عولمة العسكرة

علي عامر
ali.amer.h.h@gmail.com

2016 / 8 / 28

المقال الأصلي: The Globalization of Militarism
بقلم: إسماعيل حسن زاده.
ترجمة وتعريب: علي عامر
ساعد في الترجمة: هنا إرشيد.

مازال الكثير من الأمريكيين يعتقدون أنّ السياسات الخارجية للولايات المتحدة صُمّمت لحفظ السلام, ولحماية وحراسة حقوق الانسان, ولنشر الديمقراطية حول العالم. بصرف النظر عن أهدافها المعلنة رسمياً, فإنّ هذه السياسات تقود أحياناً لمخرجات عكسيّة: حرب, و عسكرة, و دكتاتوريّة. والدليل واضحٌ وطاغٍ على حقيقة أنّ صانعوا السياسية في الولايات المتحدة, لا يحفظوا ولا يحترموا القيم المثالية التي ينادون بها على الملأ. أولئك الذين مازالوا يحملون الأوهام حول فحوى السياسات الأمريكيّة عبر العالم, يجب أن ينظروا بوضوح, إلى حقيقة أنّ العصبة المالية العسكرية- الصناعية- الأمنية قد تجاوزت حدودها, تلك العصبة التي يتخفّى ممثليها في البيت الأبيض والكونغرس. الهدف النهائي لهذه العصبة, بناءاً على توجيهاتهم العسكرية الخاصة, هو الهيمنة الكاملة على العالم, ويبدون كامل الاستعداد لتمويل العدد من الحروب, وتدمير العدد من الدول, وقتل العدد من البشر اللازم لتحقيق هدفهم.
الصقور الليبراليون والمثقفون النقديون الصغار, الذين يميلون للدفاع عن السياسات الخارجية للولايات المتحدة, على أساس "حقوق الانسان" أو "الدوافع الأخلاقية", ساهموا بجلب الانتباه (من بين أدلة أخرى) لمستندات السياسة الامريكية الخارجية, والتي كُشف عنها مؤخراً من خلال تسريبات ويكيليكس, تُظهر المستندات "بشكل واضح جداً", على وصف بول كريغ روبرتس, "أنّ حكومة الولايات المتحدة كيان مزدوج, سبب وجودها الحقيقي هو السيطرة على كل البلدان الأخرى."
في الحقيقة, فإنّ المستندات تُظهر أنّه وبينما تقوم حكومة الولايات المتحدة, بدور عرّاب المافيا العالمي -في مكافئتها للنخب الحاكمة الطيّعة من الدول العميلة, بالسلاح, والمساعدات الماليّة والحماية العسكرية-, تقوم بمعاقبة تلك الشعوب التي يرفض قادتها الاستسلام لمطامح الفتوّة والعربدة الأمريكية, ويرفضوا التخلّي عن سيادتهم الوطنيّة. السياسات الخارجيّة الأمريكيّة, مثل سياساتها الداخليّة, تتكشف لا كخادمة للمصالح العامة الواسعة أو المصالح القوميّة للشعب, بل كخادمة للمصالح الخاصة القويّة الراسخة بشكل أساسي في رأس المال العسكري ورأس المال المالي.
يظهر عجز مهندسي السياسة الأمريكية الخارجية عن إدراك أو الاعتراف بحقيقة أنّ الشعوب والأمم المختلفة لها احتياجات ومصالح مختلفة واضحاً. وهم عاجزين أيضاً عن احترام تطلعّات الشعوب الأخرى في تحقيق سيادتهم القوميّة. عوضاً عن ذلك, يميل أولئك المهندسين, إلى النظر إلى الشعوب الأخرى, تماماً كما ينظروا إلى الشعب الأمريكي, من خلال المنظور الضيّق لمصالحهم الخاصة الدنيئة والوضيعة.
بتقسيمهم الأناني للعالم إلى أصدقاء أو دول تابعة وأعداء, كما وصفها زبيغنيو بريجنسكي, عمل المستفيدين الأقوياء من الحرب والعسكرة, على إلزام كلا المجموعتين (الأصدقاء والأعداء) بالشروع في مسار العسكرة, والذي يقود بدوره وبشكل محتوم إلى الحكم العسكري والاستبدادي.
على الرغم من كون العسكرة تنمو من الجيش, فإنّها تختلف عنه بخصائصها, فبينما يشكل الجيش (وسيلة) لتحقيق أهداف محددة, مثل حفظ الأمن القومي, فإنّ العسكرة تنظر للمؤسسة البيروقراطية العسكريّة الخالدة, (كغاية) في حد ذاتها. إنّها ظاهرة "حيث تضع الخدمات العسكرية الحفاظ على مؤسستها فوق تحقيق الأمن القومي, و حتّى فوق الالتزام ببنيّة الحكومة التي هي جزء منها".(The Sorrows of Empire, Metropolitan Books, 2004, pp. 423¬24).
هذا يفسّر النمو السرطاني والطبيعة الطفيليّة للعسكرة الأمريكية- هي سرطانيّة لأنّها تتوسع بثبات في أطراف عديدة من العالم, وطفيليّة لأنّها لا تكتفي بتجفيف مصادر الشعوب الأخرى, وإنّما تتعدّى ذلك نحو امتصاص الموارد القوميّة من الخزينة العامة ونقلها إلى خزائن المصالح الخبيثة المتجذرة في المجمع العسكري الصناعي الأمني.
تعزز الشركات العسكرية الأمريكية النزعات العسكرية في أماكن عديدة أخرى, عن طريق خلق الخوف وعدم الاستقرار, والقيام بمغامرات عسكرية أحادية الجانب.
إنشاء وتأسيس أحلاف عسكرية دولية في أجزاء مختلفة من العالم, هو جزء من الاستراتيجيا الأمريكية الرئيسية في توسيع تأثيرها الامبريالي والترويج للعسكرة حول العالم. هذا لا يشمل فقط منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) سيئة الصيت, الجزء الذي لا يتجزأ من هيكلية البنتاجون لقيادة العالم, والتي توسعت مؤخراً لتلعب دور شرطي العالم, وإنّما يشمل بالإضافة للناتو, 10 وحدات حربية متحدة تسمّى (الوحدات الحربية الموحدة). والتي تضم (أفريكوم: الوحدة الإفريقية), (سينتكوم: الوحدة المركزية), (يوكوم: الوحدة الأوروبية), (نورثكوم: الوحدة الشماليّة), (باكوم: وحدة المحيط الهادئ), (ساوثكوم: الوحدة الجنوبيّة).
تسمّى المنطقة الجغرافيّة الواقعة في"حماية" كل واحدة من هذه الوحدات الحربية الموحدة: منطقة المسؤولية (Area of Responsibility AOR). فمنطقة (الأفريكوم: الوحدة اللإفريقية) هي منطقة المسؤوليّة التي تشمل العمليات العسكرية والعلاقات العسكرية الأمريكيّة في 53 دولة إفريقية تغطّي كل افريقيا باستثناء مصر.
أمّا (سنتكوم: الوحدة المركزيّة) فتمتد لتشمل دول عديدة في الشرق الأوسط, والشرق الأدنى, والخليج الفارسي, ووسط آسيا. تشمل: العراق, أفغانستان. باكستان, الكويت, البحرين, قطر, الإمارات العربية المتحدة, عُمان. الأردن, السعودية العربية, كزخستان, كيرقستان, طجكستان, تركمانستان, اوزبكستان.
(يوكوم: الوحدة الأوروبية) هي منطقة مسؤولية تغطي 51 دولة وإقليم بما فيها أوروبا, و آيسلندا, والأرض الخضراء, و"إسرائيل: بالنسبة لمترجم المقال الكيان الصهيوني". (نورثكوم: الوحدة الشمالية) هي منطقة مسؤولية تشمل الجو والبر والبحر, المتاخم والمحتوى والمجاور للولايات المتحدة الأمريكية, ألاسكا, كندا, المكسيك, والمياه المحيطة لمدى يقدّر بخمسمئة ميل بحري (930 كيلو متر). وتشمل أيضاً خليج المكسيك, ومضائق فلوريدا, وأجزاء من منطقة البحر الكاريبي تشمل البهاماس, بورتو ريكو, وجزر فرجينيا الأمريكية. أما منطقة مسؤولية (باكوم: وحدة المحيط الهادئ) فتغطّي نصف المساحة السطحية للكرة الأرضية, تقريباً 105 مليون ميل مربع= 272 مليون كيلو متر مربع, تقريباً 60% من سكان العالم, 36 دولة, عشرين منطقة, وعشر أقاليم وملكيّات للولايات المتحدة الأمريكية.
أمّا (ساوثكوم: الوحدة الجنوبية) فمنطقتها للمسؤولية تحتوي 32 شعباً, 19 في وسط وجنوب أميركا, و 13 في الكاريبي, و 14 في مناطق وأقاليم أمريكية وأوروبية... إنّها مسؤولة عن تقديم تخطيط وعمليات طوارئ في وسط وجنوب أمريكا, والكاريبي, (باستثناء أقاليم وملكيات أو الكومونويلث التابعة للولايات المتحدة الامريكية), وكوبا, والمياه الإقليمية.
كل ذلك معاً, إضافة إلى 800 قاعدة أمريكية منتشرة في أجزاء عديدة من العالم, جعل هذا العملاق العسكري, يعبّر عن وجود مشؤوم ولا يحمد عقباه للقوّات المسلحة الأمريكية على وسع الكوكب.
عوضاً عن تفكيك (الناتو) كمخرج فائض عن الحاجة في فترة ما بعد الحرب الباردة, تمّت توسعته (كوكيل للطاغوت الأمريكي العسكري) ليشمل عدة دول جديدة, على طول الخط من شرق أوروبا إلى حدود روسيا.
لم يكتف بربط نفسه بمجموعة من العلاقات الدولية الجديدة, وتجنيد العديد من الأعضاء والشركاء الجدد, بل قام أيضاً بتوكيل نفسه في العديد من المهمات والمسؤوليات في قطاعات الاجتماع, والسياسة, والاقتصاد, والبيئة, والمواصلات والاتصالات حول العالم. مناطق المسؤولية الجديدة (للناتو), كما ظهرت في تصوّره الاستراتيجي الأخير (أخير نسبة لتاريخ كتابة المقال وليس تاريخ ترجمتها), تشمل "حقوق الانسان", "قيود رئيسية على البيئة والموارد", تشمل المخاطر الصحيّة, التغيّر المناخي, الندرة المائية, والاحتياجات الطاقيّة... "وسائل مهمة للاتصال, مثل الانترنت, وأبحاث علمية وتقنية, انتشار الصواريخ الباليستية, وانتشار الأسلحة النووية, وأسلحة أخرى للدمار الشامل, خطر التطرف, الإرهاب, والأنشطة المحظورة العابرة للحدود الوطنية, مثل الاتجار بالبشر وبالأسحلة وبالمخدرات, طرق اتصال ونقل وتوصيل حيوية, تلك التي تعتمد عليها التجارة الدولية, وأمن وازدهار الطاقة, القدرة على تجنّب, وضبط, والدفاع ضد والتعافي من الهجمات الإلكترونيّة, والحاجة للتوثق من وجود الحلف في المقدمة في تقييم أثر التكنولوجيات الناشئة.
وهكذا, فإنّ قضايا عالمية مهمة, نسبت لمهمات (الناتو) المتوسعة, سقطت منطقياً من صلاحيات مؤسسات مدنية دولية مثل الأمم المتحدة. فلماذا تستغل الطبقة الحاكمة الأمريكية الثريّة, (الناتو) لإزاحة الأمم المتحدة وهيئات دولية أخرى؟ لأنّه بصعود تاثير عدد من اللاعبين الدوليين مثل البرازيل, وجنوب أفريقيا, وتركيّا, وإيران, وفنزويلا, لم تعد الأمم المتحدة خادمة للمطامع العالمية للولايات المتحدة, كما كانت في السابق. التخطيط لتوظيف الناتو, تلك الماكينة الامبريالية العسكريّة, بدلاً من الهيئات المدنية متعددة الأطراف كالأمم المتحدة, يكذّب من جديد و بكل وضوح, إدّعاءات حسن النوايا للولايات المتحدّة, بخصوص سعيها لنشر الديمقراطيّة حول العالم. وأكثر من ذلك, فمسؤوليات (الناتو) العالمية المتوسعة, ستقدم بكل سهولة للماكينة العسكرية الأمريكية, أعذاراً جديدة تبرر بها تدخلاتها العسكريّة أحادية الجانب. وعلى نفس المنوال, فإنّ هذه المغامرات العسكريّة, ستوفّر للتوالف العسكري الصناعي الأمني في الولايات المتحدة, الأساس المنطقي للاستمرار في رفع ميزانيّة البنتاجون.
توسّع (الناتو) ليشمل معظم أوروبا الشرقيّة, دفع روسيا -بعد أن قلّصت نفقاتها العسكريّة خلال تسيعينيات القرن الماضي, على أمل أن تقوم الولايات المتحدة بفعل نفس الشيء, عقب سقوط جدار برلين- إلى زيادة انفاقها العسكري من جديد, في استجابة لرفع الولايات المتحدة إنفاقها العسكري, والذي تضاعف ثلاث مرّات تقريباً في آخر عشر سنوات (من 295 بليون دولار, عندما دخل جورج بوش البيت الأبيض في يناير 2001, إلى الرقم الحالي الذي يقارب تريليون دولار), روسيا أيضاً, زادت جذرياً من إنفاقها العسكري, خلال نفس الفترة المذكورة, (من 22 بليون دولار عام 2000, إلى 61 بليون دولار اليوم, بتاريخ كتابة المقال, لا ترجمتها).
بطريقة مماثلة, فإن تطويق الجيش الأمريكي للصين, (من خلال عدد من التحالفات العسكريّة, والشراكات, التي تمتد من باكستان, أفغانستان, والهند, إلى بحر الصين الجنوبي-جنوب شرق آسيا, وتايوان, وكوريا الجنوبية, واليابان, وكمبوديا, وماليزيا, ونيوزلند, ومؤخراً فيتنام) دفع الصين لمزيد من التعزيزات لقدراتها العسكريّة.
تماماً, ومثلما دفعت مطامح الولايات المتحدة العسكرية والجغرافية, روسيا والصين لتعزيز قدراتهم العسكرية, قامت ايضاً بدفع دول أخرى قسرياً لتعزيز قوّاتهم المسلحة, وتدعيم تأهبهم العسكري, مثل إيران, وفنزويلا, وكوريا الشماليّة.
لم تجبر العسكرة الامريكية العدوانية, خصومها على تخصيص حصص كبيرة من مواردهم العزيزة, وبطريقة غير متناسبة, للإنفاق العسكري فحسب, ولكنّها تُكرِه حلفائها للشروع بمسار العسكرة بطريقة. لذا, فإنّ دولاً مثل اليابان, وألمانيا, تلك التي تقلّصت القدرات العسكريّة عندها لوضعية الدفاع فقط, عقب فظائع الحرب العالمية الثانية, بدأت من جديد, في إعادة عسكرة قدراتها وتعزيزها في السنوات الأخيرة, تحت دفع ما يسمّيه استراتيجيو الولايات المتحدة "ضرورة تقاسم عبء الأمن العالمي".
لذا, فبينما تعمل ألمانيا واليابان تحت "ميثاق السلام", فإنّ إنفاقهما العسكري وعلى المقياس العالمي للإنفاق العسكري يقع في الترتيب السادس والسابع تباعاً, (بعد الولايات المتحدة, الصين, فرنسا, المملكة المتحدة, وروسيا).
عسكرة الولايات المتحدة للعالم (بشكل مباشر: عن طريق نشر أدواتها العسكرية عبر العالم. وبشكل غير مباشر: بدفعها الأعداء والأصدقاء للمزيد من العسكرة) لها تبعات مشؤومة وغير محمودة العقبى على الأغلبية الطاغية من سكان العالم. فمن جهة, هي مسؤولة عن تخصيص ضخم جداً وزائد عن الحاجة لموارد العالم الثمينة لصالح الحرب, والعسكرة, والانتاج المسرف والمبذر لوسائل الموت والتدمير. بوضوح, فكما يعمل تبديد الموارد غير الفعّال,والمنحاز طبقياً, على تجفيف المال العام, وتركيم الدين القومي, يعمل أيضاً على توفير الغنى الفاحش والكنوز الثمينة لمنتفعي الحروب وتجّارها, من أرباح الرأسمال العسكري والرأسمال المالي.
من جهة ثانية, ولتبرير هذا التخصيص غير المتوازن, بوضع حصة الأسد من الموارد القوميّة في صالح الإنفاق العسكري, فإنّ المستفيدين من أرباح الحرب, يعملون على صناعة الخوف, والشكوك, والعداء بين شعوب العالم وأممه, وبهذا ينثرون بذور الحرب, والصراع الدولي, وعدم الاستقرار العالمي.
من جهة ثالثة, وبنفس طريقة المستفيدين من الحرب ورأس المال العسكري الأمني في نزوعهم للترويج للشكوك, وصناعة الخوف, واختراع الأعداء, في الداخل والخارج, فإنّهم يحطّون من شأن القيم الديمقراطيّة, ويعززون الحكم الاستبدادي.
فكما تجد المصالح المالية العسكرية الصناعية الأمنية الضارية والمتوحشة في المعايير الديمقراطية من الانفتاح والشفافية ضرراً على أهدافها الدنيئة, في الاغتناء الذاتي اللامحدود, فإنهم قاموا بذكاء باختراع الذرائع للحكم العسكري, والأمني السرّي والدولة البوليسيّة, حيث يتطلب إخفاء السطو على الخزينة العامة بإسم الأمن القومي تقييد المعلومات, وعرقلة الشفافيّة, وتحجيم الديمقراطيّة. وبتأثير من اللصوص وأصحاب المصالح القويّة والمتجذرين في الصناعات العسكرية والأمنية والمالية, تحوّلت الحكومة الأمريكية إلى قوّة عالميّة مشؤومة, مزعزعة للاستقرار, ومعرقلة, ورجعية, ومستبدّة.





https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن