حوار مع نائل الطوخي في السفير اللبنانية: كلمة السر عندي إرباك القارئ

نائل الطوخي
naeleltoukhy@yahoo.com

2005 / 12 / 23

 كيف تقدم إصدارك إلى القارئ؟ كلمنا عنه.

 لفترة طويلة اجتذبتني المفارقات بكل عنفوانها، أعني تلك المفارقات البسيطة المصوغة بشكل شبه رياضي. هذا ما ميز المجموعة الأولى لي >، بخلاف الأعمال التالية لها والتي تشابكت فيها المفارقات والمجازات وتحولت إلى حلبات صراع دموية. كانت من أولى القصص التي كتبتها بهذا الشكل في المجموعة قصة <<الصليب>>، القصة التي تدور حول محمد عمر الذي يؤدي دورين في مسرحية: دور الصالب والمصلوب. يقف أمام الصليب ويسرد على الصليب والذي لا أحد معلق عليه لائحة الاتهام، ثم يصعد على الصليب ويبدأ في الدفاع عن نفسه أمام الفراغ. هكذا يتحرك بين الدورين بسرعة شديدة بينما يكون الراوي هو مشاهده الوحيد. تنتهي القصة نهاية بشعة، يقتل الصالب المصلوب، أي: يقتل أحد الدورين الدور الآخر. ويكون هذا عرضاً يومياً يؤديه محمد عمر بينما يشاهده الراوي. هكذا تعبر القصة عن فكرة رمزية تافهة: أن تكون الحاكم والمحكوم في آن. غير أن ما ينقذها من الوقوع في براثن رمز كهذا هو النهاية، هو الدم الحقيقي الذي يسيل وهو الانشطار الحقيقي الذي تحول إليه من يحاكم نفسه وتحاكمه نفسه في الوقت ذاته. بهذا يمكن التغلب على المجاز، على إحالته لواقع أكبر منه، وذلك عبر الإمعان في تصديقه، بهذا نرده إلى نفسه، ومن هنا تتولد الحيرة. شيء كهذا حدث في قصة تطابق، القصة التي يجهد الراوي فيها عقله كي يتذكر بمن يذكره جاره العجوز وفي جلسة يقول له وقد تذكر أخيراً <<هل تعلم أنك تشبهك كثيراً، وذلك إلى درجة التطابق تقريباً، فمك وأنفك وأذناك، كل شيء>>. ويبدأ الراوي في اكتشاف الظاهرة الغريبة التي تحدق به، أناس يقابلهم تتشابه ملامحهم مع ملامحهم إلى أبعد الحدود حتى لكأنها هي ذاتها. كانت المعادلات تصاغ في عقلي وقتها وكنت أدونها على الفور وكنت أسعد كثيراً بها، لم يكن لدي وقت ولا صبر ولا طول بال لكي أكسو أفكاري تلك غطاء من لحم ودم، كنت متعجلاً، أريد إعجاز القارئ بأسرع ما يكون، لذا جاءت بعض القصص كأنها أفكار فحسب، في قصة <<سرعات>> أتخيل عوالم مختلفة لكل عالم منها سرعة واحدة يتحرك بها الناس ويأكلون ويمشون، ومن مزيج عوالم كتلك جاء عالمنا الذي عد خليطاً مشوشاً لكل الأصول التي سبقته، كان طموحي وقتها أثناء كتابة المجموعة هو خلق عالم جديد تماماً، وليس التعبير، مهما كانت حرافته، عن عالم قائم حالياً، الخلق عندي عملية راديكالية، لذلك فشخصياتي بلا ملامح في هذه المجموعة، كأنها خطوط مجردة وكاريكاتورية، أحاول قدر ما أستطيع الاستغناء عن قوانين العالم القائم وخلق قوانين لي وتصديقها، وهو أهم من خلقها بالطبع. بهذا أصل إلى كلمة السر لدي: إرباك القارئ، أي جعله في منطقة لا يستطيع فيها تصديقي أو تكذيبي تماماً. أكثر ما تكون سعادتي عندما يسألني شخص بارتباك عن قصة ما لي قرأها ولم يستطع تصنيفها: هل هي قصة فلسفية أم درامية؟ فهذا يعني خروجي عن التصنيف التقليدي للقصص، بالإضافة إلى هذا فارتباكه يعني خروج مشاعره عن التصنيفات التقليدية للتلقي، يعني خلق المنطقة الجديدة التي أحلم بها.

ذائقة الستينيات

 ما رأيك بالمشهد الثقافي في مصر، والعالم العربي؟

 في مصر حركة نشر نشطة للغاية، غير أنها للأسف، وبغض النظر عن تركز هذه الحركة في القاهرة واحتراق سائر الأقاليم بمسارحها وفنانيها، فلا شيء مميزاً في هذا النشاط سوى كميته، وليس النوعية، تنشر الهيئات التابعة للدولة لأي شخص، مما ينتج عنه فيضان من الأعمال غالبيتها غير مقروءة لرداءتها، وبالإضافة إلى ذلك هي خاضعة للرقابة بشكل قاس تماماً، في المقابل فهناك دور النشر الخاصة وأبرزها بالطبع شرقيات وميريت، اللذين ينشران كثيرا من الأعمال الجيدة والهامة شريطة تقاضي الناشر مبلغا من المال من الكاتب مقدماً لضمان الربحية، ولا تفلت دور نشر كتلك هي كذلك من الرقابة التي تخف حدتها نسبياً مقارنة بهيئات الدولة. هذا كله يشير إلى أزمة رهيبة تحكم الثقافة المصرية والأدب الحديث خصوصاً، فهناك كثير جداً مما يكتب وينشر، ومع ذلك فلا شيء يضيف حقاً للذائقة الموجودة منذ الستينيات، أي يغيرها ويتمرد عليها. كمثال: يتجه كتاب الستينيات إلى إقحام الفانتازيا في أعمالهم محاكاة لماركيز وكونديرا، غير أن هذا الإقحام يظل مقحماً، لا يتخلل بنية العمل، عن طريق هذا الإقحام، يتم إعلاء قيمة العالم المتقدم أدبياً وتكريس التبعية التامة له، ويتم نفي أية أصالة عن أي توجه إبداعي نحو التغريب <<نسبة للغربة وليس للغرب>>. أي ان المسألة تظل في إطار الموضة، ولكونها موضة، فهي لا تمارس بكثير من الإخلاص، لا من قبل الكاتب ولا من قبل القارئ أو الناقد. هذا بالطبع يبرز في النقد، تداول مصطلحات كلها مستقاة من العالم الغربي، ثم الاكتفاء بالتداول كأن تداول المصطلحات هو ما سيعطيك الأهلية لأن تكون ناقداً حداثياً. باختصار ثمة ثقافة مظاهر تجمعنا جميعا في مصر، بدءاً من المهرجانات الدولية التي تقام كل ليلة على أرض القاهرة، بينما في الوقت نفسه نجد فيلم <<بوحة>> يتصدر الإيرادات، انتهاء بعدد الكتب التي تنشر وفي المقابل لا نجد أي كتاب يضيف أي شيء.

 إلى أيّ جيل تنتمي ومع من تتماهى فنياً منهم؟

 ظهرت متأخراً في الحياة الثقافية المصرية، ظهرت بعد أن تم تكريسي عبر الكتاب الأول لي بالفعل، أي انني لم أرتبط عضوياً ب<<جيل>>، وهذا شيء أرضاني تماماً، انعزالي عن مجايلي وارتباطي بقراءاتي ومن أحبهم، فأنا مثلاً مرتبط أدبياً تماماً بمصطفى ذكري ومنتصر القفاش اللذين ينتميان إلى الجيل السابق علي، ومرتبط أدبياً بطارق إمام ومنصورة عز الدين المنتميين إلى جيلي، هذه هي الميزة التي يقدمها لك كونك خارجاً عن الجيل، أن تختار جيلك بنفسك.

 لمن تقرأ من المصريين والعرب؟ الأجانب أيضا.

 يعاودني هاجس ما كثيراً، أن أغربل كل ما قرأته على مدى السبع والعشرين السنة الماضية من حياتي، أختار منه ما يرضيني الآن فقط، وأستثمر كل الوقت الذي كان ليتبقى لو لم أقرأ كل هذا الكم في عمل شيء مفيد أكثر، وليكن لعب ألعاب الكمبيوتر مثلاً. أكتشف كثيرا أنني قرأت أكثر مما هو لازم، وأكثر رداءة مما هو لازم أيضاً، ذلك أنني، وبشكل مستقل تماماً، اضطررت إلى اكتشاف عالمي الأدبي بنفسي، وإلى صياغة عالمي الكتابي بنفسي أيضاً، مع هنات وسقطات كثيرة للغاية، فالمسألة صعبة ولنتخيل طفلا يقف أمام بمكتبة باتساع العالم لم يقرأ منها كتاباً واحداً ولا يعرف أي شيء عن أي من كتبها ويريد أن يهتف بأسرع وقت: هذا الكتاب أحبه وهذا لا أحبه. الآن يمكنني القول انني أحببت بورخس وساراماغو للغاية، أحببت في فترة سابقة يحيى الطاهر عبد الله الكاتب المصري الذي توفي شاباً على الرغم من كونه يلعب في منطقة أخرى تماما غير التي ألعب فيها أنا: اللغة، أيضاً بدأت الكتابة مع حبي لزكريا تامر، وانتهيت في منطقة بعيدة عنه تماماً. في مقابل هذا، استمتعت بكتّاب عرب كثيرين للغاية، غير أنهم لم يضيفوا لكتابتي إلا أقل القليل. بالإضافة إلى الأدب أقرأ في الفلسفة كثيراً، ففي رأيي هناك قاسم مشترك بين الفلسفة والأدب اللذين أحبهما، ألا وهو عدم التزامهما بالحقيقة، أي اللعب ثم المزيد من اللعب لأجل إضفاء تعقيد أكبر على المتاهة المعقدة أصلا كما يصف بورخس وصفة الاستمتاع بالمتاهة، أحببت هذا في جاك دريدا للغاية، ورغبته المحمومة في وضع كل شيء في العالم تحت كشطة أو بين قوسين، أي: مساءلة كل شيء وعدم اتخاذ أي شيء منطلقاً يبني عليه نتائجه، هذه الرغبة المستحيلة في تدمير كل شيء استثارتني تماما. ولأنها رغبة مستحيلة فلا يمكن إلا استخدامها على أشياء وإغفال أشياء، وهو ما يمكن استغلاله في الخطاب السياسي بعدم إخلاص، ولكن الأمر يحتاج إلى واحد كدريدا، أي مفكر فقط، معزول، بلا انتماءات سياسية، لكي يكشفنا على هذه اللذة الرهيبة من اللعب، والتي تشابه اللذة الجنسية في أحيان كثيرة، أيضا ارتبطت ببيير بوريو وتماهيت مع كثير من أفكاره وتحليلاته التي يحلل فيها علاقات السيطرة والقوة رجوعاً إلى انتمائي الفكري إلى اليسار، كذلك أحببت حديث فوكو عن الجنون، وآليات مواجهته والعقاب عليه، أي تطهير المجتمع من كل ما يمثل مصدراً لعدم التجانس في داخله.
الرواية البديلة

 لماذا الترجمة عن العبرية تحديداً، ولمن تترجم؟

 أترجم عن اللغة العبرية منذ سنوات ثلاث في أخبار الأدب القاهرية، غير أنه، وعلى العكس من ميولي في بادئ الأمر، فلم أترجم عن الأدب الإسرائيلي من قصة وشعر ورواية وإنما عن الفكر، وعملت لفترات طويلة على اليسار الإسرائيلي المعادي للصهيونية، كان لهذا أثر بالغ علي فقد تعرفت إلى أنماط من التحليل غير موجودة في عالمنا العربي كما تعرفت لأول مرة على تيار الروايات البديلة، أي البحث عن روايات يصوغها الأضعف في محاولة لتحدي الرواية الرسمية التي تفرض عليه، وهو ما عمل عليه المؤرخون الجدد في إسرائيل، أي محاولة استكشاف الرواية الفلسطينية عن النكبة، عن <<حرب الاستقلال>> بالمفهوم الإسرائيلي. وهذا ما دفعني، في مرحلة تالية، وفي مفارقة كذلك، إلى الاهتمام بتيار كهذا ينمو على استحياء في مصر يعد أبرز مظاهره كتاب <<كل رجال الباشا>> للباحث الشاب خالد فهمي الذي يقدم رواية بديلة من وجهة نظر الفلاح المصري عن عصر محمد علي ويتحدى فيه الرواية الوطنية التي تم صياغتها عبر العصور السابقة.

 كيف ترى إلى العلاقة بين الثقافي والسياسي؟

 أملك تعريفاً واسعاً للغاية للسياسة، فهي في نظري محاولة لربط الشيء في سياق ما، وليس فقط النظر إليه وكأنه يحاكم من داخله فقط وهو الذي لا ينطبق إلا على الفن والدين بوصفه خبرة شعورية لا بوصفه أحكاماً، من هنا تكون أية محاولة للنظر في وضع المثقف، أية محاولة للمساءلة، أية محاولة لفهم النص على أساس غير تقني، أي لا ينبع من ذاته ومن تقنياته، أية محاولة لربط النص الأدبي بموضوع أو بواقع خلفه، هي سياسة. من هنا، وبشكل تطهري تماماً، يمكن أن ينتمي الفكر إلى السياسة، إلى محاولة تقديم رؤى عن كيفية صنع عالم أفضل، وهو نوع من الفكر مختلف تماماً عن الفكر اللعوب الخاص بدريدا والمنتمي إلى الفن أكثر. بينما الأدب عليه أن يبعد عن السياسة قدر ما يستطيع، ليس فقط لأنه يدمر نفسه بهذا المقاربة ولكن لأنه يدمر السياسة كذلك، يحولها من إمكانية الفهم والمساءلة إلى عالم مغلق على خبراته الشعورية، ولا يعد الفيصل فيها هو الإقناع وإنما مدى حرافة الكاتب في تصوير المشهد ومدى تأثيره على القارئ (عبر المشاعر لا عبر الأفكار). الأدب غير أمين ولا ينبغي له أن يكون كذلك. وتكمن روعته في عدم أمانته هذه، شريطة أن يظل داخل حدود نفسه، ولا يتعداها إلى غيره. أما السياسة فهي ما ينبغي أن يتمحور هدفها في محاولة صنع عالم أفضل، وليس أجمل بالضرورة، بغض النظر عن الأفكار المتباينة والمصالح الشخصية، من هنا على الأديب أو الفنان أن يلعب دوراً سياسياً لا بوصفه كاتباً بل مثقفاً، أو إنساناً، يكتوي بما يكتوي به الإنسان ويشعر بما يشعر به.
نائل الطوخي قاص مصري شاب صدر له: > ويكتب في المفارقات والشخصيات التي بلا ملامح، الكاريكاتيرية الى حد والتي تُربك القارئ من نحوها أو اشتباكها بين الفلسفي
والدرامي. عن إصداره وهموم ثقافية في مصر، جيله وترجماته حاورته في <<السفير>> الصحيفة و الشاعرة اللامعة عناية جابر.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن