ألمعركة القادمة

فريدة النقاش
AL-AHALY@YAHOO.COM

2005 / 12 / 18

تدهورت حركة التحرر الوطني في المنطقة العربية بدءا من هزيمة 1967، ثم بلغ التدهور ذروته بعد زيارة الرئيس الراحل أنور السادات للقدس وإعلانه أن 99% من أوراق حل قضية الصراع العربي - الصهيوني تملكها الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، ولم يكن هذا الإعلان مرتبطا فحسب بالقضية الوطنية والقومية وإنما كان يخص أيضا الخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت قد استقرت في المرحلة الناصرية وكان شعارها "تذويب الفوارق بين الطبقات" حيث يقود القطاع العام التنمية وتتوسع الدولة في تقديم خدمات التعليم والصحة والإسكان والنقل والرعاية الاجتماعية عامة.
وكان هذا المشروع الناصري قد دخل في أزمة عميقة بلغت ذروتها في الهزيمة العسكرية بينما عجزت القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في التطور الإيجابي لثورة 23 يوليو عن الدفاع عن مصالحها أو دفع المشروع إلي الأمام بسبب الطابع الاستبدادي للحكم، وفي نفس الوقت نجحت القوى الاجتماعية القديمة في تنظيم صفوفها ومساندة السادات في انقلابه علي التوجهات التقدمية لثورة يوليو، وهو الانقلاب الذي قاده إلى اعتبار أمريكا هي صاحبة الحل والربط عامة وليس في القضية الوطنية وحدها، وما إن حقق الجيش المصري انتصاره المحدود علي إسرائيل في حرب 1973 المجيدة إلا وبدأت سياسة الانفتاح الاقتصادي عام 1974 وبدأت منذ ذلك الحين مسيرة الانصياع لشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي أدت إلى زيادة قاعدة الفقر والبطالة والتبعية الاقتصادية - السياسية الثقافية للولايات المتحدة الأمريكية، وأصبح للمؤسسات الدولية مراقبون مقيمون لسياسات الحكم.
وفي سعيه لإضفاء مشروعية علي خياراته الجديدة تحالف "السادات" مع الجماعات الدينية في مواجهة اليسار الذي قاوم هذه الخيارات بكل قوة، وهي القوة التي جعلت الرجعية الملتفة حول الرئيس تطلق الشرارة الأولى للجماعات الدينية المسلحة في الجامعات المصرية وفي الحياة السياسية عامة، وتضاعفت الجرعة الدينية المحافظة في وسائل الإعلام والثقافة باعتبارها الوسيلة الفكرية الناجعة في مواجهة الفكر الاشتراكي عامة والماركسية خاصة التي كانت قد ازدهرت في ذلك الحين.
وتكاتفت عوامل كثيرة بينها الفقر واليأس مع الروح التجارية الاستهلاكية المرتبطة بالانفتاح الاقتصادي، وإطلاق شعار "أن الثقافة سلعة وليست خدمة"، وتصفية القطاع العام خاصة في السينما مبكرا جدا بعد توجيه ضربات قاصمة له وإفساده، وانطلاق فورة النفط بعد ارتفاع أسعاره إثر حرب أكتوبر، وبدء هجرة المصريين إلي دول النفط وهناك كانت الثقافة الدينية المحافظة تستقوي بوفرة الأموال وبالتحالف الوثيق مع الإمبريالية العالمية ضد الاتحاد السوفيتي ومنظومة البلدان الاشتراكية التي كانت قد أخذت تتفكك.
وفي داخل مصر كانت عملية استقطاب طبقي واسعة النطاق تجري علي قدم وساق لتبرز كتلتان - ولا أقول طبقتان - إحداهما محدودة عدديا أي أقلية ولكنها تملك الثروة ومفاتيحها، وقد أخذت تهيمن تدريجيا علي السلطة خاصة بعد إزاحة اليسار الناصري منها والزج به في السجون بعد انقلاب القصر، وكتلة أخرى تضم الغالبية العظمي من المصريين من عمال وفقراء فلاحين وموظفين وطبقة وسطى أخذت تتآكل بالتدريج تحت وطأة الإفقار، بينما كان القطاع الذي نجا منها من الإفقار إما أنه التحق بالأغنياء الجدد أو هاجر إلي الخليج.
وكما هو معروف تاريخيا كانت الطبقة الوسطى كعامل اجتماعي للوعي الحداثي تاريخيا هي التي قادت النهضة الفكرية ومشاريع التجديد سواء في المرحلة الليبرالية الأولى من بداية القرن العشرين وبعد ثورة 1919، أو حتي في ظل الناصرية ورغم تحولها أي الطبقة الوسطى إلي بيروقراطية.
وأفضت الديمقراطية الشكلية والتعددية المقيدة - جنبا إلي جنب استخدام الحكم القائم للدين لإضفاء مشروعية على كل سياساته التي أهدرت مصالح الكادحين عامة – إلى زيادة نفوذ جماعات الإسلام السياسي عبر هيمنتها الخفية أو المعلنة علي الجوامع والزوايا والمؤسسات الدينية بعامة، بينما جري تقييد القوي الديمقراطية والعلمانية وإضعافها وحبسها في قفص الشرعية المقيدة، ومن المفارقات المثيرة للتأمل أن القوي الموصوفة بأنها غير شرعية ومحظورة قانونا قد استفادت من عدم شرعيتها هذا وأصبحت بالغة الثراء بشكل لافت للنظر سواء عن طريق أموال الزكاة أو عبر العلاقات مع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين لأنها لا تخضع للمحاسبة.
وعبر الثراء استطاعت هذه القوى أن تحل تدريجيا في كثير من المواقع محل الدولة التي انسحبت من ميدان الخدمات العامة طبقا لروشتة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي فأصبح ارتباط الإخوان المسلمين بقطاعات واسعة من الجماهير الفقيرة عبر الخدمات الصحية والتعليمية التي يقدمونها رابطة إضافية إلى جانب الرابطة العاطفية الدينية التي استخدمت المشاعر الأولية البسيطة للمواطنين وتخويفهم من عذاب الآخرة.
وهكذا تمكنت الرجعية الدينية وفرضت سطوتها لتكون المعركة القادمة معها مركبة فكريا وسياسيا وعلي القوي الديمقراطية والعلمانية والعقلانية أن تستعد لها، وقد أثبت التاريخ أن الرجعية الدينية هي دائما الأشد قوة وبطشا.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن