حول منهج التجريد التشكيلي

مصدق الحبيب
mja@resecon.umass.edu

2005 / 12 / 24

"ليس من المهم ان يكتب الناقد عن معنى العمل الفني ، بل الاهم ان يجد معنىً في ما يكتب".
رولانـد بارثـز

" يقاس تفوق عمل الفنان التجريدي بقابليته على تحطيم الحواجز بينه وبين الافكار من ناحيه، وبين الافكار والمتلقي من ناحية ثانيه ، لاسيما اذا شملت تلك الحواجز الادوات التقليديه التي اعتاد المتلقي على استخدامها في التقييم ، كالذاكره والمقاسات التقليديه والمعايير الهندسيه ، والتي ليس بأمكانها ، في حقيقة الامر، الا تكوين اشباح الافكار بدلا من اصيلاتها".
مارك روثـكو
_____________________________________________________________

المعنــى والــدلالات:

يشير مفهوم "التجريد" ، فلسفيا ، الى العمليه الذهنيه التي يتم بموجبها فصل الافكار عن الاشياء والموجودات ، وعزل النظريه عن مجالها التطبيقي ، مما يقود الى تمييز المفهوم النظري العام عما هو عيني ومادي وواقعي ، سواء اكان هذا الواقع شيئا ملموسا او حدثا مدرَكا بالحواس الاخرى. فـ"القريحه الشعريه" او "السعاده" مثلا هي مفاهيم نظريه عامه مجرده ، لكن قصيدة معينه من قصائد السياب او الجواهري او مناسبة الفوز بجائزة معينه او فرصة لقاء الحبيب هي اشياء واحداث واقعيه محدده لها صفاتها ومكوناتها المتميزه والتي قد تشير بقدر او بآخر كمدلولات للقريحه الشعريه او السعاده. على ان هناك عاملان رئيسيان يقرران الفصل بين ماهو تجريدي وماهو واقعي وهما: " الماهيه الفيزياويه" التي تشير الى الوجود الملموس او المدرَك، و"التواقت" الذي يشير الى تحديد الموجودات والاحداث بظروف مكانيه وزمانيه معينه. أما فنياً، فقد يتجسد هذا الاختلاف بين ماهو تجريدي وماهو واقعي في فصل المحتوى عن الشكل الفني والذي يمكنه ان يتم بأساليب عديده مختلفه تتراوح في درجاتها من تقليل وتبسيط واختزال تفاصيل وعناصر الشكل المرئيه الى الغائها تماما ليبقى المحتوى هو العنصر الوحيد في بؤرة العمل الفني. ولهذا يصبح التجريد صنوا للاختصار والايجاز ورمزا لاستخلاص الفحوى الاساسي والمركزي والوصول الى صلب الموضوع عن طريق الاحتفاظ بجوهر الاشياء ونزع مظاهرها الخارجيه. فالفن التجريدي، اذاً ، هو الفن الذي لايصور الاشياء كما تبدو في الطبيعه بمنحاها الموضوعي، ولذا فهو الفن غير التشخيصي الذي يعتمد في بناءه عناصرا تشكيليه ذاتيه يتخذ فيها اللون والتوليف الشكلي الاهميه الاولى التي تطغي على العناصر البنائيه الاخرى كاهمية الموضوع. وهكذا فأن كل الاساليب الفنيه التي تعتمد الايحاء بالواقع بدلا من استحضار مفرادته او تقليدها حرفيا ، والاساليب التي يتجاوز الشكل فيها الموضوع هي من صلب المنهج التجريدي.

وبالاضافه الى اعتماده على الفنون الواقعيه كخلفيه عامه ، يستمد الفن التجريدي، كما يرى الباحث والناقد الفني مل كَودنك في كتابه "الفن التجريدي" المنشور عام 2001، من مجموعة خلفيات وحقول وقوى مختلفه اخرى مثل العماره والهندسه والديكور والمثلثات الرياضيه، كما انه يستوحي بعضا من ميزات الفنون الشعبيه المجسده لنشاطات الفنانين الفطريين الذين يمثلون بتجاربهم الخام خصوصيات ثقافات مجتمعاتهم وتاريخ تطورها. كما يستفيد الفن التجريدي ايضا من الابتكارات والتكنيكات الفوتوغرافيه الحديثه، وتجارب الاتمته التكنولوجيه والتطور الصناعي، وحتى تجارب وتطورات علوم السلوك البشري مثل علم النفس وعلم الاجتماع. وفوق كل هذا وذاك فأن عالم الموسيقى السحري يمثل الدليل الروحي لنشوء وتطور منهج التشكيل التجريدي، حيث توفر الموسيقى النموذج الطبيعي الامثل للفنون غير التشخيصيه بفضل ميزات قوامها الهيكلي وتمتعها بقوة الاقناع والتأثير التي تنفي او تحجّم حاجة المتلقي الى محاججتها كفن تجريدي. وبموجب ذلك يمكن اعتبار الفن التجريدي بوتقةً لتجارب فنيه وثقافيه واجتماعيه مختلفه ، يمنح انصهارها واندماجها معا المبرر المفحم لان يكون هذا الفن رمزا لتعددية الافكار والتجارب. وهو بذلك لايدعو الى ازاحة الفنون الواقعيه جانبا ليحتل مكانها، انما يأخذ بجداره موقعه المتكافيء الى جانب الفنون التي سبقته وتلك التي تليه، مختلفا عنها بأتاحة الفرصه الاكبر لتوسيع الافق الثقافي العام واكتشاف الامكانات البديله، وتغيير الاسلوب والنمط والوجهه التي نرى فيها الاشياء ونفهم دلالاتها.

ولكون المنهج التجريدي يعتمد الاختزال والالغاء والتركيز، فأنه يعتمد بشكل استثنائي على حجم وطبيعة تصور المشاهد ، ويتطلب مستوىً معينا من حضوره ومساهمته الايجابيه الفعاله، وقدرا كبيرا من الاستقراء التخيلي المستمر. وذلك يبدو على العكس من موقف المشاهد من الفن الواقعي التشخيصي المتسم بسلبيته احيانا وحياديته غالبا بسبب غياب الاسئله والدلالات والرموز التي تحتاج من يفك شفراتها. وتعميما على ذلك، يصبح الفن التجريدي واجهة للمجابهه ومنبرا للحوار تتراكم من خلاله التجربه ويشيع من حوله المناخ الثقافي. على ان التمتع بالاعمال التجريديه يتطلب اولا الغاء الافتراضات الاوليه حول العلاقه الديناميه بين عناصر الشكل الفني المرئيه ودلالاتها المعنويه المألوفه والتي غالبا ماتصاحب التمتع بالفن الواقعي التصويري. ولان الاشكال ودلالاتها في المنهج التجريدي لاتشابه ماهي عليه في المنهج التقليدي، فأن ذلك يستلزم من المتلقي ان يبدي استعدادا مختلفا ويتخذ موقفا آخرا من اجل ان يشهد تجربة اخرى جديده.

النشــأه والتطــور:

خلافا لما هو شائع ، لم يكن التجريد من منجزات القرن العشرين حصرا ! فلقد ظهرت اشكال منه في حقبة مبكره من تأريخ الفن ، وما الزخرفة الاسلاميه التي نشأت مع بزوغ الاسلام وتطورت مع تطور فنونه منذ القرن السابع الميلادي ماهي الا فنا تجريديا بحتا ، وما فنون الخط العربي والصيني والياباني في القرون الوسطى الا انماطا من فنون التجريد البحت التي اتخذت من الحروف الابجديه واشكالها التجريديه عناصرا اساسيه لبناءها التشكيلي الذي كان غرضه الاولي ان يحمل المعاني الحرفيه للغات المعنيه. لكن ماهو شائع عن التجريد غالبا مايتعلق بعودة بزوغه في العصر الحديث كحركه فنيه ومنهج تحليلي اكتسح اوربا في بداية القرن العشرين واستمر بالانتشار الى اقصى نقطه من الارض وازداد ويزداد قبوله الشعبي الى يومنا هذا. ينحى قسم من النقاد ومؤرخي الفن التشكيلي الى اعتبار تصورات الفنان جيمس وستلر في الربع الاخير من القرن التاسع عشر كأول الميول الى الاتجاه التجريدي، خاصة تلك التي تجسدت في مقولته " على الفن التشكيلي ان يهتم بتجسيد الايقاعات اللونيه للعالم الذي من حولنا مثلما تجسد الموسيقى ايقاعاته الصوتيه" وكانت لوحته المسماة "الصاروخ الساقط" التي رسمها عام 1874 مثالا لنقطة البدايه رغم انها بقيت في الظل مقارنة بلوحات فاسيلي كاندنسكي وكشمير مالفيتش وناتاليا كونجروفا وميخائيل لاريونوف المرسومه حوالي 1910- 1911 ، والتي اعتبرت من اوائل الانتاجات التجريديه البحته. كما ذاع صيت مقولة كاندنسكي رغم انها كانت ترديدا لما قاله وستلر. وكان كاندنسكي قد صرح بأنه " يستحسن بالفن التشكيلي ان يغور الى خلف مانراه ظاهرا ليصور العناصر الروحيه الكامنه باطنا".

وفي كتابه الموسوم "نظريات الفن الحديث" والمنشور عام 1996 ، يعتقد الباحث هرشل جب ان منهج التجريد التشكيلي كان قد انبثق من حركة الفكر المثالي التي عمت اوربا قبيل اندلاع الحرب العالميه الاولى عام 1914. ويذهب الى الاعتقاد ايضا بأن ثورة التجريد بدأت من خلال نشاط تجمعات ثقافيه معينه ضمت اكثر الفنانين الاوروبيين تحمسا وتأثرا بالاتجاهات المعاصره. ففي العقد الاول من القرن العشرين كان روبرت ديلييني قد بدأ في باريس برسم لوحات كانت غير مألوفه مقارنة بما كان شائعا آنذاك ، وذلك لانها اقتصرت على تصوير انماط من التناغم والتعارض اللوني امتزج فيها الموضوع بالشكل بما لايمكن تمييز اي منهما، مما حدا بصديقه الشاعر والناقد أبولينيير، الذي كان يرافق المعارض لالقاء المحاضرات حول التحول الجديد، ان ينعت ذلك الاتجاه الجديد ب"الاورفيه" نسبة الى التيار الصوفي الاغريقي الذي دعا الى تنقية الروح من شرور الجسد. على ان الاستاذ جب يميل الى اعطاء الاهميه الكبرى في تشخيص بدايات منهج التجريد التشكيلي الى بزوغ جماعتين من الفنانين كان لخلفياتهما الثقافيه والاجتماعيه دورا في الرياده. وهاتان الجماعتان هما الجماعه الهولنديه والجماعه الروسيه . فيسند خلفية وتجربة الفنانين الهولنديين الى المدرسه البروتستانتيه الهولنديه المثاليه، كما انه يعزي نبوغ الفنانين الروس الى خلفية روح التطرف المثالي الروسيه التي بلغت ذروتها قبل انفجار الثوره البلشفيه عام 1917.

حـركة "التشكيليه الجديده" ( Neoplasticism ):

تزعم الفنان دوزبرك الجماعة الهولنديه واضطلع بدور القياده في الحركة "الدستيليه" التي اخذت تنشر مبادئها على صفحات مجلة الستايل (De Stijl) التي اسسها واشرف على تحريرها دوزبرك عام1917 بهدف احتضان طاقات الشباب المجددين من الرسامين والمعماريين والفوتوغرافيين. وكانت هذه الحركه قد سميت ايضا "التشكيليه الجديده" نسبة الى المصطلح الذي تبناه موندريان . نشطت هذه الحركه بشكل واسع خلال العشرينات متأثرة بتيارين فكريين هما: اولا، جماعة بوتو ( Puteaux ) التي اسسها الاخوان جاك فلن ومارسيل دوشامب وريموند دوشامب عام 1912 ، والتي ضمت فرناند ليكر والبرت كلايزس والناقدان ابولينيير وسالمن. وكانت الاهداف النظريه لهذه الجماعه تتركز حول فكرة التأمل الموضوعي والتماثل بين التشكيل والموسيقى والرياضيات. اما التيار الثاني فمصدره الفلسفة الافلاطونيه الجديده التي اعاد بعثها آنذاك عالم الرياضيات شونميكر. دعت التشكيليه الجديده الى تبني الافكار المثاليه الطوباويه واعتمدت مبدأ التناغم الروحي كنظام متجسد في التجريد التشكيلي البحت الذي كان اهم مايميزه اعتماده على الحد الادنى من عناصر الشكل واللون واختزال الانشاء التشكيلي الى مداخلات افقيه وعموديه والاقتصار على الالوان الاوليه كالاحمر والازرق والاصفر اضافه الى الابيض والاسود. ويعتبر موندريان من ابرز ممثلي هذه الحركه واهم واضعي فلسفتها التي تجلت ببيانه الشهيرالذي نشره عام 1920. وكان لشخصية موندريان، الرجل المبدأي والمتحمس، وتجربته في دراسة الفلسفه الثيوصوفيه ، مبررا جوهريا لان يكون هو ممثل الحركه النموذجي وسفيرها الذي يجسد مبادئها وتقاليدها الفكريه المبنيه على الاتزان والنقاء والمنطق المثالي. وبفضل موندريان والتزامه اتسعت شعبية الحركه وازداد قبولها الشعبي فتحولت، على حد تعبير احد النقاد، من اتجاه فني محض الى فلسفة ودين! فهي الحركه التي ارادت ان يشيع الانسجام والتناغم في كل مكان ليكون الوجود بمثابة لوحة جميله من ابداع الفنان. وليس هناك افضل مما صرح به موندريان للتعبير عن هذه الفلسفه المتفائله حين قال: " في المستقبل ، وحين يكون بمقدور القيم الفنيه ان تتغلغل الى كل حقل ومجال، سوف لن نحتاج الى لوحات فنيه، ذلك اننا سنكون وسط لوحة فنية جميله هي العالم الذي من حولنا".
ومن الاعلام الاخرين البارزين في هذه الحركه النحات فانتنكيرلو والمهندسان المعماريان جي جي آود وكَرت رايتفلد. ويعطي بعض مؤرخي الفن الفضل لهذه الحركه في نقل المفاهيم التشكيليه المعاصره الى الحقول التطبيقيه مثل العماره والتصميم الصناعي والديكور وتصميم الازياء. كما انها كانت تعتبر موضع تقليد ومحاكاة من قبل حركات واتجاهات اخرى مثل جماعة ميونخ ومدرسة البوهاوس.

التفـوقيه والتشـييديه ( Suprematism and Constructivism ):

رغم حالة التخلف الاقتصادي والثقافي النسبيه التي تفشت في روسيا القيصريه، فقد لمع لفيف من الفنانين والمثقفين المتنورين الذين كان اطلاعهم على مايجري في اوربا واستيعابهم للثوره الفنيه فيها ممزوجا بالحماس والاصرار على تبني المعاصره ونشر منهجها. وكان من ابرز اولئك الفنانين كشمير مالفيتش الذي اظهرت اعماله المبكره تأثرا واضحا بمدرستي الوحشيه والتكعيبيه لكنه سرعان ماتحول الى التجريد البحت فتبلور اسلوبه منهجيا الى ماأسماه عام 1913 بأسلوب "التسامي" او "التفوقيه" الذي تجسد بلوحته "المربع الاسود" التي اصبحت فيمابعد من اشهر لوحات الفن التجريدي البحت، والتي علق مالفيتش عند عرضها قائلا " في محاولتي الفرديه الجاهده لتحرير الفن من اعباء عالم التقليد التشخيصي ، جاء المربع الاسود ليكون بمثابة الواحه التي استضللت فيها ".

العلم الثاني من اعلام المجموعه الروسيه هو الفنان فلاديمير تاتلن الذي تزعم المدرسه "التشييديه" او"البنائيه" التي بدأت نشاطاتها عام 1914 لتجابه فكرة "الفن للفن" وترسي دعائم معتقد جديد يؤمن بالفن كأداة ثقافيه في خدمة المجتمع من الاجدر بها ان تسخر المواد الصناعيه والانشائيه المتوفره والمتداوله يوميا وتجعلها عناصرا اساسيه للابداع الفني وتلبية حاجات الناس بوقت واحد. بعد انفجار الثوره البلشفيه عام 1917 لاقت المدرسه التشييديه الكثير من الاقبال حيث احتضنها قواد الثوره وخاصة تروتسكي لان افكارها كانت منسجمه مع المباديء العامه للفكر الاشتراكي الجديد. وتدريجيا ترسخ لدى التشييديين انفسهم الاعتقاد بالعلاقه المباشره بين الفن والعقيده والثوره فتحولت فلسفتهم الى اعتبار الفن كضروره للتعبير عن تطلعات الشعب وامانيه ، مما استوجب شمول نشاطات تنمية المجتمع الانشائيه والصناعيه بأعتبارات وموازين فنيه والارتقاء بمحاورة الجماهير بلغة الفن ومفرداته اضافه الى لغة ومفردات الاقتصاد والتنميه. وكان ذلك محفزا كبيرا لتاتلن ان ينجز تصميم مشروع نصب "الامميه الثالثه" العملاق بارتفاع 1300 قدم ، والذي اصبح، رغم عدم تنفيذه، تجسيدا للاسلوب التشييدي المعبر عن نقاوة وحماس الثوره العماليه لدى اغلبية الشعب الروسي. ومن اعضاء التشييديه البارزين ايضا الفنان ليستزكي والاخوين نعوم كابو وانطوان بفزنر اللذين عادوا مع كاندنسكي من غرب اوروبا الى موسكو بعد الثوره ليلتحقوا بمالفيتش وتاتلن ابان عصرالتفوقيه والتشييديه الذهبي الذي لم يستمر طويلا بسبب انفجار الخلافات بين تروتسكي ، الذي كان يقف ظهيرا قويا للمدرستين الفنيتين المجددتين، وبين التيار القيادي الرئيسي للثوره المتمثل بلينين. يروي بعض المراقبين بأنه اضافة لاقتران التفوقيه والتشييديه بتروتسكي، فان لينين كان يشمئز من كل ماهو حديث في الفن ويهزأ بتلك المناهج الجديده التي كانت تذكره بمشاغبات وعبث جماعة فولتير الدادائيه التي حدث ان تسكن شقة مجاوره لشقته حينما كان منفيا في زيورخ عام 1916. وهكذا انقلبت الايه فشجبت الثوره تروتسكي وناصبت العداء لكل ماله علاقه به، فاصبحت التفوقيه والتشييديه والفن الحديث عموما ضربا من العبث والتخريف البرجوازي, وبذلك عبدت الارضيه المناسبه لاطلاق تهم الانحراف عن مباديء الثوره موفرة في ذلك الحجه الاكبر لمصادرة حريات التعبير وحصر النشاط الابداعي بالواقعيه الاشتراكيه . وفي غضون الخمس سنوات الاولى من عمر الثوره البلشفيه فـّر اغلب الفنانين البارزين من روسيا رافضين في ذلك تسييس الفن وساعين وراء الاستقلال والحريه الشخصيه. فذهب مالفيتش وكاندنسكي الى المانيا للتدريس في مدرسة البوهاوس في وايمر ، والتحق ليستزكي بحركة التشكيليه الجديده في امستردام، فيما اختار بفزنر ان يعمل مستقلا في باريس، وذهب كَابو الى لندن ليرأس تحرير صحيفة "الدائره" وهي المطبوع الجدي الذي التزم بنشر وتعميم طروحات و نظريات التجريد الراديكاليه.

مدرسة البوهاوس ( Bauhaus ) الالمانيه:

اضافه الى مالفيتش وكاندنسكي ، ضمت الهيئه التدريسيه في مدرسة البوهاوس نخبه من المع الفنانين مثل بول كلي واوسكار شلمر ولاينول فايننكر وجيرارد ماركس. وقد ذاع صيت التجريد في اوروبا من خلال مدرسة البوهاوس وازداد الاقبال عليه ليتحول من مجرد اسلوب فني الى مؤسسه فكريه شامله صلدة القاعده. وتحققت اماني ونبوءة والتر كروبيس الذي اسس هذه المدرسه عام 1919 لتكون منبرا رئيسيا للفن وتطبيقاته في العماره والتصميم. وكان كروبيس قد استوحى المباديء الاساسيه لتاسيس هذه المدرسه من افكار وتأملات الفنان والمنظّر ادولف هولزل وتلامذته يوهانز ايتن واوتو شليمر والتي تجسدت بقول هولزل " ان من اهم مصادر الالهام الابداعي هي القابليه على فهم وتقدير المواد الطبيعيه والتكنولوجيا المتوفره واستيعاب الامكانات الهائله التي توفرها لاطلاق خيال الفنان". وبذلك اصبح كتاب لازلو مهولي نكي الموسوم "بحث في الميزات اللونيه والضوئيه للمواد الصناعيه" بمثابة الانجيل في جعبة كل طالب وكان الكتاب الاكثر رواجا وشعبيه بين الفنانين الشباب والابلغ تأثيرا في تحمسهم لتطبيقات الفن في الحياة العملية. وعبر انتقال المدرسه مرتين من وايمر الى دسو ، ومن دسو الى برلين ، ماتسبب ذلك في اختلاف قياداتها وتوجهاتها ، تحولت مناهج المدرسه تدريجيا لتصبح معهدا تكنيكيا للتصميم، وذلك قبل ان يغلقها النازيون عام 1933، ويتفرط طاقمها فيهاجر معظم كوادره من الفنانين الى الولايات المتحده الامريكيه.

التعبيـريه التجريـديه ( Abstract Expressionism ):

نشأ تيار التعبيريه التجريديه وتطور في الولايات المتحده الامريكيه امام خلفية كالحه من الوقائع والاحداث التاريخيه ذات الوقع الثقيل على نمط الحياة واتجاهات النشاط الثقافي. وكان في طليعة تلك الوقائع والاحداث الكساد الاقتصادي الامريكي العظيم، سياسة الصفقه الجديده لحكومة روزفلت، الحرب العالميه الثانيه ونتائج انتصار الحلفاء على دول المحور واندحار النازيه والفاشيه، وكذلك حلول عصر السلاح الذري وشبح الجحيم الاكبر. ولان الولايات المتحده كانت وسط هذا المعترك، كان لهذه الاحداث ابلغ الاثر على الوضع الفكري والثقافي واتجاهاتهما مما حتم على المثقفين الانتباه الى ضرورة مواجهة تحديات الساعه وحسم الخيارات الصعبه في خضم مقارنة بين مايجري وراء البحار وماهو عليه الحال داخل البلاد المقتدره الرافعة لراية الحريه والاستقلال والانفتاح الثقافي والتسامح الانساني. كان في طليعة اولئك المثقفين المنفتحين على العالم الخارجي والميالين الى الاندماج الثقافي، مجموعه من التشكيليين النشطين في نيويورك ضمت ولم دي كوننك، مارك روثكو، هانز هوفمن، جاكسن بولاك، اد راينهارد، ادولف كتلب، بارنيت نيومن، روبرت مذرويل، فيلب كستان، فرانز كلاين، وآخرين ممن جمعهم ليس فقط النشاط والحماس الثقافي ، انما التشابه العفوي غير المخطط او المتوقع في اساليبهم الفنيه وطروحاتهم الفكريه ، لاسيما في مجال فلسفة التكوين الفني وفهم جمالية اللوحه. وقد ساعد هذا التقارب الاعتباطي على تحويل "قرية كرينووج" ، الحي الصغير في قلب نيويورك، الى بؤرة ثقافيه لاشعاع التجديد والدعوه الى التغيير. وهكذا فخلال النصف الثاني من الاريعينات تركزت النشاطات وانتظمت الافكار والتقت الجهود الفرديه المستقله لتنصهر في وعاء واحد وتتبلورفي حركه فنيه مجدده يشجعها ويدفعها الى الامام وجود نخبه من المع فناني ومثقفي اوربا ممن استقروا في نيويورك بعد هربهم من جحيم الحرب مثل اندري بريتن ، مارك شاكال، مارسيل دوشامب، فرناند ليكر، بيت موندريان، ماكس ارنست، جان كرام، اندري ميسن، جاك لبشتز، روبرتو ماتا، ايف تانكي، وآخرين. اضافه الى ماشهدته نيويورك من مناخ مطرز بالوان الثقافات العالميه تجسدت بعروض وندوات ومحاضرات ومعارض لاعمال اصليه في التكعيبيه والوحشيه والدادائيه والسرياليه جنبا الى جنب مع معارض المحليه اللاتينيه والفنون التاريخيه الاسيويه والفطريه الافريقيه. وكان الناقد روبرت كوتس قد ابتدع اسم "التعبيريه التجريديه" ليطلقه على الحركه التشكيليه الجديده على الواقع الامريكي ، وذلك في مراجعته لمعرض الفنان هانز هوفمن عام 1946 التي وصف فيها ماامتاز به هذا التيار خلال سلسله من الاعمال امتد انتاجها من اواسط الثلاثينات الى اواسط الاربعينات.

في كتابه الموسوم " التعبيريه التجريديه: فنانوها ونقادها " المنشور عام 1990 ، يصف الناقد الفني الامريكي كلفرد روس الاسلوب المميز لفناني هذا التيار بأعتباره " خليط من تخطيطات التكعيبيه والوان الوحشيه ورموز الفطريه وتحدي السرياليه" على انه يشير بشكل خاص الى التأثير السريالي الكبير على التعبيريين التجريديين المتمثل بالاعتقاد الفلسفي العميق بأهمية الفرد ودور مايمور في دواخله في صياغة الضمير العام، ودور تراكم التجربه السرياليه في منح فناني التعبيريه التجريديه الشجاعه والجرأه لاكتشاف انفسهم واطلاق العنان لمشاعرهم وهواجسهم والسماح لها ان تبوح بأسرارها بصراحة غير معهوده تعبيرا وتمثيلا عن مشاعر وهواجس الاخرين. ويذهب روس الى تلخيص مآثر تيار التعبيريه التجريديه بحقيقة اعتمادها على "استحضار معاني ورموز الموضوعات بدلا من تشخيصها ، ومواجهة الواقع بدلا من الاكتفاء بوصفه الروائي"
وهكذا استمر نشاط التعبيريه التجريديه في المجتمع الامريكي لحوالي ثلاثة عقود من التطور والازدهار. ولكن خلال نهايات الخمسينات وبدايات الستينات بدأت القواسم المشتركه التي تربط اعمال اقطاب هذه الحركه بالانحسار التدريجي لتصبح اساليبهم فرديه متميزه مع احتفاظها بالملامح العامه للمدرسه التي ارتقت بالفن الامريكي المعاصر ودفعته للتعبير عن دواخل الشخصيه الامريكيه.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن