بدايات طرح المسألة الثقافية بالمغرب

عبد الكريم اوبجا
oubejja01@yahoo.com

2016 / 7 / 28

- مجلة أنفاس (1966-1973)

انطلقت تجربة مجلة "أنفاس" باللغة الفرنسية في مارس 1966 فيما ظهرت نسختها باللغة العربية ابتداء من ماي 1971، و توقفت عن الصدور في المغرب في يناير 1972 عقب موجة الاعتقالات الجماعية، و استمرت بعد ذلك في باريس إلى حدود نهاية 1973، و قدمت نسخ من طبعتيها العربية والفرنسية خلال محاكمة الدار البيضاء في 1973 كأدلة إثبات ضد بعض المتهمين.

و تعتبر مجلة "أنفاس" منبرا لمجموعة من المثقفين و الشعراء و الأدباء و التشكيليين و السينمائيين الشباب المتحلقين حول عبد اللطيف اللعبي و أبراهام السرفاتي و نذكر منهم: مصطفى النيسابوري، محمد خير الدين، فريد بلكهية، أحمد البوعناني، عبد الكبير الخطيبي، محمد المليحي، محمد شبعة، محمد برادة و الطاهر بنجلون.

و ساهمت مجلة "أنفاس" في خلق ممارسة صحفية جديدة متجهة نحو تحليل الإشكاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. و تمثل هدف المجلة الأول في إعادة بناء الثقافة الوطنية والانفتاح على كافة أشكال التعبير الثقافي و الفني و الأدبي. و صارت المجلة مركز جذب ورافعة لحركة أدبية وفكرية فرضت نفسها في الساحة الثقافية والسياسية بفعل قوة خطابها، وظلت منفتحة لسبع سنوات من عمرها على التجمعات السياسية والملتقيات الثقافية الإقليمية و الدولية.

لقد كانت مجلة "أنفاس" منبرا إعلاميا مناضلا، فلم تقتصر على أن تكون فضاء للتعبير الثقافي و الفني و الأدبي لكن أضحت فاعلة في مجال الصراع الأيديولوجي والسياسي، باعتبار الثقافة لا يمكنها أن تنفصل عن السياسة و الاقتصاد و قضايا المجتمع. فالثقافة تلعب دورا محوريا في الصراع الاجتماعي و السياسي لتتحول بدورها إلى فضاء للصراع بين الإيديولوجية السائدة و إيديولوجية التغيير.

وقد جاءت مجلة "أنفاس" لتقدم إجابات و بدائل للوضع الثقافي المتأزم بالمغرب في مرحلة الستينيات و السبعينيات و تؤسس لثقافة تقدمية بديلة عن ثقافة التخلف و التجهيل السائدة في جميع المجالات، حيث صرح عبد اللطيف اللعبي أنه و بعد نصف قرن لازالت معطيات هكذا وضع قائمة و يظل المشروع الثقافي لمجلة "أنفاس" بدوره قائما.

كما قدمت مجلة "أنفاس" تحليلات جذرية عرت الوضع السياسي القائم في البلاد آنذاك و المتسم باستفحال الظلم و القهر و الفساد و الاستبداد. فكانت المجلة منطلق حركات سياسة يسارية جديدة تسعى إلى التغيير الجذري و نخص بالذكر منظمتي "إلى الأمام" و "23 مارس".

- الإشكال اللغوي و الثقافي بالمغرب منذ 1967

اعتبر علي صدقي أزايكو (1942 - 2004)، و هو باحث أكاديمي و مناضل أمازيغي، في مقاله "في سبيل مفهوم حقيقي لثقافتنا الوطني" و الذي اعتقل على إثره و سجن سنة 1982، أن الثورات التي قامت على أسس مادية هي ثورات ثقافية بقدر ما هي ثورات ضد البؤس و الاستغلال و التخلف. و أكد على أن ثقافات الشعوب أو الثقافات الوطنية تعاني من تهميش ممنهج من طرف الأنظمة القائمة والبورجوازيات الوطنية الصاعدة بسعيها لفرض ثقافة معينة.

فتطرق أزايكو لإشكالية التعريب التي قدمها مثقفو الحركة الوطنية كحل سحري للإشكال اللغوي و الثقافي و الحضاري بالمغرب لمحاصرة السياسة الثقافية و اللغوية الفرانكفونية. لكن الواقع بين بالملموس أن الهدف المقصود من شعارات التعريب ليس هو إحلال العربية محل الفرنسية و لكن الرغبة في محو لغة و ثقافة شعبية ثالثة هي الأمازيغية، بالنظر إلى أن اللغة الأجنبية مقتصرة فقط على النخب المحظوظة و ضمنها أبناء المدافعين عن سياسة التعريب.

كان هذا هو الطرح الذي تبناه قبل ذلك مؤسسو جمعية البحث و التبادل الثقافي كأول جمعية تهدف إلى إعادة الاعتبار للثقافة الوطنية و الدفاع عن الأمازيغية باسم الثقافة الشعبية في 1967. و بعد ذلك ظهرت الجمعية الجديدة للثقافة و الفنون الشعبية "تاماينوت" في 1978 و الجامعة الصيفية بأكادير في 1979 التي كانت ترمي إلى إزالة الركود الثقافي و إبراز الخصوصيات الثقافية عبر الدراسات والأبحاث الثقافية المقارنة وخاصة الثقافة الشعبية الإفريقية وثقافة شعوب العالم الثالث، لتتسع بعد ذلك دائرة الاهتمام باللغة والثقافة الأمازيغيتين و تتناسل الجمعيات الثقافية الأمازيغية، و ينطلق في 1991 مشروع حركة أمازيغية مطلبية بمخاضاتها و تعثراتها و انتصاراتها و انتكاساتها(انظر مقالاتنا التحليلية للوضع الراهن للحركة الأمازيغية).

- دينامية 2010

يشكو المشهد الثقافي بالمغرب منذ 2008 من غياب تصور واضح للثقافة والإبداع الفكري والأدبي والفني، فليست هناك أية إستراتيجية أو سياسة ثقافية واضحة لدى الفاعلين الثقافيين. و الدولة تضع الثقافة في مرتبة دنيا ولا توليها الاهتمام اللازم و لا تأخذ مطالب الحركة الثقافية مأخذ الجدّ، فأصبح المغاربة يعيشون في مرحلة من الإحباط الثقافي لا يمكن معها الحديث عن سياسة ثقافية بمعنى الكلمة.

و في 2010، ارتفعت وتيرة الاحتجاج على السياسة المتبعة من طرف وزير الثقافة بنسالم حميش، حيث تعالت أصوات مجموعة من المثقفين والكتاب و دعوا إلى إحداث مرصد للثقافة الوطنية بهدف النهوض بالثقافة المغربية وبالوضع الاعتباري للمثقفين والكتاب والمبدعين.

و وجه الكاتب والشاعر عبد اللطيف اللعبي نداء إلى كل المثقفين من أجل الانخراط في صياغة "ميثاق وطني للثقافة"، و المساهمة في النقاش من أجل النهوض بالثقافة المغربية. و اعتبر أن السخط العارم الذي انتاب المثقفين على إثر قرارات وزير الثقافة الجديد كانت له نتيجة إيجابية تكمن في انتعاش الجدل حول حقيقة الأوضاع الثقافية ورهانات الثقافة بالمغرب. فالوقت قد حان بالنسبة إليه لكي يحدد الفاعلون بكل وضوح موقفهم إزاء الحالة المزرية للواقع الثقافي و الإجراءات الواجب اتخاذها لمعالجة الوضع، فالجمود يقود إلى التقهقر و تهيئ التربة لتفشي وسيطرة النزعات الظلامية، والسبب في كل ذلك هو الضبابية التي أصبحت تعتري المشروع الديمقراطي في البلاد.

فدعا عبد اللطيف اللعبي في نداءه إلى "تقصي الأوضاع والحاجيات في ميادين التعليم والثقافة والبحث العلمي، و إنشاء البنيات التحتية من خزانات عمومية و دور للثقافة و قاعات سينما و مسارح و معاهد موسيقية و معاهد للتكوين و مركز وطني للفنون والآداب، و العمل على إنقاذ الذاكرة الثقافية المغربية، بالإضافة إلى تنظيم لقاءات في المؤسسات العمومية تسمح لمختلف الشرائح باكتساب معارف جديدة واكتشاف سبل الفكر والإبداع والتعرف على ثقافتها"، ثم دعا إلى "وضع برنامج وطني استعجالي للاستئصال النهائي لآفة الأمية وإطلاق مبادرة جديدة و حازمة لإصلاح التعليم".

و اعتبر شعيب حليفي، صاحب مبادرة "المرصد المغربي للثقافة" ذي التوجه الاحتجاجي، أن المرصد جاء "ليقطع مع فترة استعباد المثقف المغربي واستغلاله و إرشائه بل وتحويله إلى أداة تؤدي وظائف معينة ويتم الانتهاء منها بعد ذلك". فتمت مقاطعة أنشطة وزارة الثقافة خاصة المعرض الدولي 16 للكتاب والنشر في فبراير 2010 وتنظيم وقفات احتجاج موازية؛ و ذلك من أجل "مجتمع تسوده ديمقراطية حقيقية تقود نحو مجتمع مدني وحوار حقيقي حول كل القضايا، وعقلنة التدبير في مجالات النشر والتوزيع وتطوير البنيات الثقافية، والانفتاح على كل المثقفين وأسئلتهم الراهنة المرتبطة بالمجتمع، والاهتمام بكل الفنون والقطاعات والقطع مع ثقافة البذخ".

كما دعا المرصد كافة الجمعيات الثقافية إلى التكتل في تنسيقيات جهوية من أجل مواجهة الواقع المتردي والتعبئة لعمل تنسيقي على المستوى الوطني.

و نظم الغاضبون في أبريل 2010 النسخة الثالثة من معرض الكتاب المستعمل في فضاء مفتوح وسط الأحياء الشعبية، تحت شعار: "مغاربة الهامش". و على هامش المعرض عقدوا لقاءات احتجاجية حول "الاختلالات في المشهد الثقافي المتمثلة في غياب استراتيجية واضحة المعالم في تدبير الشأن الثقافي، وسياسة التفكيك والتفويت التي تعرفها العديد من القطاعات الحيوية في التراث والمتاحف، والإعدام المباشر لمديرية التنمية الثقافية والمجلات الورقية، والإفلاس على مستوى التعليم الموسيقي وتدهور بنياته، وفشل سياسة الدعم المسرحي ودعم الكتاب، والهيكلة الكارثية على كافة المستويات المركزية والجهوية، بالإضافة إلى ضبابية دور الصندوق الوطني للعمل الثقافي في تفعيل الحركة الثقافية، مقابل تنامي المهرجانات الطفيلية والحلقات والندوات الفولكلورية التي ميعت المشهد الثقافي، وانتعاش لوبيات الريع الثقافي قطاعيا ووطنيا".

إلا أن الملاحظ أن هذه المبادرة الاحتجاجية للمثقفين المغاربة التي انطلقت في 20 فبراير 2010 توقفت بقدرة قادر مع انطلاق الدينامية الشعبية التي أطلقها شباب حركة 20 فبراير في 2011 من أجل إسقاط الفساد و الاستبداد في سياق الحالة النضالية التي واكبت الربيع الديمقراطي بالمنطقة المغاربية و العربية. مما يؤكد على أن كل ما أقدم عليه مثقفونا سنة 2010 لا يعدو أن يكون مجرد ردود أفعال انتهازية و حسابات شخصية مع زميلهم الوزير بنسالم حميش، مما يدل على عدم امتلاكهم لرؤية واضحة و تصور استراتيجي إزاء المسألة الثقافية التي لا يمكن فصلها عن المسألة الديمقراطية و السياسة الاجتماعية بالمغرب.

فالمسألة الثقافية تعتبر في صلب المسألة الديمقراطية، إذ لا يمكن الرقي بالوضع الثقافي و فتح الآفاق للإبداع و صقل المواهب و ترسيخ قيم العدالة و المساواة و التعدد و الاختلاف بدون إرساء ديمقراطية حقيقية بجميع أبعادها السياسية و المدنية و الاجتماعية و الثقافية، و لن تكون هناك ثقافة بدون حرية، فالاستبداد يقتل الإبداع و ينشر الجهل و التخلف و يكرس ثقافة الاستلاب و الاستعباد. و في المقابل فالمثقف مطالب بالتخندق في جبهة المقاومة الفكرية و الثقافية و السياسية و السعي إلى تشييد المجتمع الديمقراطي المنشود.

كما أن العمل الثقافي في طور الانحسار جراء تعميق السياسات الليبرالية الجديدة التي فتحت الأبواب على مصراعيها للاستثمار في الثقافة و تسليعها (اقتصاد المعرفة)، أضف إلى ذالك توصيات صندوق النقد الدولي بشأن تقليص ميزانيات القطاعات الغير منتجة (تقلص ميزانية الثقافة بين 2012 و 2014)، و هذا هو محور العلاقة بين المسألة الثقافية و المسألة الاجتماعية، و سنفصل أكثر في هذه القضية عند تقييمنا للسياسات العمومية الثقافية بالمغرب.

--------------------------
هوامش:
- كنزة الصفريوي، مجلة أنفاس (1966-1973): آمال ثورة ثقافية بالمغرب، 2013.
- علي صدقي أزايكو، "في سبيل مفهوم حقيقي لثقافتنا الوطني" 1982.
- سعيد الباز، "هل الثقافة المغربية بخير؟"، 2008.
- عبد اللطيف اللعبي، "نداء من أجل ميثاق وطني للثقافة"، 2010.
- بلاغات المرصد المغربي للثقافة، 2010.




https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن