائن ابن العلقمي، لتقضي على أكثر الحضارات الإنسانية تطوراً آنئذ، فانتُهكت أعظم عاصمة في العالم، وأُذلت، واستُبيحت، ودُمرت كل المدن المأهولة، وسحقت مظاهر التمدن فيها، وعاد مهد الحضارات التي استمرت مزدهرة أكثر من أربعة آلاف عام قاعاً يباباً، وفي سنة 1958 ثارت بغداد، وانتقمت لنفسها، ونفضت عنها ثوب الذل، وأنهت قروناً سبعة من التبعية والاستعباد، صادفت سنة الثأر والثورة والكرامة والعزة بعد 700 سنة بالتمام والكمال، فتجددت أمال الأمة بالنهوض، والسير في طريق التقدم، لكن أباليس الظلام، في الداخل والخارج، قرروا وأد الثورة، في شهرها الأول، فاتفق عبد السلام وعبد الناصر على قتل عبد الكريم قاسم، بعد بضعة أيام من قيام الثورة، لم يردع الأول رفقته لعبد الكريم، وأخوته له، وعشرته الطويلة، ولم يمنع الثاني ما يدعيه من مبادئ عروبية، اتخذها ذريعة كاذبة، للتربع على السلطة في مصر، وعندما لم يستطع عبد السلام تنفيذ المؤامرة، حاولوا في الشهر الثاني، والثالث، حتى استطاعوا قتلها، قتل روحها، بطلها الزعيم الأمين عبد الكريم قاسم، قتلوها وعمرها أربع سنين ونصف فقط.
فماذا أنجز عبد الكريم للثورة، للشعب في هذا الوقت القصير؟
على يد الزعيم تخلص العراق من الاستعمار، وقطع علاقاته بالنقطة الرابعة، وانسحب من حلف بغداد، وفك ارتباط العملة العراقية بالإسترليني، وشرع لأول مرة في العراق قانون الأحزاب، وأجاز كل الأحزاب التي استوفت الشروط، وأصدر قانون الجمعيات، ووزع الأراضي على الفقراء، وبنى أكثر من خمسة وثلاثين ألف دار منحت إلى الفقراء من دون مقابل، وقضى على الصرائف التي كانت تسور بغداد من جميع الجهات، ووسع العاصمة بافتتاح قناة الجيش، وجملها بسور من الأشجار، وأصدر أفضل قانون للأحوال للشخصية في كل الدول الإسلامية والعربية، إذ توجب أخذ
موافقة الزوجة الأولى لوجود شريكة لها في الزواج، وكان ذلك يحدث للمرأة لأول مرة في تاريخ العرب والمسلمين، وقضى على التمييز الشائن بينها وبين الرجل في الإرث، واستوزر أول امرأة في تاريخ العالم الثالث الحديث، وأنجز أوسع ثورة علمية في العراق والدول المجاورة في فترة قياسية: افتتح جامعة بغداد، وجامعة المستنصرية، وأرسى حجر الأساس لجامعات الموصل، السليمانية، البصرة، الكوفة..الخ، وفتح أبواب جامعات المعسكر الاشتراكي للطلبة غير الحاصلين على الشهادة الثانوية، فتدفق عشرات آلاف اليائسين من مواصلة التعليم، إلى هذه الدول، وتخرجوا فيها، وأصبحوا كادراً مهماً أولياً، وثانوياً، مثمراً في الحياة، وأرسى مبادئ التعليم المجاني في العراق، وكان الفقراء يعانون من شراء الكتب المدرسية، فأصبحت مجانية، وأدخل نظام التغذية المدرسية، ووقع اتفاقية صناعية مع الاتحاد السوفيتي، أقامت عشرات المصانع في العراق، حتى وصلت المصانع التي أقيمت في عهد الزعيم إلى خمسة وستين معملاً، ضخماً، بينما لم يُنشئ الحكام الآخرون، قبله، وبعده، وطيلة سبعين سنة من حكمهم المشؤوم سوى بضعة مصانع، وكان للزعيم خطة كبرى تعتمد على إقامة سكك حديد، في مختلف أنحاء العراق، انتهت بموته، لكنها أنجزت سكة حديد بغداد بصرة، وكانت لديه خطة تقضي بإنشاء شبكة كهرباء تعم العراق كله، أنجز الكثير منها، فلقد وصلت إلى قرية "بنكرد" وهي على حدود إيران، فرأيت العمال يقيمون شبكة كهربية فيها سنة:1961، وسمح بإنشاء صحف ومجلات أدبية وثقافية، بينما كان العهد الملكي يمنع المجلة الثقافية والأدبية بعد عدد واحد أو عددين يصدران فقط، واهتم بتنظيم المدن العراقية كلها، وأخذ بإصلاح ما أفسده الدهر، فقد كانت السدود التي أنشئت قبل مجيئه من دون توربينات لتوليد الكهرباء، فطفق بإقامة التوربينات، وحدّث تجهيز الجيش العراقي بأسلحة روسية، وأصدر قانون الإصلاح الزراعي، ورعى دراسة للتخلص العراق من البلهارسيا، وكان هذا المرض يفتك بالفلاحين من أبناء الشعب بشكل خاص، فاستورد أنواعاً من الأسماك تعيش على بويضات البلهارزيا، مما أدى إلى القضاء على هذا المرض الوبيل، وحاول تأميم النفط العراقي، لكن السوفيت أقنعوه بأن الوقت ليس بملائم، فأصدر قانون رقم 80 استرجع فيه كل الأراضي التي استحوذت عليها شركات النفط بالباطل، وأسس شركة النفط العراقية، وبنى مدينة الطب وجهزها بالمعدات اللازمة.
أما أهم إنجاز حققته الزعيم عبد الكريم قاسم فكان خلقه للطبقة الوسطى، وهذه نقطة أغفلها الكثير ممن كتبوا عن الثورة، عن جهل أو تجاهل، أما كيف حدث ذلك فقد تم عن طريق توزيع قطع الأراضي في جميع المدن والأقضية والقرى في العراق، بأسعار رمزية، ومنح المواطنين قروضاً للبناء، بفائدة رمزية، فعلى سبيل المثال وزعت أراضي المنصور والمأمون بسعر 100فلس للمتر المربع، وأراضي بغداد الجديدة، والمشتل ب 50 فلساً، وعلى ذلك يستطيع المدرس المتخرج للتو "وكان راتبه آنذاك 41 ديناراً، أن يشتري 400 متراً مربعاً في المنصور، أو 800متراً مربعاً في المشتل، أو بغداد الجديدة، أو في أي مدينة عراقية أخرى، وفي نفس الشهر يستطيع أن يحصل على قرض من المصرف العراقي، وفي خلال بضعة أشهر يتمكن من السكن في دار حديثة، تشتمل على حديقة، ويتخلص من دفع الإيجار، مرة وإلى الأبد، وبذلك في خلال مدة قصيرة خلق عبد الكريم قاسم طبقة جديدة، مرفهة، بعدما كان إيجار الدار يلتهم معظم دخل أفراد تلك الطبقة، وأعرف معلماً، امتلك داراً وسيارة في السنة الثانية من الثورة، بينما كان في العهد البائد لا يحلم بالسكن في كوخ يخصه، ولا يحلم بدراجة هوائية يتنقل فيها، وبهذا تحقق المبدأ الذي كان يردده الزعيم، والذي سخر منه المؤدلجون الجامدون، والقوميون المزيفون على حد سواء، مبدأ عبد الكريم كان: لا نريد أن نفقر الأغنياء، بل نريد رفع الفقراء إلى مستوى الأغنياء، فهذا المواطن الفقير الذي سكن في خلال السنة الأولى من الثورة في "فللا" وامتلك سيارة، لا يمكن أن لا تعتبره غنياً، في المواصفات البرجوازية السائدة في أمريكا وأوربا بالذات، وعلى ذلك نستطيع أن نقول إن عبد الكريم هو خالق المدينة العراقية الحديثة، فقبل عبد الكريم لم يكن في الموصل على سبيل المثال، إلا المدينة القديمة المحصورة بين بقايا الأسوار التاريخية، وفي زمنه زحف العمران إلى الضواحي، ليتضاعف حجمه إلى بضع مرات، وهذا ما حدث في كل مدينة عراقية.
إن هذه الطبقة الوسطى مدينة إلى ما وصلت إليه، لإخلاص، وتضحية، وحكمة، وتخطيط عبد الكريم قاسم، وكان أي موظف في العراق يستطيع الحصول على قطعة أرض، بدقائق، ومن دون أن يرهق نفسه، لكن الأمر اختلف بعد مقتله مباشرة، فقد قفزت الأسعار قفزة فلكية، تجاوز السعر عشرة أضعافه في زمن عبد الكريم، ولم يعد يستطيع المواطن العادي أن يحصل على الأرض إلا بشق الأنفس، ووفق إجراءات روتينية معقدة، تدخل فيها أشياء أخرى غريبة عنها، كالانتماء الحزبي، والولاء، وو
كان الزعيم يردد باستمرار: "لنا في كل شهر ثورة"، وكان ذلك حقاً، فقد كان هناك إنجاز في كل شهر، وكانت البطالة تعم العراق قبل تسلمه الحكم، فاختفت بعد الثورة بسنتين، وأعرف عائلة من الجيران كان كل شبابها من العاطلين، لكنهم جميعاً وجدوا عملاً دائماً بعد الثورة ثم عادت العطالة لتسود بعد وفاته.
يتفق الجميع على أن الزعيم الأمين كان أميناً على مصالح الشعب، لم يعرف الأنانية، كريماً، يوزع راتبه على الفقراء، لم يستغل منصبه قط، لم يستأثر أي قريب من أقربائه بأي مكسب، عطوفاً، رحيماً حتى مع أعدائه، اشتهر بالتسامح، والتواضع، والأدب، والحياء، مؤمناً بالمثل العليا، إيماناً كاملاً، ينظر إلى أبناء الشعب العراقي كلهم نظرة متساوية، يحترم المخلص، ويعطف على المذنب رجاء أن يصلح نفسه بنفسه.
ولا أستطيع في مقالة واحدة إحصاء فضائل عبد الكريم قاسم، ولا أعتقد أن بإمكان أي كان ذلك، لكن أعداء الزعيم كانوا أكثر من الكثير، عاداه كل من الولايات المتحدة، إنكلترا، الأردن، تركيا، إيران، السعودية، الكويت، العربية المتحدة، هذا في الخارج، أما في الداخل فعاداه كل العملاء، أيتام العهد البائد، الثوريون الكذبة، القوميون المزيفون، رجال الدين من سنة وشيعة، الدجالون، النفعيون، اللصوص، انتصروا عليه، كما انتصروا على مصدق، وقتلوه في مؤامرة قذرة، فلم يرَ العراق منذ مقتله وحتى هذا اللحظة أي خير.
والآن وقد بدأت عصف التغير تهب، أنجز بعضهم مسلسلاً ظاهره تسليط الضوء على عبد الكريم قاسم، وباطنه إدانته، وتزييف وقائع عهده، والافتئات عليه، مسلسلاً تدفقت فيه أقوال غير مسؤولة مليئة بادعاءات كاذبة لا يمكن إثباتها، تتالت جملة وتفصيلاً، وبشكل مقزز.
مع الأسف لم تتح لي المصادفات أن أرى المسلسل ذا الوجهين هذا، وقت صدوره من قناة "أبو ظبي"، أخبرني أحد أصدقائي، وعندما حاولت أن أتابعها على الكومبيوتر، أخفق حاسوبي، وكان علي أن أعتمد على وعود بعض الأصدقاء لأراها في فلم فديو، فلم يتم ذلك إلا قبل بضعة أيام، فجزا الله الصديق الذي أتاح لي رؤية الفلم خير جزاء.
عنوان الحلقات: عبد الكريم قاسم، “بين زمنين”.
هذا يعني أنها ستحاول إنصاف الزعيم الأمين، وهذا لم يحدث، كما أسلفنا، حدث العكس تماماً، أنصفت النظام الذي أطاح به الأمين، وبرأت المجرمين اللذين قتلوا الأمين، وأساءت إلى عبد الكريم بطريقة تغليف السم بالدسم، وتبطين السب، والذم، بما يشبه المدح، وتشويه التاريخ، ولو سمي البرنامج "بين غدرين" لكان ذلك أقرب إلى طبيعة الحال.
برزت عند نظام "سيئ الصيت" صدام اتجاهات لإحياء ذكريات العهد البائد، كان قد مهد لها ببطء وخبث، وبشكل تدريجي، مستغلاً التقارب من الأردن، فأعيد تمثال الملك فيصل الأول، وفتحت المقبرة الملكية، ونشرت كتب تشيد بنوري السعيد، ورجال العهد البائد، آنذاك سربت السلطة على لسان مؤيديها من الحزبين بأن المسؤول عما حل بالعراق هو عبد الكريم قاسم والشيوعيون، لأن النظام الملكي كان نظاماً دستورياً، ديمقراطياً، لكن الشيوعية وعبد الكريم قاسم غيروه، وفتحوا باب الانقلابات حتى وصلت الحالة إلى ما وصلت إليه.
لكن أجهزة صدام لم تنتج حلقات عن عبد الكريم ولو فعلت لما أساءت له كما أساءت حلقات أبو ظبي.
لم تركز حلقات البرنامج على أي مكتسب حققه الزعيم، إذ مرّ المسلسل على المكتسبات مرور اللئام لا الكرام، فلم يتكلم عن الثورة العلمية التي أحدثها الزعيم، ولم يتكلم عن الأحزاب المجازة، أو الجمعيات، ولم يذكر أي كلمة عن المعامل التي أقيمت، ولم يشر إلى بقية الإنجازات التي لا تحصى، فمن ست ساعات كاملات لم يأخذ البرنامج للكلام عن الإنجازات سوى بضع دقائق، وفي إشارات ملغومة، مليئة بالخبث، وهذا في رأيي عين الإجحاف.
على العكس من ذلك ركزت الحلقات على السيئات، سلبيات حكم عبد الكريم قاسم..فقد خص بالذكر:
1- سلبيات الإصلاح الزراعي، صوره وكأنه كارثة على المجتمع العراقي، فلم يشر إلى نشاط الإقطاع واستبداده، في العهد البائد، وربما لا تعرف الأجيال الحالية شيئاً عن ذلك الإقطاع المقيت، فعلى سبيل المثال منع إقطاعي إقامة مقبرة في الحي، رغم توسل الفلاحين، وتضرعهم، إذ لم يكن بإمكان معظمهم القدرة المادية على نقل المتوفى إلى النجف، وبخاصة أيام الصيف، إذ يتعرض إلى التفسخ، واشتهر أحد إقطاعي ربيعة بأنه افتض بكارة بضع مئات من فتيات الفلاحين، وفي حمأة التآمر على عبد الكريم اشتهرت قصة فتاة في الميمونة اغتصبها إقطاعي، وكان أبناء عجيل الياور، يتملكون لا الأرض حسب بل من يزرعها أيضاً هو وعائلته..الخ، ولم يشر إلى نشاط الإقطاع في هذا الصدد لمجابهة الثورة، وعرقلة مشاريعها، فقد كان أحمد عجيل الياور ينقل السلاح إلى المتآمرين من سوريا بشكل شبه علني، كما لم يشر إلى تحالف بعض الشخصيات الدينية، كمحسن الحكيم، الذي حرم الصلاة في الأرض المسيطر عليها، وكما أسلفنا أبرز البرنامج الإصلاح الزراعي وكأنه كارثة على الشعب، مع أنه كان بإمكانه أن يركز على النواحي الإيجابية فيه ولا بأس حينئذ من ذكر السلبيات، ففي الأقل حرر القانون الفلاح، مكنه من قطع علاقاته بالإقطاعي، جعله سيد أمره، وأعطاه أرضاً خاصة به، أما ما ترتب على ذلك من ردود فعل، فكان على الجميع التكاتف لحلها.
كان معظم أبناء الشعب العراقي قبل الثورة ينادي بالإصلاح الزراعي، فلقد أنجز الاتحاد السوفيتي إصلاحاً زراعياً، وتبعته الصين، ولم يكن بعيداً عن الذكرى الإصلاح الزراعي في مصر، وكان الفكر التقدمي في كل العالم، يعتبر الإقطاع نظاماً بائداً متخلفاً مهيناً للإنسان، مذلاً له، ولم يكن العراقيون بمعزل عن الفكر التقدمي، وكان من المستحيل إبقاء هذا النظام بعد الثورة، ربما لم تكن بعض مواد القانون مدروسة بعناية، إلا أنه كان خطوة إيجابية إلى الأمام في كل المقاييس، هذا بالإضافة إلى عدم ظهور أي احتجاج، أو نقد، أو صوت، أو دراسة تؤيد الإبقاء على الإقطاع، لا من قبل شخصية فردية، ولا من قبل هيئة ما، حزب ما، آنئذ، أما التركيز على هذه السلبيات الآن فيكشف نقصاً في النفس لا يداويه سوى مراجعة الطبيب..
2-ركز البرنامج على سلبيات محكمة الشعب، وأسماها محكمة المهداوي افتئاتاً، وبهتاناً، وبلؤم منقطع النظير، ولو قارنها بمحكمة النعساني سيئة الصيت المشهورة في العهد البائد، أو محكمة سيئ الذكر العميد شمس الدين عبد الله، المعاصرة لمحكمة الشعب، ومحكمة الثورة ورئيسها "وتوت" في زمن البكر، لظهرت إيجابيات محكمة الشعب المظلومة، فقد كان النعساني في محكمته يصدر أحكامه على المتهمين، بعد أن يأمر بإيقافهم على شكل صف، واحداً قرب الآخر:
من هذا الشخص الطويل، أو الذي يعتمر الطاقية، إلى نهاية اليمين خمس سنوات، ومنه وإلى اليسار عشر سنوات، وعندما سأله صاحب العرقجين "الطاقية":
-وأنا يا سيدي؟
-خمس عشرة سنة.
أما مظالم شمس الدين عبد الله وأحكام الإعدام التي أصدرها بحق الأبرياء في زمن عبد الكريم قاسم فحدث ولا حرج، وبلغ عدد المحكومين بالإعدام في هذه المحكمة سيئة الصيت، عشرات أضعاف المحكومين في محكمة الشعب، ولولا رقة عبد الكريم، وعدم تصديقه على أحكام الإعدام لبلغ عدد المعدومين حداً لا يمكن حصره، ومع ذلك بقي عدد كبير من هؤلاء المحكومين في السجون، حتى إذ قتل عبد الكريم، نفذت فيهم أحكام الإعدام، التي أصدرها سيئ الصيت شمس الدين، أما العقيد وتوت فحدث ولا حرج، كان يسب ويشتم، ويضرب، وعندما سيفتح ملف محكمته في العراق الجديد، سيرى الشعب العراقي أي جلاد كبير كان، لأن أحكامه كانت تصدق في الحال، وينفذ في المحكومين عقوبة الموت في غضون أيام إن لم تكن ساعات.
وشهد زمن البكر وصدام من فظائع المحاكمات الصورية، غير محكمة "وتوت" الكثير، ومما تتجاوز بشاعته ووحشيته جرائم محاكم التفتيش.
أما الشهيد المهداوي فلم يصدر أي قرار جائر قط، وأتحدى أن يذكر المسعورن بكره ثورة تموز، ورموزها الأبطال، أي ضحية بريئة له، لكن البرنامج صور المحكمة كأسوأ محكمة في التاريخ، وهنا لا يقع عاتق هذا التشويه المتعمد على معدي هذا البرنامج سيئ الصيت وحدهم، بل يتعداهم إلى الكتاب الوطنيين، فلم أرَ أي كتاب يقوم تلك المحكمة العظيمة قيمتها الحقيقية، فيذكر ما لها وما عليها، مع الأسف الشديد، فما أجرأ أهل الباطل على باطلهم، وما أهون أهل الحق هذه الأيام على حقهم! مع الأسف الشديد.
3- ركز على النتائج الكارثية التي أدى إليها القانون رقم 80، واستند في ذلك على شهادة فاضل الجلبي فقط، ولا أعتقد أن شهادة فاضل الجلبي كافية، ومع احترامي لهذا الشخص الطيب إلا أنني لا أستطيع إلا التشكيك في قدرته على فهم ما يجري كما يجب، فقد فسر كلمة نوري السعيد المشهورة: دار السيد مأمونة، بأن على الشعب اللجوء في أوقات الأزمات إلى الحكومة، وشبهها بالسيد المصان.
مع أن نوري السعيد كان يعني بالسيد إنكلترا، لأنها في نظر السعيد أقوى قوة في منطقة الشرق الأوسط، ومادامت بريطانيا عضواً في حلف بغداد، فهي الملجأ، وهي دار السيد "المأمونة" الذي لجأ إليه نوري السعيد، والذي يجب أن يلجأ إليه الشعب العراقي!
فاضل الجلبي يعزي عدم اهتمام شركات النفط بالنفط العراقي إلى خطوات التأميم التي اتخذها الزعيم، وهو كخبير في النفط لا يمكن أن يقول ذلك، لأن الغرب حكم بإعدام عبد الكريم ساعة ظهوره على المسرح، لأنه غير مرتبط بهم، وما سلوك شركات النفط المعادية إلا خطوة في الوصول إلى تنفيذ الحكم، ومع ذلك لم يقترح السيد الخبير أي بديل، ولو اقترح هو وغيره بديلاً معيناً معقولاً على الزعيم لاتخذه من دون شك، لكنهم ينظرون إلى المشكلة بعين معاصرة، لا كما يجب أن ينظر إليها في وقتها.
لقد أعدت هذه الحلقات " بحسن نية أم بسوئها" لتجعل المشاهد يخرج بنتيجة واحدة هي أن قرار رقم 80 كان كارثة على الشعب العراقي، مع أنها كانت أكبر طعنة موجهة للغرب، وأول خطوة في الطريق الصحيح.
مرة أخرى ازعم أنهم تعمدوا أن يظهروا الجلبي بهذا الشكل السطحي، لا شك أن الجلبي يعرف أن الشعب العراقي كان آنئذ يطمح، ويأمل، ويتطلع للتأميم تطلعاً لا مثيل له! وكان بطل تأميم النفط الإيراني مصدق ماثلاً في أعين وأفئدة وضمير العراقيين، وكان تصميم عبد الكريم على التأميم شجاعة، ووطنية، وسمواً! واستقبل القانون المذكور كفتح في صفحة المستقبل، وهللت له كل القوى الثورية، والخيرة آنذاك.
أما النظر إليه في عين الحاضر فهو نوع من السذاجة الظاهرية التي تستبطن الطعن بشكل مخزٍ ولا أظن أن الجلبي ينزل إلى هذا المستوى.
4- الدفاع المستميت عن العهد البائد: دافع “بين زمنين” عن العهد البائد دفاعاً مستميتاً، فقد قضى نحو ثلث الوقت يدافع عن ذلك العهد المقبور، وأبرز شهادات أشادت بنوري السعيد، وحكمته، وقيادته، وعبقريته، لم يذكر مثيلاً لتلك الشهادات عن عبد الكريم قاسم، مع العلم بأن المسلسل مكرس للزعيم لا لنوري.
ذكر شهادة عن لورنس، بأن نوري زعيم مثالي نادر، وفي الشهادة يشيد لورنس بشجاعة نوري الفائقة، وضبطه لنفسه في الحروب..الخ، وشهادات لآخرين في مثل نفس المعنى، كشهادة بائرة أخرى لمجيد خدوري:
ولو قدر لنوري السعيد أن ينسحب من الحياة السياسية قبل 1958 لأعتبر أعظم سياسي في العصر الحديث.
ولست أدري كيف توصل خدوري إلى هذا الحكم "العبقري"! وما هي إنجازات العهد البائد؟ ولماذا الانسحاب قبل ؟1958
ولكي يعلي البرنامج من شأن نوري، جلب أحد شهود الزور: بدأ الشعب يردد: يا بغداد ثوري ثوري، خلي كريم يلحق نوري.
لا، ليس من ردد ذلك هم الشعب العراقي، وهم وإن كانوا عراقيين إلا أنهم قلة لا يتجاوز عددهم رؤوس الأصابع، وفي كل الأحوال هم حثالة الحثالة.
ولكي يظهر عظمة العهد البائد ركز على السدود التي أنشئت فيه، واقتطف مجتزءاً لكمال مظهر يشيد بتلك السدود، ولا أعتقد أن كمال مظهر كمؤرخ يمكن أن يغفل عن سلبيات تلك السدود، ففي كل العالم يقام السد لثلاثة أهداف:

الإرواء. ب – توليد الطاقة الكهربية. ج – منع كوارث الفيضان.
إن السدود التي أشاد بها البرنامج والتي بنيت بالعهد البائد، لم تكن سدوداً إروائية قط، ولم تصمم لتوليد الطاقة الكهربية، وإنما صممت فقط لدرء أخطار الفيضان، وذلك "أضعف الإيمان" وعندما جاءت الثورة، تعاقدت لتصليح أخطاء السدود مع الاتحاد السوفيتي لتثبيت توربينات لتوليد الكهرباء، في السدود، وكان ذلك ليس صعب فقط بل في منتهى الصعوبة، لأنه يمكن أن يعرض جسد السد للخطر، ولو كان سد الثرثار إروائياً لاستطاع وحده سد حاجة العراق من الحبوب، لأنه بالفعل حجز بحيرة أكبر من بحيرة السد العالي، لكن العهد البائد لم يكن يهتم للبناء، بل كان يهتم فقط بالتبعية للغرب، وتثبيت العرش فقط، فهل كمال مظهر من السطحية بحيث يشيد بعمل ناقص كهذا؟
5- ركز المسلسل المزيف على قضية سعيد قزاز، وخلق من هذا الدعي المجرم الجلاد شهيداً، بطلاً، مظلوماً، من المدافعين عن الديمقراطية، والحرية.
كرس “بين زمنين” وقتاً للدفاع عن سعيد قزاز أطول من الوقت الذي كرسه للدفاع عن عبد الكريم قاسم، محور الحلقات، ومن يرى الحلقات يتصور قزاز شهيداً، مظلوماً، مغلوباً على أمره، لكن الوقائع تقول عكس ذلك.
قزاز مسؤول عن قتل المئات من أبناء الشعب العراقي، العزل، المسالمين، فقد كان بطل قمع المظاهرات في العهد البائد، وبطل قتل المساجين السياسيين العزل في سجونهم، فإن لم يكن الوزير الذي أصدر الأوامر مسؤولاً عن هذه الجرائم فعلى من تقع المسؤولية؟ وإن كان بريئاً فمن المجرم؟
رأيت بعيني "وكنت في الثامنة عشرة" كيف فتحت الشرطة في سنة 56 النار على المتظاهرين، أمام مركز شرطة المركز العام في الموصل، قتل في لحظة واحدة ستة عشر واحداً متظاهراً، وجرح ما يزيد على السبعين، وكان من جملة القتلى صديقي حازم البارودي، جاري، وبنفس عمري، وكنا هو وأنا ذاهبين إلى أبيه، لغرضين، لنرى المظاهرات التي سمعنا عنها في الثانوية، والتي اندلعت تأيداً لمصر، ضد العدوان الثلاثي، ولإيصال "سفر طاس" الغداء، في دكانه في سوق "العتمة ي"، شاهدنا المظاهرات، كان شيئاً غريباً، جموع لا حصر لها، وشعارات، وهتافات، ثم انطلق الرصاص، من مركز الشرطة، تلفت حولي أبحث عن حازم، رأيته يتمدد قريباً مني، والدم ينزف من صدره، وقميصه ينتقع بالدم، ولم أدرِ ماذا أفعل، أ أتركه وأهرب كالآلاف الآخرين، أم أبقى فأموت، حينئذ انتبذت ركناً في الزقاق، والدموع تسح رغماً عني، وأمامي جسد صديقي مرمي على الأرض، يلفظ أنفاسه الأخيرة، لقد استقرت تلك الحادثة الرهيبة في أعماقي وكأنها حدثت البارحة.
فمن هو المسؤول؟ الشرطي الذي أطلق النار؟ الضابط الذي أمر الشرطي، أم آمره؟ أم المصدر الرئيس، أي الوزير؟
ما ضر لو بقيت المظاهرات؟ كانت شعاراتهم تأييداً لمصر ضد العدوان، ولم أسمع أي كلمة ضد نظام نوري السعيد، أو الملك، ولم تقم بأي عمل تخريبي، فلماذا الرصاص؟ لماذا العنف؟ لماذا قتل الأبرياء؟
أعاد المسلسل تمثيل محاكمة قزاز، مردداً أقواله، وبتركيز كبير على كلماته نفسها، وكأنه بطل من أبطال الحرية، لا جلاداً ملطخة يداه بدماء الأبرياء والأطفال.
فهل تضم جوانح من أنجز مثل هذا العمل أي بذرة حب للعراق، للشعب العراقي، للمظلومين، المضطهدين، الفقراء؟ وأين يمكن أن نصنفه مع الشعب أم ضده؟
6- المقاومة الشعبية: ركز المسلسل على التجاوزات التي حدثت في عهد عبد الكريم قاسم، ومنها تجاوزات المقاومة الشعبية، والحبال، وقتل وسحل الأبرياء، ومن عاش في تلك الفترة، يتذكر بوضوح كيف كان كارهو الثورة يتوعدون الناس العاديين بالانتقام في حال نجاح المؤامرة القادمة، وكيف كانت إذاعات صوت العرب، والقاهرة، ودمشق تحرض مؤيدي الوحدة على الثورة، وتشجع القوميين المزيفين على التخريب، شجعها على ذلك بضعة أشياء منها:1- خلق الزعيم السامي، ورغبته بالإصلاح من دون عنف، 2-ضحالة وعي مؤيدي الثورة من أحزاب، وجمعيات، وشخصيات، أقول وعي ضحل لأن هؤلاء كانوا لا يضبطون أنفسهم تجاه استفزاز القوى المتآمرة، وكانوا ينجرون لمجابهتها، 3-كثرة المؤامرات وتواترها من دون عقاب، فقد صرح البكر مرة بأن عدد محاولات قلب نظام حكم الزعيم تجاوزت خمسين مؤامرة، أي أن معدل وقت المؤامرات كان شهراً، أي في كل شهر مؤامرة، كل تلك الأوضاع تدفع الخلافات إلى الاحتدام، فيظهر العنف، ويتطور إلى الانحراف.
ولعل هذه القصة تلقي بعض الضوء على ما كان يحدث آنئذ، بعد انتهاء الدراسة في الكليات، يؤخذ الطالب لخدمة الاحتياط، وصدف أننا كنا أول دورة احتياط تتدرب على السلاح الروسي، وكانت البندقية الروسية قياساً إلى البندقية الإنكليزية تطوراً، واضحاً لا ينكره حتى الأعمى، كانت أقصر، أخف وزناً بضع كيلوغرامات، أكثر دقة، أسهل في التصويب..الخ، أما الطلاب المخدوعين بشعارات القومية المزيفة، فكانوا يفضلون عناداً السلاح الإنكليزي، ويثيرون مشاكل لا حصر لها مع بقية الطلاب، منها أنهم كانوا يحاولون تحطيم هذه الأسلحة، يتلفتون ذات اليمين، وذات الشمال، فإن لم يروا أي مسؤول يضربون البندقية في الأرض، وبعنف ليكسروها، أو يضربون واحدة بواحدة، أو يضعونها تحت أي عجلة تمر، أما في قسم الآليات، فكانوا يضعون برادة الحديد، في مكائن الآليات الروسية، من سيارات، دبابات، مصفحات ..الخ، وعندما كثر توقف تلك الآليات، جاء الخبراء الروس وكشفوا الأمر، لكن الضباط الكبار، وكان معظمهم ضد عبد الكريم قاسم، فكانوا يتغاضون عن التحقيق، و"يلفلفون" القضايا، فينتهي التحقيق من دون عقاب.
انتشر التخريب في كل المجالات، تركت المصانع المستوردة من الاتحاد السوفيتي بالعراء، صدأ البعض، وحرق البعض، وحطم البعض..
القليل من المؤيدين للثورة من يستطيع أن يضبط نفسه عندما يرى مثل ذلك التخريب، وبتراكم هذه السلبيات تنفجر الأعصاب، وتتطور الأمور إلى ما لا يحمد عقباه، أ فإن قتل أحد هؤلاء المخربين في مشادة اعتبر مقتله جريمة بحق الأبرياء‍! ووصمة عار للثورة! وبودي أن أسأل كم عدد هؤلاء الضحايا؟ لو جمعناهم كلهم لما تجاوزا خمسة أشخاص، ولكنهم لم يكونوا أبرياء بأي حال من الأحوال، ولو فعلوا ما فعلوا في أي عهد قبل أو بعد عبد الكريم لتضاعف العدد إلى مئات إن لم يكن ألوف.
7-حوادث الموصل وكركوك: ركز المسلسل على حوادث الموصل وكركوك، وادعى أن عدد من قتل في الموصل يتجاوز المئتين، وألصقت الحوادث بالمؤيدين لعبد الكريم من شيوعيين ومواطنين عاديين، فهل كانت الحقيقة ذلك؟
لم يتجاوز عدد القتلى ثلاثين شخصاً في الموصل، قتل بعضهم بالدملماجة على يد الشيوعيين، وقتل البعض الآخر على أيدي أشخاص لم يعرفهم أحد، ولا يعرف من أين أتوا؟ ولقد رأيت أحدهم، بعد القضاء على الشواف بيوم واحد، وكنت ذاهباً إلى السوق الرئيس، لم أدرِ كيف أمسك بزيقي، وبدأ يصرخ، متآمر، متآمر، لم تكن لهجته لهجة الموصل، ولا سحنته سحنة أهل الموصل، فاجتمع حولي شباب صغار يتطاير الشرر من أعينهم، وكنت مقتولاً مسحولاً لولا مرور من يعرفني، مع أحد العسكر.
تدفق على الموصل عشرات الآلاف من الأكراد، والأعراب، والقرويين الذين يطمعون بالنهب والسلب، ومعلوم أن الموصل مدينة عربية مئة بالمئة، لكنها محاطة بغير العرب، كما أن معظم الجنود المتواجدين في المدينة كانوا من الأكراد، وبعد مقتل الشواف تلاشت السلطة، لأنه كان يمثلها، انتشرت الفوضى، وسيطر الجنود والأكراد على الشوارع، ثم اندفع القرويون من أعراب وغيرهم، أصبحوا آلة بيد خبثاء "مجهولين" يوجهونهم، لا يعرف أحد من أين جاؤوا، ولا من هم! لكني أرجح أنهم طابور الطوارئ الخامس التي أعدته، شركات النفط، والمخابرات الإنكليزية، والأمريكية للتدخل في مثل هذه الحوادث، وحرفها حسب مصلحتها.
لكن ليس كل الضحايا كانوا بيد هؤلاء، إذ جرت قسم من الاعتداءات بيد أكراد من قبيلة مشهورة، نسيت اسمها، لها حزازة مع عائلة كشمولة، إذ ذبح عدد من أفراد العائلة أحد شيوخ القبيلة الكردية في نزاع سنة 1959تحيّن الفرصة أهل القتيل، وهجموا على عائلة كشمولة بعد مصرع الشواف، وقتلوا بضعة أفراد منها.
لقد قتل وعلق على الباب بيد هؤلاء المجهولين نحو سبعة عشر شخصاً منهم "عبد الرجبو" وهو عضو محلية الحزب الشيوعي، وكان لجأ إلى بيته عدد من المحسوبين على القوميين، "من عائلة الأغوات" للأمان، فسمع طرقات على الباب، وعندما خرج، عاجله مجهول بالرصاص، وأخذ يصرخ متآمر، فتجمع حوله عدد من الجنود والغرباء، وعلقوه على باب بيته، وضيوفه في الداخل.
البعثيون يعلمون تمام العلم من هم هؤلاء المجرمين، القتلة، المخربون، ولو كانوا تابعين للحزب الشيوعي كما يدعي بعض شاهدي" “بين زمنين”" لأصدروا بعد الثامن من شباط كتاباً أسود كما فعل عبد السلام مع البعثيين بعد 18 تشرين، 1963 لكنهم كانوا متأكدين أن المجرمين القتلة منهم وإليهم.
8- ممارسات البعثيين والقوميين:
لم يشر "“بين زمنين”" إلى ممارسات البعثيين والقوميين المزيفين، ونشاطهم التآمري، وتخريبهم الاقتصاد الوطني، ووضعهم للعقبات في سبيل الثورة، اكتفى بالنيل ممن أيدوها بغض النظر عن مبادئهم، وصورهم كأنهم أعداء البشرية، وكان الحري أن يكشف عن ممارسات أعداء الثورة، وحماتها في نفس الوقت لكي يكون عادلاً، ولكي يتحلى بمواصفات إنسانية بنفس الوقت، فمن يملك الوسائل ليعدل لن يكون إنساناً بأي شكل من الأشكال إن ظلم أو جار أو انحاز.
من المعلوم إن البعثيين والقوميين المزيفين اقترفوا من الجرائم أكثر مما اقترفته المقاومة الشعبية بمئات المرات، فمقابل كل خطأ صدر من المقاومة الشعبية، اقترف هؤلاء المجرمون أكثر من مئة خطأ كحد أدنى، والأعمى فقط من لم يرَ تلك الأخطاء، والمجرم وحده من يتغاضى عن تلك الجرائم، فلم تحرق المقاومة الشعبية شخصاً ما، ولم يقتلوا طفلاً، أو امرأة، أو شيخاً، أما عصابات الشر فقد اغتالت أعداداً كبيرة من الناس البسطاء، بغض النظر عن جنسهم، أعمارهم، انتماءاتهم، فمجرد اتهام شخص ما بالشيوعية، أو الديمقراطية كافٍ لقتله، وقتل أطفاله، وذويه، وفي مدينة الموصل فقط اغتالوا نحو 1900 مواطناً.
كان جارنا مؤيداً للزعيم، ولم يكن شيوعياً قط، لا بل لم يكن مثقفاً، كان يعمل في شركة النفط، وفصل لسبب تافه في العهد البائد، وظل عاطلاً مدة ما، لكنه وجد عملاً بعد الثورة، وربما كان هذا السبب الذي جعله يؤيد عبد الكريم، وفي صباح يوم ما طرق الباب، فخرجت طفلة في سن العاشرة، فأرديت برصاصة في رأسها، وكانت أمها قريبة منها، وتحمل أخاها الرضيع، فتقدمت لترَى ما حدث، فانهال الرصاص وقُتِل الاثنان، وعندما خرج الأب قتل هو أيضاً، تكوم الأربعة في مكان واحد، لم يبقَ سوى فتاة في الرابعة عشرة، كانت في السطح آنئذ، هذه الحوادث كانت تتكرر يومياً، لم تكشف التحقيقات التي أجريت بعد 8 شباط، لهؤلاء الضحايا أي دور في حوادث الموصل.
أما القتلة فكانوا ينقسمون إلى عصابات لا يزيد عدد العصابة عن خمسة أشخاص، وكانت مكافأة القتل، 50 ديناراً لعضو العصابة، و 100دينار لزعيم العصابة، وعند بلوغ عدد الضحايا حداً معيناً يذهب رأس العصابة، إلى سوريا ويقدم دليلا على "نضاله"، أي كشفاً بمن قتل هو وعصابته، وعادة ما تكون أسماء الشيوعين، مرفقة بشهادات من عصابات شقيقة بالإجرام، تؤيد قتله لهاتيك الضحايا، فيتسلم المبلغ من مكتب عبد الحميد السراج شخصياً، وأعرف أحد هؤلاء المجرمين، وكان يتباهى أمامي أنه بعد عدة عمليات، وزيارات لدمشق، طلب منه نجيب السراج أن يذهب لمقابلة عبد الناصر، بناءً على طلب الأخير، وتم اللقاء، واخذ صوراً معه، وما زال الرجل نفسه يعيش في بلد عربي، غير مصر، وأنا مصمم إن عاد العراق حراً أن اشهد على هذا القاتل الفاتك، الذي كان يتباهى ببرود دم ذاكراً ضحايا لا حصر لهم.
فلماذا أغفل معدوا البرنامج "الطيبين" مثل هذا النشاط الإجرامي؟
كان أحدهم يحرض على قتل "الشيوعيين" من جامع "أبو حنيفة" في زمن عبد الكريم، يحض فيها على قتل "الشيوعيين"، وبعد يوم أو يومين من تلك الخطبة، أمسكت عصابات البعث والشر بأحد المراهقين 16سنة: ما زلت أتذكر اسمه فهر نعمان، وأوثقوه بالحبال، وسكبوا عليه البانزين، وأحرقوه حيا.
مثل هذه البشاعات كانت تحدث يومياً، ولو قدر لمن يتتبعها ويجمعها لتجاوزت مئات المرات كل السلبيات التي ألصقت بأي جهة أيدت عبد الكريم.
9- مساهمات الثورة في النضال العربي:
أغفل المسلسل أيضاً ذكر مساهمات الثورة في النضال العربي، فقد خصص العراق مبلغ مليوني دينار سنوياً، مساعدات للثورة الجزائرية، وهي أضخم معونة قدمت لها من أي قطر عربي آخر، ودعم كذلك القضية الفلسطينية، واقترح الزعيم خطة لو لم يرفضها مسيلمة الكذاب ورهطه لكانت أنقذت فلسطين، طالب بانسحاب مصر من قطاع غزة، وانسحاب الأردن من الضفة الغربية، وإقامة الدولة الفلسطينية، ووعد بالاعتراف بها، وكانت خطته أن تقوم الدولة الفلسطينية بالخطوات التي تراها ملائمة لاسترجاع الأرض، وأسس الزعيم أول فوج لتحرير فلسطين، وسلحه بأحدث الأسلحة، وكان ذلك أول خطوة عملية في الطريق الصحيح، ولو تم ما دعا إليه الزعيم لكان هناك الآن دولة مستقلة، وربما لاستطاعة بنضالها الرجوع إلى حدود سنة 48، ولما تعرض العرب لنكسات كارثية، كحرب 67و71 لكن أسمعت لو ناديت حياً، ولكن لا حياة لمن تنادي.
10- التشويه المقيت لشخصية الزعيم.
أ- المنفرد بالحكم: اهتم البرنامج كثيراً بإبراز تآمر عبد الكريم قاسم على الضباط الأحرار، وإبعادهم لينفرد بالقرارات مثل ساعة الثورة، وليكرس زعامته، كقائد أوحد.
ربما يستطيع البرنامج بذلك أن يقنع غير المعاصرين، أو الغرباء، لكنه لم ولن يقنع المطلعين على الأمور قط، فهؤلاء يكتشفون الأكاذيب والزيف ببساطة، عندئذ لا
يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
اشترك بالثورة من غير ضباط اللواءين التاسع عشر والعشرين أكثر من مئتي ضابط، التقوا في مشارف بغداد بالقيادة، حيث وزعت عليهم مهام الثورة، فإن كان هؤلاء يشعرون بأن عبد الكريم مغتصب للقيادة فكيف وافقوا على المشاركة؟ ألا يعني ذلك أنهم مقتنعون بقيادته!
ب _مجلس قيادة:
أما عدم تشكيل مجلس قيادة ثورة فتلك شماعة تعلق عليها الأخطاء، كان في مصر مجلس قيادة ثورة لكن الأمور كلها بيد عبد الناصر، ومن يقرأ "الآن أتكلم" لخالد محي الدين، يدرك أي مهزلة كان ذلك المجلس.
كما أن لصدام مجلس قيادة ثورة، فيه مجموعة تنعق إذا نعق صدام، وتخرس إذا سكت، كالأغنام ما أن يقول كبشها باع حتى يصرخ الجميع باع، فهل هذا ما كانوا يريدون.
نعم، لم يكن في زمن عبد الكريم قاسم مجلس قيادة ثورة، لكن الجميع، من وزراء، ضباط، مواطنين عاديين، كانوا يستطيعون أن يبدو آراءهم بمنتهى الحرية، حتى لو خالفت آراء عبد الكريم.
ومن يقرأ كتاب سكرتير الزعيم جاسم كاظم العزاوي، يرى الكثير من هذا القبيل، بالرغم من أن العزاوي كان خائناً، يظهر الإخلاص للزعيم ويبطن الغدر والتآمر، إذ كان يتجسس للبعث على الزعيم، وكرم لدوره الخسيس بتعيينه وزيراً في أول وزارة جاءت بعصابة البعث للحكم.
ذكر البرنامج أن مجموعة من الضباط دخلت على عبد الكريم في الأيام الأولى من الثورة للمطالبة بمجلس قيادة الثورة، فأحالهم على عارف، ثم صرفهم هذا من دون نتيجة.
ولم يذكر البرنامج المصدر، ولا أسماء الضباط، ومن مثل هذا اللغو المفبرك، والذي يشبه إلى حد ما دسائس القصص البوليسية، ومغامرات جيمس بوند، ما ذكره البرنامج، أن الضباط الأحرار اجتمعوا في بيت قاسم، ليتفقوا على شؤون الثورة، وعلى ساعة الصفر، لكن النقاش احتدم، وتأجل إلى اجتماع آخر في نفس المكان، بعد بضعة أيام، لكنهم وقبل أن يصلوا إلى نتيجة اقتحم عليهم فاضل عباس المهداوي الاجتماع وأخبرهم كذباً بأن الأمر وصل إلى الاستخبارات العسكرية، فانفض الاجتماع من دون نتيجة، كل ذلك لينفرد قاسم بالزعامة.
لكن البرنامج يعترف إن قاسم أقدم الضباط الأحرار، وأكفأهم، وأجرأهم، هذا بالإضافة إلى أنه قائد أحد لوائين اختارتهما قيادة الجيش ليغادرا إلى الأردن، فكيف بالله يمكن أن تكون الزعامة لغيره؟
اتفق مشاركو حلقات “بين زمنين” على أن عبد الكريم ما كان ليقبل غير زعامته، وهنا يبرز سؤال مهم: من أفضل من عبد ا لكريم قاسم؟
الطبقجلي الذي اشترك مع الشواف في تلك المؤمراة المشؤومة، ثم جبن، وانسحب، وترك الشواف لمصيره المحتوم؟
رفعت الحاج سري؟ الذي أعدّ بضع مؤامرات متتالية، وكان يستغل منصبه كرئيس استخبارات، يظهر علناً الولاء لعبد الكريم ويأتمر عليه سراً، وبذلك خان الثورة التي ائتمنته، وقام بما يشبه دور الطبقجلي في مؤامرة الشواف، ثم جبن أيضاً، أهذا الشخص المهزوز يمكن أن يكون زعيماً لثورة فيها شخصية عظيمة كعبد الكريم؟
عبد السلام؟ لم أجد أي ضابط ممن اشترك بالثورة يحترم عبد السلام، أما البكر وعماش وحردان وبقية ضباط الثامن من شباط، فكانوا يحتقرونه، ولم يؤمنوا بأحقيته بالزعامة، لكنهم وبضغط من المخابرات المركزية، اضطروا للتحالف معه، للقضاء على ثورة الرابع عشر من تموز، وحينما ثبتوا في مراكزهم، حاولوا إزاحته، فتغدى بهم قبل أن يتعشوا به.
عندما ظهر عبد السلام في محكمة الشعب أثار اشمئزاز المشاهدين، أعطى انطباعاً بأنه لا يؤمن بزعامة عبد الكريم حسب، بل يكاد يعبده، ويعتبره المثل الأعلى له، لكن كل ذلك لم يكن سوى ضرب مقزز من النفاق.
ج-عقدة الخطب:
ادعى البرنامج ادعاءين كاذبين متناقضين: أولاً: إن الزعيم لم يخطب بالجماهير خلال ثلاثة أيام من بدء الثورة، والثاني: إن أول خطبة له كانت في الأول من أيار، وفيها يدعي البرنامج أن عقدة لسان عبد الكريم انحلت آنئذ، وهاتان كذبتان كبيرتان، وسخيفتان، والحقيقة أن الزعيم خطب الجماهير في الساعة الحادية عشرة، من يوم الرابع عشر من تموز، حال وصوله وزارة الدفاع، حينما رأى الجماهير محتشدة لتحية الثورة، ونشرت الصحف صورته وهو يخطب، ولا أتذكر بالضبط ما قاله، لكن المصادر كلها تشير إلى هذه الخطبة، لكن ما يحضرني منها هذه الكلمات:
(أنا ابن الشعب، وما قمنا به لأجل الشعب، وسنجعل مصلحة الشعب هي الأول والأخير.)
أما الإدعاء بأن عبد السلام كان واجهة جماهيرية، وخطيباً مفوهاً، فمجرد ادعاء مغرض للنيل من الزعيم، نعم، أراد عبد السلام أن يجعل من شخصيته الأول والأخير، لكنه فشل في استمالة الشارع العراقي، كانت خطبه عبارة عن هذر تافه، سطحي سخيف، وبلا معنى، مما أدى إلى صدود الجماهير عنه، وردها عليه، وبقي الناس يرددون ولمدة طويلة، سخف بعض الجمل ويتندرون بها مثل هذه العبارة: "جمهوريتكم هذه عربية، إسلامية، شرقية، غربية، إلهية، أرضية، خاكية"
إن خطب عبد السلام عارف محفوظة كلها، ولقد حكم عبد السلام بعد الزعيم، ولو كان في تلك الخطب شيء من بلاغة، أو حكمة، أو فكر، أو أهمية لطبل المنافقون لها، وزمروا ، لكنهم رأوها تافهة فقبروها مع صاحبها غير مأسوف عليه وعليها.
د- ثقافة عبد الكريم:
ادعى عزيز الحاج أن عبد الكريم أثقف من عبد السلام بالرغم من كونه غير مثقف سياسي. وهذا ادعاء متأدلج فارغ، الزعيم عبد الكريم قاسم أثقف من عزيز الحاج نفسه، ومن زعماء كل الأحزاب والمنظمات إطلاقاً، ولا تكفي قراءة كتاب ماركسي لتجعل من القارئ مثقفاً، ربما قرأ عزيز الحاج بعض الكتب، لكنه تصرفه هو وأمثاله لا يجعل منه مثقفاً قط.
كان الزعيم يخطب ارتجالاً، ولم أسمعه يخطئ قط باللغة العربية، كان يتكلم الفصحى الواضحة القريبة إلى الجماهير، وأتحدى أي شخص يثبت العكس، ولم يكن هذا متيسراً لزعماء معاصرين له، كعبد الناصر، أو لدعي ساذج كعبد السلام، أو حتى لأساتذة جامعيين مختصين باللغة العربية، لم أرَ أي زعيم دولة عربية يرتجل فلا يخطئ كعبد الكريم، كما أنه كان يرصع خطبه بأمثلة جميلة وآيات قرآنية، وحكم، يضعها في مكانها الصحيح، وفي إحدى المناسبات ردت عليه مدرسة بذكر آية قرآنية، فأجابها بسرعة مذهلة، تدل على حيوية فكرية، وسرعة بديهة، بآية أخرى ألقمتها حجراً، ثم تدخل غيرها فذكر آية أخرى، فرد عليه الزعيم بآية أخرى دحضت مقالته، فلم يكن حظه بأفضل من حظ سابقته، وتكرر الرد والرد المعاكس نحو نصف ساعة! انتهى السجال بانتصار الزعيم، وبعد تحرير العراق، ربما سنتمكن من رؤية ذلك السجال الديمقراطي بين قائد ثورة وأمة، وبين أبناء الشعب.
ابتدع الزعيم تعبيرات بليغة مذهلة ذهبت مثلاً، مثل تعبيره الرائع:
الرحمة فوق العدل، لم أسمع بهذا التعبير من قبل قط، وكذلك لم أسمع ب: وما ضاع حق وراء مطالب. ووصف الناصريين والبعثيين بالقوميين المزيفين، وكان ذاك تعبيراً جديداً أيضاً، وموفقاً إلى حد كبير، كما كان استعماله لمصطلحات أخرى كالفوضويين، والطامعين، مصيباً وجديداً أيضاً، ولو كنت في العراق، وتيسر لي دراسة خطب الزعيم لوجدت غير هذه التعبيرات الكثير.
ربما يدعي شخص ما أن إتقان اللغة العربية ليس كافياً، لكن هذا الإتقان لا يأتي منفرداً قط، فالمختص بشيء ما عنده إمكانية فهم بقية الأشياء، حتى في حدها الوسط، وكل من دخل دار عبد الكريم يشهد بأن له مكتبة كبيرة، ولما لم يكن متزوجاً فاحتمال كونه يشغل نفسه بقراءة الكتب أمر وارد.
وعندما نقارن عزيز الحاج بالزعيم، يظهر البون شاسعاً في كل شيء، فكلا الرجلين تزعما حركة، لكن الزعيم نجح، وفشل الحاج، لقد كانت حركة الحاج حركة رعناء، تدل على سطحية، وغباء، وتسرع، وانتهت إلى كارثة، ولو كان الحاج رجل مبادئ حقاً، يتحلى بالشجاعة لأعدم مع رفاقه، لكنه فضل خيانتهم، والعيش الرغيد في بلد أوربي على الموت، كان ذلك وصمة عار أبدية، فكيف يتهم الزعيم بأنه غير مثقف؟ الثقافة فكر وعمل، نظرية وتطبيق، وليس كلمات تدبج كيفما اتفق! ولو وضعنا الزعيم بخلقه النبيل السامي مكان عزيز الحاج لقتل تحت التعذيب، ولما اعترف على رفاقه، ولآثر الموت مع النبل، على العيش الرغيد مع الخيانة.
كان سلوك الزعيم سلوك شخص على أعلى درجات الثقافة، على أعلى درجات التهذيب والأدب، وعندما هاجمه شاه إيران، مستغلاً تآمر مصر عليه، وتكالب دور الولايات المتحدة، وإنكلترا، ودول الجوار عليه، مطالباً بضم شط العرب، رد عليه بشكل مؤدب، ووصفه بالطامع فقط.
وكانت جعبة عبد الناصر مليئة بالأكاذيب، والافتراءات، والسخف، ويردد كثيراً: قاسم العراق، بمناسبة ومن دون مناسبة، لكن عبد الكريم لم يذكر اسم عبد الناصر قط، ولم يلصق به أي كلمة سوء، كان يكتفي بذكر مسيلمة الكذاب فقط، وجاءت تلك الكلمة في مكانها بالضبط.
وعندما تدفق السب والشتم على عبد الكريم قاسم من أبواق عبد الناصر، وكان مذيعو العهد البائد الذين يسبون عبد الناصر يحاكمون في محكمة الشعب، لتهم تتعلق بإذاعة برامج للنقطة الرابعة، فلم تثبت عليهم التهم، وأُفرج عنهم، ولأنهم أول وجبة تحاكم في محكمة الشعب قابلهم الزعيم، فاقترح أحدهم العودة إلى السلوك نفسه، أي سب عبد الناصر كما كانوا يفعلون في العهد البائد، لكن عبد الكريم نظر إليه نظرة شزرة أوقفته عند حده، لم يكن عبد الكريم يقابل الشر بالشر قط، إن سمو أخلاق وسلوك عبد الكريم يجعله مثلاً أعلى لا يطاله أحد، ولقد أثبت في اليومين الأخيرين من حياته ذلك السمو الإنساني الرفيع، بحيث لا يدانيه أي زعيم سابق، فضل أن يهزم، ويقتل على أن ينتصر في حرب أهلية تغرق البلد بالدم، ومع الأسف كان ذلك خطأً كبيراً، لا يتحمله هو وحده، فقد كان على مؤيدي الثورة أن تسلح نفسها، وتدرب فدائيين لمثل تلك الساعة، لكنهم ظنوا أن كثرتهم، وسيطرتهم على الشارع كفيل بدحر أعدائهم، لم يفهم معدو البرنامج ذلك السمو الأخلاقي فتجاوزه.
هـ -: العمى:
ركز البرنامج على أن الزعيم كان يغار من رشيد عالي الكيلاني! وأن مؤامرة الكيلاني مفبركة، ولا وجود لها.
أي شخص يقرأ وقائع محكمة الشعب يكتشف العكس، ولقد شاء الحظ أن التقي موسى علاوي، وهو تاجر كلفه عبد الكريم قاسم بإجراء المفاوضات في قضية الكويت، مع صديق له، متجنس بالجنسية الكويتية، "جابر عمر"، وأدى موسى دوره، تفاوض مع صديقه مندوباً عن قضية الكويت، حول انضمام الكويت إلى العراق، وكنت رأيت صورة موسى شاباً في المحاكمة التي كان البطل الرئيس فيها مبدر الكيلاني، ابن شقيق رشيد عالي، قال موسى، إن الاستخبارات العسكرية حققت معه، لأن البنك المركزي قدم صورة من الحوالة التي جاءت من القاهرة إليه، بمبلغ خمسة آلاف دينار عراقي، وفي التحقيق، ذكر أنه لم يعرف من أرسلها، وحسبما يدعي أن ذلك كان الحقيقة، لكن اتصال مبدر به بعد أيام، والطلب منه إعطاءه الفلوس أوضح كل شيء، لم يحكم على موسى علاوي بأي حكم، أطلق سراحه، وقابله عبد الكريم قاسم، وسمح له بمغادرة العراق إلى بريطانيا، وتحويل ثروته إلى الخارج، فكيف يدعي البرنامج أن المؤامرة مفبركة؟ أليس هذا هو أشد حالات العمى؟
المشاركون:
شارك في الحلقات بعض الأشخاص لم يجمع معظمهم جامع سوى معاداة الحقيقة وتزييف الوقائع، وكره الزعيم، باستثناء شخص واحد هو طالب قاسم ابن شقيق الزعيم الأمين، والدكتورة نزيهة الدليمي، ولم تُعْطَ حقها بالكلام حسبما أتصور، أما حامد وكانت مساهمته بائسة، سطحية، لا حياة فيها، فقد ظهر في بضع لقطات كان أهمها اللقطتان أظهرتا أن الزعيم دمعت عيناه لمقتل الملك ومجموعة الطبقجلي، وهاتان نقطتان غير مهمتين البتة، وسواء أ كان الزعيم خطط لمقتل الملك، أم لم يخطط، فلا يشينه هذا، أما عن إعدام مجموعة الطبقجلي، فلو كان عبد الناصر، أو البكر، أو صدام، أو أي قومي مزيف في مكانه لأعدم عشرات الآلاف، لا بل مئاتها ، وقد رأينا أن عبد الناصر أعدم من شخصيات الإخوان المسلمين، لرصاصة أطلقها عليه محمود عبد اللطيف، ولم تصبه، أعدم من لا حصر لهم إلى حد الآن، أما عن إعدام باقي الزعامات القومية لمعارضيها فحدث ولا حرج.
ذكرت نزيهة الدليمي في أحد أعداد مجلة الثقافة الجديدة أخباراً عن عبد الكريم عندما كان رئيساً للوزراء: منها أنه لم يكن يتصلب برأيه قط، وأنه كان ينصت للرأي المخالف، لا بل حتى للرأي المسيء، وأنه لم يكن يجرح المقابل، وكان يتحمله ، فإن أساء له أحد الوزراء وألح بالنقاش سكت، وانسحب إلى غرفة حتى يهدأ، ثم يرجع، وسمعت من ضباط قوميين ندموا بعدئذ على تآمرهم، بأنه كان مثال الأدب والأخلاق، بسيطاً لا يعرف فاحش الكلام قط، يحبه جميع الضباط العاملين معه، لم يعاقب أي ضابط، يكتفي بالنصح فقط، وكان كريماً على اسمه، وشهد صاحب مطعم مشهور أن عبد الكريم قبل الثورة، عندما كان يدخل مطعمه يدفع عمن كان يأكل معه، على نفس الطاولة، حتى لو لم يكن يعرفه، لكن مقدم البرنامج، ولغاية ما، وأظنها ليست نبيلة أغفل كل ذلك، ولم يعط المجال لشهود ذوي ضمير حي كنزيهة المجال للكلام، وأخاله أغفل شهادات مماثلة، أو اقتطعها، لكنه أبرز شهادات الحاقدين على الزعيم الأمين.
عدد من استأنس بهم البرنامج، أو من أخذ مقتطفات من كلماتهم، يربو على الثلاثين، ليس فيهم أي واحد متعاطف، أو مؤيد لعبد الكريم، باستثناء نزيهة، وابن أخيه، ولم يكن هذا سياسياً، فخلت إجاباته من تسليط الضوء على الأمور المختلف عليها، أما معظم الشهود فهم أعداء حاقدون، وأسميتهم بالحاقدين لأنهم ائتمروا على الزعيم في حياته بشكل ما، مادي أم معنوي، وفيهم أعداء سلبيون، لأنهم كرهوا الزعيم لسبب ما وعادوه، لكنهم لم يشتركوا بعمل مباشر ضده، ومنهم شهود زور، كالببغاوات، يرددون ما يسمعون من دون تمحيص، وهؤلاء رعاع ينعقون مع كل ناعق، وفي كل الأحوال لا يمكن الركون إلى شهاداتهم، ولا يمكن تثبيت حقائق أهم فترة، أما أهم شخصية أعطيت حصة الأسد فهو شكري صالح زكي، استحوذ على أضواء حلقات "“بين زمنين”" وكان قبل الثامن من شباط، محامٍ عادي جداً، غير موهوب إطلاقاً، لا شهادة عالية، ولا منصب حزبي كبير، لا في العير ولا في النفير، لم يكن له أي شأن سياسي قبل 14 تموز وحتى الثامن من شباط، ميزته الوحيدة أنه كان يرتبط برابطة قرابة لأحد قادة إجرام الثامن من شباط الأسود، وبناء لتلك القرابة، عين وزيراً في أول وزارة بعثية، إثر مقتل الزعيم الأمين، وهذا يعني أنه عدو حاقد، ولا تقبل شهادة الأعداء في أي محكمة، وأعطي كما قلنا الدور الأكبر في البرنامج، فصال وجال، ولعب وحيداً في أربعة أركان المجال، وبالإضافة إلى تهجمه في البرنامج على كل شيء طيب ونبيل في الثورة، تكلم هذا الدعي عن الجبهة الوطنية وهو بعيد عنها كبعد نوري السعيد، فلماذا؟
لا مراء بأن كل من اشترك في وزارة الثامن من شباط مجرم يجب أن يقدم لمحاكمة عادلة، لأن تلك الوزارة أصدرت أوامر بإعدام آلاف الأبرياء ظلماً وعدواناً، وعليه فيجب أن تكون مسؤولة عن إزهاق تلك الأرواح، وهذا يسري على عبد الستار الدوري، هذا أيضاً تسلم الوزارة بعد مقتل عبد الكريم، وكان ضابطاً صغيراً، وتعيينه وزيراً يعني أنه حاقد أيضاً، ويداه ملوثتان بدماء الأبرياء، فكيف بالله يمكن أن يكون العدو شاهد حق؟ دافع هذا المتآمر عن الانقلابين خير دفاع، وقلب كل الحقائق، سأله معد البرامج عن عبارة علي صالح السعدي: "جئنا بقطار أمريكي" فنفى أن يكون هناك اتفاق مباشر مع أمريكا، وفسرها بأن ذلك يعني اتفاق المصالح فقط، فبدا السؤال وكأنه تمثيلية، اتفاق مسبق بين الاثنين، الأول يسأل والثاني يجيب ليبرئ، ولا بد أنه قرأ ما كتبه طالب شبيب، أو الفكيكي، ولابد أنه سمع أيضاً اعترافات قادة الجريمة وكانوا آنئذ يتباهون باتصالاتهم بأمريكا، لكنه آثر التزييف والنفاق والكذب.
يقول جيمس اكنس أحد موظفي السفارة الأمريكية في بغداد آنئذ، ونشرت مقالته الإذاعة البريطانية:
عرفت كل زعماء البعث، وأعجبت بهم.
ثم يضيف: لعبت أل C.A.I دوراً في انقلاب عام 63، واعتبر وصول البعثيين إلى الحكم وسيلة لاستبدال حكومة موالية للسوفيت، بأخرى موالية لأمريكا. أما أهم ما في التصريح فهو:
صحيح أن "بعض الناس" اعتقلوا، اعدموا، إلا أن معظم هؤلاء كانوا شيوعيين ولم يكن ذلك يزعجنا.
ويأتي الدوري فيحجب الشمس بالغربال، فيا له من منافق بائس!
واستشهد البرنامج بكلمة لهلال ناجي: وهو شاعر مغمور من الدرجة الألف تحت الصفر، ويبدو أن تفكيره أكثر ضحالة من شعره، فلقد فضح نفسه بنفيه لحقيقة واضحة، نفى أي دور لمصر في مؤامرة الشواف، بينما هناك العشرات اعترفوا بعد مقتل الزعيم بأنهم كانوا يتسلمون من العربية المتحدة، المال، والسلاح، والخطط لاغتيال ثورة تموز، ومن يقرأ أوكار الهزيمة للفكيكي يطلع على الكثير. كما أن عبد الناصر نفسه وحسب رواية لمحمود الدرة، يؤكد بأن الانقلاب لو صمد أربعا وعشرين ساعة لوصلت إمدادات من العربية المتحدة: طائرات، كتائب، سلاح..الخ. فهل هناك عماء عن الحقائق أكثر من هذا؟ لكن هلال معذور، فالشعراء يتبعهم الغاوون، أما محسن الرفيعي فلو كان مخلصاً للزعيم لأعدم كما أعدم المهدواي، وطه الشيخ، وعبد الجليل عبد المجيد مدير الأمن العام الخ، لكن الانقلابيين أبقوا على حياته وحياة كل من إسماعيل العارف، "المسؤول عن خطة طوارئ بغداد" وأحمد صالح العبدي، الحاكم العسكري العام، وجاسم كاظم العزاوي، سكرتير الزعيم، وغيرهم لأنهم كانوا مؤامرين على الزعيم، يتجسسون عليه، ويتربصون به، بينما كانوا يتظاهرون أمامه بالإخلاص، ومن أعداء ا لزعيم الحاقدين حسن النقيب، فلقد اشترك بغير مؤامرة على الزعيم، أما عبد الكريم الأزري فهو أحد وزراء العهد البائد الذي أطاح به عبد الكريم فكيف لا يحقد عليه؟ يدعي أن ثورة تموز لم تتحقق إنجازاً واحداً، وبهذا أثبت الأزري أنه لم يكن عميلاً حسب بل أعمى البصر والبصيرة.
وكان غريباً جداً حضور عبد المجيد فريد، وهو دبلوماسي مصري في زمن عبد الناصر، أدعى هذا ادعاءً فريداً: لم يكن لعبد الناصر يد له بمؤامرة الشواف، وأن الدور كل الدور لعبد الحميد السراج وبعض الضباط الوطنيين السوريين، ومثل هذه الكذبة الفاقعة لا تسيء لعبد الكريم بل تسيء لأصحابها، فهذه الشهادة تظهر مستوى بلادة قياسية! قليلاً من المروءة، وقليل من الخجل، ومن هؤلاء الأعداء محمود عثمان، المساعد الأول والرئيس للبرزاني، وبالرغم من أنني قرأت كل شيء عن تمرد البارزاني،(1)إلا أنني لم أجد أي مبرر لحمله السلاح ضد عبد الكريم، لم يذكر المتمردون أي سبب مقنع يؤهلهم لهذا العمل الخياني الذي جرّ على العراق، وشعبه من العرب والأكراد مآسي لا حصر لها، لم أجد غير أنانية البرزاني، وحلمه بأن يحكم كردستان عشائرياً، وإقطاعياً، ما المانع من أن تعيش قوميتان بإخاء كما عاشتا منذ آلاف السنين؟ إ فأن برز قوميون مزيفون عملاء من العرب توجب أن يبرز مثيل لهم من الأكراد؟
كان عبد الكريم قاسم سوراً يقي الشعب العراقي بعربه وأكراده وقومياته الأخرى وحشية وهمجية التعصب الطائفي والديني، وساهم تعاون البارزاني غير المحدود مع الانقلابين المجرمين في زعزعة نظام عبد الكريم، وأودت به، ومهدت الأرض لهجمة المغول الثانية فانهالت جحافل الظلام، بقيادة عصبة اللؤم من بعثيين وقوميين مزيفين، تدمر وتسحق الجميع عرباً وأكراداً وقوميات أخرى، وما مآسي ترحيل القرى الكردية، وقتل الأبرياء بالغازات السامة، ومآسي تعريبهم، ومعاناتهم الدائمة إلا ثمرة ذلك التعاون اللئيم، بين البارزاني وبين البعث والقوى المؤامرة على عبد الكريم، نعم كان عبد الكريم سوراً للجميع وبمقتله هُدم ذلك السور، واجتيح الجميع، وجلجل كابوس رهيب على مقدرات الشعب، طحنته، دمرته، قضت على ماضيه، حاضره، مستقبله، وأتحدى أي شخص يذكر أي سبب مقنع لجريمة التمرد اللئيم، فبعد صدور قانون رقم 80- 1960 بأقل من شهر رفع البارزاني السلاح ضد الزعيم، فهل كان ذلك مصادفة؟ أم كان بترتيب، وتخطيط؟ وبدهي أن محمود عثمان يشارك البارزاني جرائمه، وخياناته، واتصالاته المريبة.
في خبر أذاعه راديو لندن، أن محمود عثمان اتصل بأصدقائه في وزارة الخارجية الأمريكية "بعد ضرب حلبجة بالغازات" لكنهم لم يردوا على مكالماته الهاتفية، فهل أدرك محمود عثمان وأمثاله أن جريمة حلبجة وغيرها كانت نتيجة للتعاون مع الشيطان ضد عبد الكريم؟.
لقد كان للحركة الكردية اتصالات مستمرة بإيران المتآمرة على العراق، وبإسرائيل، وببريطانيا، وبكل أعداء العراق، ولابد أن يتحمل عثمان مسؤولية ذلك الاتصال شاء أم أبى.
فهل يمكن الاعتماد على شهادة مثل هذا الإنسان؟
أما رفعت الجادرجي، فأراد أن يثبت أن عبد الكريم أوعز بشكل غير مباشر لوضع صورته بدل الجندي في نصب الحرية، وهذا أمر تافه، وفي غاية السخف، فلو كان عبد الكريم يريد ذلك فلماذا لم يفصح؟ لو كان رفعت حسن النية لما أثار هذه النقطة قط، لكنه بذكرها أراد أن يشوه سمعة الزعيم من دون أساس معقول، ولا تقل سخفاً قضية السنبلة في الشعار، ولقد رأيت عشرات السنابل منها من تنتهي بواحدة، ومنها من تنتهي بثنتين، فمن نقل ذلك عنه؟ وهب أنه أراد أن يجعل السنبلة ثلاث عشرة حبة على اسمه كان ذلك نقيصة؟ قليلاً من الإنصاف يا فاقدي الإنصاف، وكفى جهلاً وسخفاً.
نذكر كل هذا السخف ونسكت عن الفظائع التي ارتكبها الآخرون بحقه، يا لحمقنا الأجوف!
ولست أدري ما الغاية من شهادته الثانية حينما ذكر أنه امتنع عن مشاركة عبد الكريم طعامه المقزز للنفس، أ أراد أن يثبت وضاعة طعام عبد الكريم قاسم! أ لم يكن بإمكان عبد الكريم أن يأكل في أحسن المطاعم؟ أن يجلب أفضل الطباخين؟ إذاً لماذا يتناول طعاماً بسيطاً يشمئز منه ضيوفه؟ أيوجد غير الزهد؟ تخلينا عن ماضينا، أدرنا ظهورنا لمثلنا، أصبحنا نشمئز من الزهد، ترى أ كان شاركه طعامه لو كان له طاقم طباخين لا حصر لهم كالبكر أو صدام؟ لقد أثبت رفعت بموقفه هذا أنه طبقي حتى النخاع، وإن كان اشمأز من عبد الكريم فقد أثار اشمئزاز كل الطيبين.
ثم أفصح عن وجهه بوضوح أكثر، حنيما ذكر وهو بفخر رفض أبيه كامل الجادرجي للتعاون مع عبد الكريم عندما طلب منه هذا المساهمة بوضع دستور، قائلاً له: "لو كنت جاداً لبقيت معك حتى الصباح، ولكن لا أعتقد أنك جاد".
إن هذا الرد يكشف زيف قناعي الأب والابن مع الأسف، ألا تعساً لمثل هذه الشخصيات مهما كانت! لماذا لم يتعاون مع الزعيم، ما ضره لو ضحى ببضع ساعات من وقته الثمين، الثمين؟ لو سمع الزعيم ليرى إن كان جاداً أو لا؟ لماذا الحكم المسبق؟
فلربما أدى التعاون إلى فائدة وخير الشعب العراقي، لو سمعه واكتشف أن الزعيم ليس بصادق، فسيحق له كشفه للناس، أما الآن وبوفاة الزعيم، فكيف نصدق أن رفعت الجادرجي صادق في دعواه! لم لا يكون ذلك نوعاً من التلفيق!
وهناك نقطة أخرى، لماذا هذا التكبر غير المعقول، ومن يرَ الجادرجي نفسه؟ ما أعلمه أن كل شيء يهون في سبيل الوطن، فهل ارتاح الجادرجي الأب والابن لمقتل عبد الكريم ومجيء حثالة البعث؟ وما موقفهما منهم؟ وهل عبد السلام والبكر وصدام أفضل من عبد الكريم؟ ولماذا لم نسمع من الرجلين أي تعليق عن هؤلاء؟
في رأيي إن عدم التعاون مع الزعيم يعني الوقوف إلى جانب التآمر عليه.
ولا أظن أن عزيز قادر الصمانجي، من المحايدين! له كل الحق في معاداة عبد الكريم، التركمان أعداء تاريخيون للأكراد، وعندما أيد الأكراد ثورة 14 تموز، فلابد أن يقف التركمان ضدها، هذا أمر طبيعي، وجرت أحداث كركوك في هذا المجرى، وكان على قادة التركمان أن ينظروا بإنصاف إلى تصرف عبد الكريم العادل في هذه القضية بالذات، لكنهم مع الأسف، ركبوا رؤوسهم، وتحالفوا مع أعداء العراق، ووضعوا أيديهم بيد البعث اللئيم، والقوميين المزيفين، ولم يكتشفوا خطأهم إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن أعدم هؤلاء منهم عشرات الآلاف، ولم يعرفوا أن الأفعى لا تهتم إلا بما تبتلع، فكان أن بدأت السلطة بالأكراد وثنت بهم، مع الأسف الشديد.
من أتعس ما بثته الحلقات فقرة استقيت من كتاب ليث الزبيدي، وكانت مختارة بلؤم شديد، فبعد أن عجز البرنامج عن إثبات أي سيئة لعبد الكريم، استشهد بما كتبه ليث، وخلاصته أن ألقاب الزعيم تجاوزت التسعين، ولست أدري أيوجد أسخف من هذه التهمة أم لا؟ ما ذنب الزعيم إن أطلق عليه صحفي، أو شاعر، أو كاتب، لقب: منقذ الشعب، الأمين، بطل السلم..الخ؟ يسوق الزبيدي هراءه هذا من دون أن يحقق، أو يثبت أن الزعيم كافأ من أطلق عليه ذلك اللقب أو غيره! من دون أن يثبت أن الزعيم أوعز لشخص ما أن يطلق عليه تلك الأوصاف! فإن لم يفعل الزعيم ذلك فما ذنبه؟ كان عبد الناصر يكرم من يمدحه، ولم يكتف من أعقب عبد الكريم بمكافأة بسيطة، فلقد أعطيت الملايين لكتاب سفلة لأنهم مدحوا صدام، هذا وليد أبو ظهر تسلم خمسة ملايين دولار، ولا أعرف كم تسلم أمير اسكندر، أو الغيطاني، أو عبد الأمير معلة، لكني رأيت قصر شويعر صدام الشهير عبد الرزاق عبد الواحد، على دجلة، وهو قصر يقدر ثمنه قبل الحرب بعدة ملايين، ولم يكن عبد الكريم قاسم هو أو أحد رفاقه الأبطال الشهداء يحلم به ولو في المنام.
أتحدى أي شخص أن يذكر أن عبد الكريم كان وراء تلك الألقاب، أو أنه كافأ من قال بها، كما فعل غيره؟ نشر الزبيدي كتابه المؤسف ذاك في زمن المقبور البكر، ونائبه صدام، ومدير أمنه ناظم كزار، فهل يعقل أن تقبل عصبة اللصوص هذه بذكر حقيقة واحدة عن الزعيم وهم قتلته؟ وهل أحصى الزبيدي أو معد البرنامج "الملغوم" ألقاب عبد السلام عارف، أو البكر أو صدام، ما ضره لو ذكر بعضها؟ إذاً لكان أكثر عدلاً، لكنه لم يفعل.
كان العراقيون وما زالوا يرددون: حب واحجي، واكره واحجي، ولقد عبر القرآن عمن يكره ويتكلم بأن في نفوسهم مرض، وما زال أكثر القوم للحق كارهين، فما عسانا نقول؟
أما نجدة فتحي صفوة، فملكي الهوى، والعمل، والحياة، اتهم المهداوي بسب المتهم، والمهداوي لم يفعل ذلك قط، وإنني أتحدى، وكتب محكمة الشعب موجودة، فأين ومتى فعل ذلك؟ كان المهداوي يسمح للحاضرين بإبداء رأيهم، وكان ذلك خطأ، لكنه لا يرقى إلى الإساءة التي استعملت في محاكمة الإخوان المسلمين في مصر على سبيل المثال، فقد كان رئيس المحكمة، يسب ويشتم، ويضرب، ويبصق، أو بقية المحاكم التي مرّ ذكرها.
ويكفي نجدة فتحي صفوة تهجمه على الشعب العراقي ليستبعد عن الشهادة، فقد اتهم الشعب العراقي بالمخالفة، ولم يشرح تلك المخالفة، كما أنه ذكر قولاً يشيد بنوري السعيد.
أما مير بصري فهاجم الزعيم "لم يوجد منهج للبناء" فإن كانت تلك المكاسب التي تحققت في زمن الزعيم لم تتم بمنهج بناء فما هي إذاً؟ لكن إن لم تستح فقل ما شئت؟ وهاجم الشعب العراقي مرتين: "طبيعة العراقيين قاسية" "الشعب ينعق مع أي ناقع" إنه لأمر مؤسف أن تصدر أحكام عامة بائسة كهذه، وكأن الشعب العراقي يختلف عن أي شعب آخر، هنا في أمريكا، أحرقت مدينة ديترويت كاملة، وكلف ذلك مئات المليارات إثر مقتل زعيم السود مارتن لوثر كينك، وأخشى ما يخشاه الأمريكان الآن بعد الألفية الثانية، هو انقطاع الكهرباء في المدن لئلا تسرق البنوك.
أما بقية الشهود فلم يقولوا شيئاً، مما ذكرني بقول عادل إمام: شاهد ما شاف شي حاجة  ..

 



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن