بطل الرواية الحديثة

سعد محمد رحيم

2016 / 8 / 17

أعلنت رواية (دون كيخوتة) لسرفانتس أفول نجم البطل الملحمي التراجيدي، والبطل الفارس، مثلما عجّت بنماذج منها قصص الفروسية في العصور الوسطى. ذلك البطل الشهم ذو القيم العالية، والذي يقاتل الأشرار ولا يُغلب.. كانت شخصية دون كيخوتة محاكاة ساخرة لكليهما. ومعها أفتتح سرفانتس عصر الرواية، حيث أمكن لشخصية اعتيادية من عامة الناس، ليست ذات أصل نبيل، أن تكون بطلاً، وأن تؤدي دوراً في حياة واقعية رسمتها المخيلة في نص سردي.
ولمدة طويلة أصبحت الرواية أشبه ما تكون بمرآة مستوية تعكس واقعاً تاريخياً يسير خطياً في الزمان، بأحداث معقولة تتشابك وتنمو في إطار حبكة ذات نسجٍ محكم كما في روايات بلزاك وستندال.. حيث كانت قوانين الواقع العياني المعيش تتصادى في المتن الحكائي للرواية، حتى وإن كانت الحكاية بشخصياتها داخل الرواية نتاج مخيّلة الروائي.
كان الاعتقاد السائد أن الرواية قادرة على تمثيل الحقيقة الموضوعية كاملة، وتصوير التجربة البشرية في شكل خيالي. حتى أن ستندال "وصف مرّة الرواية كنوع من المرآة التي تجول في الشارع، وتعكس الحياة حولها"ص106.
لكن الأمر اختلف فيما بعد، حين تمرّد الروائيون المحدثون على هذا المبدأ، مشككين بقدرة اللغة السردية على عكس الواقع بدقة صارمة، ومخضعين المرآة ذاتها للاختبار والمساءلة. وهنا وجب على الروائي، كما يرد في كتاب (تطور الرواية الحديثة)* لجيسي ماتز وترجمة الروائية لطفية الدليمي "أن يتعامل مع الواقع لا باعتباره حقيقة مفروغاً منها بل باعتباره إشكالية دائمة"ص107.
حلّ محل الواقعي ما أطلق عليه اصطلاح (الصدق الفني)، وتحدّث مفكر كبير مثل روجيه غارودي عن (واقعية بلا ضفاف) مؤلفاً كتاباً بالاسم نفسه، وموسِّعاً محور نظرته من الرواية التي اتخذ من كافكا مثالا من خلالها للتطبيق، إلى فن الرسم بمثال بيكاسو، والشعر بمثال سان جون بيرس.
فالحياة لم تتوار في الرواية الحديثة وما بعد الحديثة، لكنها باتت موضع تساؤل فيهما، تُفسَّر بمغزاها العميق، وأبعادها غير المرئية. ومنذ الآن لن يعود الشكل الروائي كما كان فـ "إذا كان الشكل الروائي السابق بدا في حاجة إلى النظام والكياسة، الانسجام والوضوح، فإن الرواية الحديثة ستعتمد بدلاً عن ذلك اللاانتظام الصارخ، والتمركز الطاغي حول الذات، والإرباك"ص114.
إزاء ما توصلنا إليه من شكل العلاقة وملابساتها المستحدثة بين الرواية والواقع، يكون من المنطقي القول؛ إن الشخصية الروائية في الرواية الحديثة ما عادت تشبه نظيرتها في الروايات الكلاسيكية، وكذلك في الأنواع السردية الأخرى السابقة للرواية. وهنا نجدنا نتحدث عن ذلك اللابطل بامتياز؛ الشخصية العادية، اللامنتمية في الغالب، والهامشية والمتمردة، والتي تصبح علاقتها بالآخرين والعالم ليست على ما يرام، ولا تدري إلى أين تمضي على وجه التحديد.. يقول ماتز في كتابه آنف الذكر: "الشخصيات في الروايات الحديثة لا تبدي أي سمات بطولية: إذ قلّما يُنظر إليها بتفرد أو على أساس امتلاكها لسمات فائقة، وقلّما تنجز هذه الشخصيات الكثير في الرواية، وإذا كان ثمة ما يمكن قوله بشأنها فهي في الغالب أسوأ من الشخصيات العادية ـ أقل جمالاً، وأقل إنجازاً، وأقل ذكاءً، وأقل قدرة من الشخصيات المتوسطة الإمكانيات على تجاوز المواقف الملتبسة"ص135. ولعل المثال الرائج بهذا الصدد هو رواية (يوليسيس) لجيمس جويس. يضاف إليها رواية (السيدة دالاواي) لفرجينيا وولف. "في الوقت الذي يحثُّ (ليوبولد بلووم/ بطل يوليسيس) و(كلاريسا دالاواي/ بطلة السيدة دالاواي) خطاهما في شوارع دبلن ولندن ـ يسمعان ويشاهدان معالم الحداثة ـ فإن ردود أفعالهما العادية يمكن تمثيلها في الروايتين بطرق تُرينا أشياء مدهشة عن العالم وعن الشخصية الإنسانية معاً. الحياة العادية تصبح غير عادية تماماً، وبطريقتها الخاصة، ويتبدّل مزاج الوصف في الروايتين فيميل لجعل بؤرة السرد الروائي أكثر تركيزاً على التفاصيل الدقيقة مع البلاغة المتسمة بالخشوع والدهشة والتكثيف التي يحتفظ بها السرد في العادة للأشياء العظيمة أو المُثل العظيمة""ص126.
راحت الرواية الحديثة تفكر بذاتها، تنشغل ببنيتها وطريقة تشكّلها، وقيمها الشكلية الجمالية إلى جانب انشغالها بالعالم الذي هو مرجعيتها الأولى.. بالزمان والمكان، وبالبشر وعلاقاتهم، من منظور يختلف عن ذاك الذي توسلته الرواية الكلاسيكية.. انزاحت الرواية عن اتجاه الزمن الجمعي الخطي ( القياسي) لصالح الزمن النفسي الفردي الحر المتعرج واللولبي.. واتخذ الحدث الروائي مساراً لا يرتبط بالزمن الكورنولوجي. وحلّ التجاور المكاني محل التجاور في الزمن. فهي إذن الرواية التي تعي ذاتها وتناقشها وتشاكسها، وإذذاك تعبِّر عن نسبية الحقائق وهشاشتها، وتكتظ بالأصوات المتعددة، وتحقق المبدأ الديمقراطي في آلية تكوينها. تؤسس لحياة بديلة وتطرح سرديات مضادة للسرديات التقليدية الكبرى المتعارف عليها. وتشرك القارئ في صيرورتها، ومديات أفقها الدلالي. فهي رواية بحث واستقصاء مثلما في الميتافكشن التي غدت بتعبير Mark Currie "الخط الحدودي الفاصل بين الرواية والنقد"ص298. والميتافكشن Metafiction هي مقولة الروائيين المابعد الحداثيين الأثيرة، والذين معهم "صار السرد ثيمة داخل الرواية ذاتها، وبات الكتّاب يشعرون أن من الأهمية القصوى الكتابة عن الكتابة ذاتها، والحكي عن الحكي القصصي ذاته،،، وهكذا غدت الرواية متعالية"295.
كانت الرواية تتويجاً فنياً متقدِّماً لفكرة الفردية التي طبعت فلسفات عصر التنوير والأنسنية والحداثة.. ولطالما شغل الأفراد المتمردون واللامنتمون والذين يصارعون أقدارهم الفضاء الروائي.. وحين ننظر في مستقبل الرواية لابد من التفكير بهذه الخصيصة للفن الروائي، حيث يبرز الفرد بكينونته الذاتية المستقلة والحرة، أو يسعى للفوز بها ضد ما يعوقها.. وبحسب ماتز؛ "إذا كانت الفردية Selfhood مقدّراً لها أن تسود العالم، مع هجرة الثقافات، وتزايد اختلاط الأفراد، وتعاظم قدرة التقنيات المعلوماتية والإعلام على تحويل العقل إلى شبكة معلوماتية، فسيكون من الخير لنا أن نحاول الحفاظ على تقاليد الفردية والمضي في مساءلتها واستكشافها بوسائل الرواية الحديثة"ص392.
*جميع المقاطع الواردة بين أقواس في هذه المقالة مستلة من كتاب (تطور الرواية الحديثة) دار المدى/ بيروت 2016.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن