الفصل الثالث من الرواية: 2

دلور ميقري

2016 / 7 / 27

على رصيف الشارع، وقفتْ إذاً " الشريفة " لتودّع مخدومتها. هذه المرأة، المُثيرة الهيئة حتى عن بعد عشرين خطوة، ما لبثت ابتسامتها أن تجمدت على شفتيها الممتلئتين. كانت بدَورها قد ميّزت ملامحي وعرفتني. وها هيَ تومئ لأحدهم، متمتمة على الأرجح بعبارة تشير إليّ. فلم يكن بلا طائل، أن يعمدَ الحوذيّ إلى جعل العربة تدور على نفسها في الفسحة الضيقة لمدخل الشارع الفرعيّ. ومن ثمّ رأيتُ العربة تميل إلى الجهة الأخرى للشارع الرئيس؛ ثمة، أين كنتُ أنا جالسة على أحد مقاعد رصيفه. عندما مرّت العربة من أمامي على مهل، على وقع عجلاتها وخبب فرسيها، أبصرتُ خِلَل كوّة وحيدة في حجرتها " سوسن خانم " وهيَ تتطلّع نحوي بنفس نظرة الأمس، المنتبهة. على غرّة، سمعتُ صوتها الآمر يحثّ الحوذيّ على الإسراع. فما كان من هذا الرجل، العجوز نوعاً، سوى سَوْط الفرسين بعصاه الطويلة والنحيلة. تابعتُ تشييع العربة بعينيّ، وكأنني ما أفتأ أرى عينيّ تلك المرأة الجميلة والمتسلّطة. بلغ بي الوهمُ أيضاً، أن أعتبر مرورَ " سوسن خانم " من أمامي هوَ لمجرّد المناكدة. لم أنتبه عند ذلك، بأن العربة كانت قادمة أساساً من جهة المدينة القديمة. فيما بعد، سيتاح لي معرفة أشياء كثيرة عن مواطنتي الغنية، التي كانت آنذاك تسكن في جناح خاص بإحدى الإقامات القريبة من فندق " السعدي " الشهير.
لكأنما كنتُ أبحث عن قرينٍ ما لنفسي، رمزيّ؛ أنا من كنتُ مشغولة الفكر يومئذٍ بمشروع كتابة يومياتي. ذلك القرين، لم يكن " سوسن خانم " بكلّ تأكيد. لعله امرأة مغربية، نقيّة البدن وناعمة البشرة بفضل ملامسات بريئة من لَدُن العطارين ومدلّكات حمّام السوق، أسنانها ناصعة كأستها الأسطوريّ، فَوْعَة فرجها من الممكن أن تجتذبَ طائراتِ السيّاح لتحطّ فوق مُدرّجه الضيّق.. ربما هيَ امرأة، جاهزة دوماً لفتح رجليها بإشتهاء لأيّ رجلٍ جواد لا يُذكّرها ببعلها البخيل. في المقابل، فإنّ هذا الأخير قد يكون كريماً مع أيّ امرأة غير زوجته سواءً بالنيك أو المال. كلاهما كان ضجراً من الآخر، بل ومن كلّ قائمة العشاق المحتملة. وكلاهما كان لا يعرف الحبّ، طالما هوَ عطاءُ بلا مقابلٍ ماديّ: " الشريفة "، بحَسَب شهادة أخت زوجها غير الشقيقة، كانت جديرة أكثر بالشفقة نظراً لمعاناتها وهيَ مراهقة بعدُ من عذاب المتعة المقموعة.
هذه المرأة، كانت أسرتها تنحدر أصلاً من قبيلة الشياظمة العربية، المستوطن بعضها على ضفاف وادي أم الربيع في موغادور. الأسرة، سبقَ أن استقرت في إحدى نواحي مراكش بعد وفاة معيلها. ثمة، إذ كان " سيمو " يخدم كموظف في مصلحة تسجيل العقود الزراعية، فقد التقى أمرأته المقبلة عندما كانت هيَ في عُمرٍ ربيعيّ. مؤجر مسكن الأسرة، كان يريد رميَ أفرادها إلى الشارع بجريرة السمعة السيئة. قال " سيمو " للفتاة المشتكية، أثناء وجوده مصادفةً في رواق مركز الشرطة الجهوية: " لا يوجد قانون يبيح طرد عائلة من مسكنها بهكذا حجة تافهة ". كحقوقيّ، وموظف ذي شأن، استطاع الرجل أن يحل المشكلة دون أن يكلف الأسرة مالاً. إلا أنّ " الشريفة "، في مقابل ذلك، أضحت عشيقته الأثيرة. في واقع الحال، فإنّ مؤخرتها العظمى، المربربة والصلدة، لطالما كانت طبقاً من الشهد يلمّ ذكورَ النحل: " أمثال هذه المؤخرة، كانت لعروبيات يربينها بالسمن والمربى ووصفات العطارة. والأهم من كل ذلك، هو طريقة الجلوس على جانب لكي لا يذوب شحم المؤخرة بفعل ضغط الأعضاء العلوية للجسم! "، باحت لي صديقتي " خدوج " بالسرّ الإستاطيقي مرفقاً مع ضحكتها الخالدة.

***
ميقات القيلولة، أعرفه دونما حاجةٍ لساعة يد عادية، أو مذهّبة ـ كالتي تطوّق رسغ " خدّوج " الأيسر. ولكنني لا أبغي معرفة، ما إذا كانت الساعة أيضاً هدية من خطيبها. ما يهمّني، أن شقيقها " حمو " هوَ من تعيّن عليه إعلامي بالوقت بإغلاقه المحلّ وتوجهه للمبيت. فعلَ ذلك بعصبيّة، حتى أنّه وصلَ لسمعي قوياً، صدى أرتطام الغَلَق المعدنيّ بالأرضية. ربما أنّ قلة الرزق في يوم العطلة هذا، كان مصدر عصبيّة الرجل. أو قد يكون الأمرُ له علاقة بما جدَّ من مشاكل، عقب حضور حميه للفيلا وتمترسه فيها. هذا العجوز، تمّت السيطرة عليه نوعاً بعد إدعائه بأنّ ماله قد سُرق وتهديده باللجوء إلى الشرطة. " للّا بديعة "، المتحسّسة عادةً من أيّ فضيحة مُشابهة، كانت بدَورها قد أنذرت العجوزَ بإمكانية حجزه في مأوى عام ما لم يحاول ضبط نفسه. أُسقطَ بيَد الرجل، خصوصاً وأنه قد لحظ للفور بسمة ساخرة، جلية، على فم كلّ من " غُزلان " وشقيقها الأصغر. في مقابل ذلك، كان على المرأةُ الصارمة أن تنبري حالاً إلى السعي لمعرفة الحقيقة. فاحتمال كون السرقة فعلاً واقعاً، وليسَ مجرّد تلفيقٍ خبيث، كان حرياً أن يحوّل " للّا بديعة " إلى مخلوقة لا تُطاق، منفعلةً ومشوّشة أغلب الوقت. ذكرى غير طيّبة، كانت وراء كلّ ذلك القلق، المَوْصوف.
" خولة "، كبرى بنات زوجها، كان لها صلة بالقصة. كانت هذه موجودة في زيارة لمنزل أسرة أبيها، الذي كان آنذاك يعتلي هضبة تشرف على طريق فاس. الأسرة، كانت قد أنهت للتوّ حفلة صغيرة بمناسبة أسبوعيّة المولودة الجديدة؛ " خدّوج ". من بين هدايا الأهل والأصدقاء، كان ثمة حلية ذهبية جميلة؛ سوار مع سلسال، وقد نقش في صفحته الفيروزية حرفٌ دقيق بالأمازيغية على لون العقيق. " سُمية "، وكانت آنذاك قد أتمّت عقداً من أعوام عُمرها، أقسمت لاحقاً بأنها رأت أختها غير الشقيقة وهيَ تداعب الحلية لما كانت الأمّ قد توجّهت للحمّام بغيَة الوضوء. تلطّخ اسمُ " خولة " بالسرقة، ولو لوهلةٍ عن طريق الهمس لا الإتهام المباشر. بيْدَ أنها ابنة العشرة أعوام نفسها، من تكفّل بنقل الخبر فوراً إلى كبير الأسرة. إذاك، بدا أنّ البلدة قد أرتجّت بفعل وقع أقدام " السيّد الفيلالي " على أرضية المنزل، المُحَجّرة: " أولادي، من الممكن أن يمارسوا أيّ نوعٍ من الرذيلة تخطر لبال المرء الظَنون، إلا السرقة "، زأرَ كسبعٍ جريح بمواجهة امرأته. هذا الهياج، كادَ أن يتفاقمَ، فيؤدي إلى ما لا يُحمد عقباه، لولا أن عُثر على السوار بسرعة وعلى غرّة: ثمة، بأسفل قوائم الكونسول، المركون في حجرة نوم الزوجين، كان السوار متمدداً وهوَ يضمّ سلساله. الصفعة الشديدة الوقع، المُنهال بها الأبّ على وجه " سمية "، جعلت هذه الأخيرة ترقدُ أياماً في السرير. ولكنّ الصفعة الأولى على الكرامة، كان وقعها أشدّ ولا شك، وبقيَت منطبعة في نفس " خولة " لا يمكن أن تمحوها السنون. منذئذٍ، وعلى الرغم من براءة هذه الأخيرة، حلّ ضبابٌ كثيف على وشائج القربى بين الأسرتين.
إلا أنّ من الصعوبة بمكان، مثلما جرى على لسان " للّا بديعة " بصوتٍ مسموع، إثبات عدم وقوع السرقة في حالة أبي " غُزلان " طالما أنّ ماله بقيَ مفقوداً. مع أنه من السهل الأخذ برأي هذه الأخيرة، وعلى محمل من الجدّ؛ هيَ من كانت قد قالت منذ البدء بنبرتها اللاذعة: " ولِمَ سيقوم أبي أصلاً بجلب المال معه إلى بيوت الأغراب، ولا يدَعَه مكنوزاً في مكانٍ آمن بحماية الأفاعي والعقارب؟ ". بأيّ حال من الأحوال، سيُشكّل مجيء " الشريفة " إلى المنزل بهكذا ظرف نوعاً من الفضيحة لا بدّ أن تحسب له الأم حساباً يزيد من همومها. فمنزل " سيمو "، كان طوال عامٍ تلى وفاة أبيه مُستقرّاً عابراً لأفراد من الأهل، القادمين من ورزازات إلى مراكش لأيّ شأن من شؤونهم. وبالتالي، فإنّ امرأته من الممكن أن تلمّ بموضوع السرقة لتقوم من ثمّ بالإبلاغ عنه على مسامع أحدٍ من أولئك الأقارب، اللدودين. بصرف النظر عن حقيقة، أن هؤلاء كانوا يمحضون المرأة احتقارهم ويعتبرونها أسوأ من عاهرة تفتح رجليها بمقابل المال، ولكنهم لن يفوّتوا نشرَ هكذا خبر في كلّ مكانٍ يحلّون فيه. كان مُستغرباً آنذاك، من ناحيتي على الأقل، أن تكونَ سيّدة صارمة مثل " للّا بديعة " أكثر تسامحاً من الآخرين مع هذه المرأة ذات السيرة المشبوهة. عليّ كانَ أن أتفهّمَ عقلية سيّدة البيت في فترة تالية، لما صارت سُمعتي نفسها شبيهة إلى هذا الحدّ أو ذاك بسمعة تلك " الشريفة ".

***
أينَ مني قاريءٌ مُنصف، يتفهّمَ كلّ ما سبق لكي يربطه مع رغبتي في مغادرة الفيلا والاستقلال بنفسي مادياً ومعنوياً. الأمرُ، لم يكن متواشجاً فقط بحكاية السرقة. فإنّ سيّدة البيت، الطيّبة الكريمة، كان لا يعوزها نفاذ البصيرة لكي تُدرك في حينه بأنّ الحكاية قد آذت بشدّة ضيفيها الغريبين. فتوجّهت إليّ على مائدة الفطور، في اليوم التالي لواقعة السرقة، قائلةً وقد أظلمتْ عيناها بنظرة قاتمة: " أنتِ وشقيقك، خارج موضوع السرقة بكل تأكيد. إنني على يقين من خَرَف العجوز، وخبثه أيضاً، فعليكما ألا تشغلا نفسيكما البتة بهذا الموضوع ". قالت ذلك بغياب " فرهاد "، الذي كان على مألوف عادته ينسحب من حجرة السفرة بعيدَ تناوله الفطور في حال لم يكن ثمة ضيوفٌ. جميع من كانوا حول المائدة، بما فيهم ذكرُ الأسرة الوحيد، أبدوا عندئذٍ تأييداً لكلام الأم ـ كما عبّرت عنه عيونهم، التي كانت مُفعمة بالتعاطف والمرارة والحَرَج في آنٍ واحد.
كلّ تلك الأفكار، انتابتني وأنا جالسة على المقعد العام في العَرَصَة المجاورة. حوالي نصف ساعة، على أثر دخول " الشريفة " إلى الفيلا، رأيتني أنهضُ مُتأثّرةً خطاها الثقيلة. شعرتُ، وربما لأول مرة، بأنّ ثمة أفكاراً مفيدة أختزنها ولا بدّ من تسجيلها على الورق. لقد شعرتُ إذاك بحريتي، وربما أكثر من أيّ وقتٍ مضى مذ لحظة حلولي في هذه الحاضرة الحبيبة. العزلة، كانت ضرورية ولا ريب لأيّ كائنٍ يعتبرُ نفسه كاتباً. إنها طريقة فُضلى لإغناء الفكر، ومن ثمّ الشروع بالكتابة لا الاستسلام للكسل ـ كما كان دأبي حتئذٍ. لقد كنتُ دوماً على عزلةٍ بيّنة، هذا صحيح. ولكنها كانت عزلة مجانية، عبثية، طالما أنّ أفكاري وأحلامي ورؤاي كانت تتبخّر دونما فائدة؛ مثلما هوَ حالُ المطر تحت شمس مراكش، اللاهبة صيفاً. إلا أنني أعترفُ، على أيّ حال، بكون رغبتي في التحرر مادياً لا تقلّ عن تلك، الروحية. بل لقد رأيتُ في الأولى سبيلاً إلى ضمان الأخرى، والتي كانت دوماً هيَ هدف حياتي.
يقظةُ الرغبة بالكتابة، كانت قد جدَّت ولا غرو على أثر حضوري تلك الأمسية الأدبية.. رغبةٌ، طَفَت على سطح حياتي الروتينية الرتيبة، لكي تمدّني بطاقة التحرر مجدداً. تماماً كرغباتي الأخرى، وخصوصاً الجنسية، التي كان عليها أن تتفجّر بعد تعرّفي على " سيمو ". امرأة هذا الأخير، كانت الآن تجلسُ على مقربة مني في صالة الفيلا، خالية الفكر بالطبع من مكنونات أفكاري. إلا أنها لم تكن تخلو من بعض التصنّع، سواء أكان ذلك بمناسبة تعرّفها عليّ أو لكونها أمام أفراد الأسرة بعد قرابة عام من القطيعة. بين حينٍ وآخر، كانت تشملني بنظرة متفحّصة تجوسُ خِلَل خفّ قدمي صعوداً إلى قمة رأسي. تلك، لم أكن أدري أكانت نظرة إعجاب أم محض فضول. إلا أنني كنتُ مهتمّة أيضاً ببسمة مبهمة، تراءت لي على فمها المنفوخ الشفاه ـ ككلّ مريدات الغُلمة والشهوة. من ناحيتي، حقّ عليّ أن أعجب بهذه المرأة؛ هيَ المتألقة يومئذٍ بملبسٍ تقليديّ زاهٍ يكشفُ قليلاً مفاتن بدنها، وبزينةٍ مناسبة تُبرز محاسن ملامحها. إلا نظرة عينيها، عندما كانت تثبّتها في عينيّ ملياً وبكلّ برود ـ كما دأبُ الحيّة السامّة قبيل أنقضاضها على فريستها. عند ذلك، كانت تلك النظرة تجبُّ جمالَ " الشريفة ".. جمالاً، كان على زوجها أن يتفكّه بخصوصه أمامي في قادم الأيام: " إنه ذكرى من الغزاة البرتغاليين، الذين كانوا يغيرون على الساحل المغربيّ خلال الأزمان السالفة! ". ثمّ أضافَ، مُضفياً الجديّة هذه المرة على كلامه: " أسلاف قرينتي، لْعروبيين، لا يمكن أيضاً تبرئتهم. فإنّ التاريخَ، وحتى لحظة الاستقلال، كان قد وضعَ هؤلاء في خانة التبعية للإستعمار ".





https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن