الديمقراطية وبيئتها المفهومية(الحلقة 4)

منذر خدام
mounzer.khaddam@gmail.com

2016 / 7 / 26

الديمقراطية وبيئتها المفهومية( الحلقة 4)
منذر خدام
الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني .
لقد ذكرنا أن من ضمن التحولات التي طرأت على المجتمعات الأوربية مع انتصار الرأسمالية فيها انتقال الفرد من وضعية التابع إلى وضعية الإنسان الحر، من وضعية المنفعل إلى وضعية الفاعل مع كل ما يترتب على ذلك من حقوق واسعة اعترف له بها القانون.تتنوع هذه الحقوق كثيرا لتشمل طائفة واسعة من الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
ومنذ البداية كان لا بد من التفريق بين الحقوق ذات الطابع الإنساني العام والتي تحظى عادة باعتراف شامل تفرض على الأفراد وعلى السلطات احترامها ولها الأولوية من حيث الحاجة إلى الحماية القانونية علما أنها من فئة الحقوق القابلة للتطبيق، وبين نوع آخر من الحقوق التي تنتمي إلى حقل الأخلاقيات العامة، وتأخذ صفة المناقب والفضائل الحميدة ، لكنها غير ملزمة للتطبيق ولا يمكن حمايتها قانونيا، مع أنها قد تكون مرغوبة ومستحبة من قطاعات واسعة من المجتمع نظريا على الأقل.[1]
في الحالة الأولى تندرج جملة من الحقوق مثل الحق في الحياة والحق في حرية التعبير والتنظيم والتظاهر، والحق في المساواة أمام القانون..الخ.تسمى هذه الحقوق أيضا بالحقوق المدنية والسياسية ،أو الحقوق الطبيعية.أما في الحالة الثانية فتندرج قيم أخلاقية عامة مثل الصدق والشهامة والإخلاص…الخ التي لا يمكن النص عليها في القانون[2].
ومن الأهمية بمكان التفريق أيضا بين الحقوق المدنية والسياسية وبين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يفترض أن يتمتع بها المواطنون في البلدان الرأسمالية.بالنسبة للطائفة الثانية من الحقوق، أي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فإنها لا تأخذ صفة الإلزام ولا تستطيع الدولة ولا المواطنون تأمين الحماية لها، فهي مرتبطة بشروط حياة المجتمع ومستوى تطوره الاقتصادي والاجتماعي، وبدرجة الانقسامات الطبقية فيه. ومع أن هذه الحقوق تنص عليها دساتير أغلب البلدان الرأسمالية وتتضمنها وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي صدرت في عام 1948، إلا أنها غير ملزمة واقعيا.فالاعتراف مثلا بالحق في العمل لا يعني أن كل مواطن سوف تؤمن له فرصة عمل، كما أن الاعتراف بالحق في التعليم لا يعني أن كل طفل يولد سوف يجد مقعدا له في المدارس ..الخ.
تفرض الحقوق الطبيعية نوعين من الالتزامات على الآخرين: النوع الأول سلبي ويعني الامتناع عن سلب هذا الحق أو منع التمتع به. والنوع الثاني إيجابي ويعني الاعتراف بالحق وتامين شروط ممارسته. وعندما يمنح شخص ما حقا طبيعيا فهذا يعني منحه لكل شخص آخر، لذلك فإن الحقوق المدنية والسياسية تأخذ صفة العمومية عادة، مع الآخذ بعين الاعتبار بعض التشوهات والنواقص التي تحصل في الممارسة العملية نتيجة للطابع الطبقي للدولة الذي يعبر عن نفسه في بعض الأحيان بصورة سافرة.فهذه الحقوق ليست خارج الصراعات الطبقية،بل هي في صلبها رغم الاعتراف الشامل بها في البلدان المتقدمة على الأقل.أما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فلا تفترض أي نوع من الالتزامات خارج النص عليها في القوانين الأساسية للدولة.في الحياة العملية تشكل هذه الفئة من الحقوق الموضوع الرئيسي للصراعات الاجتماعية الطبقية، وهي وثيقة الصلة بمستوى التقدم الاجتماعي. ففي بلد مثل السويد تتأمن هذه الحقوق بصورة أفضل وبدرجة عالية بالمقارنة مع بلد من بلدان العالم الثالث ،أو حتى بالمقارنة مع بلد من بلدان أوربا ذاتها.
من جهتها الحقوق الطبيعية المدنية والسياسية لا تشترط بالضرورة مستوى معينا من التقدم الاجتماعي، لذلك فقد تجدها في بلد مثل الهند كما تجدها في السويد مع العلم أن الشوائب التي تعترض ممارسة هذه الحقوق تقل مع تقدم المجتمع وازدهاره.
من جهة أخرى المجتمع المدني مفهوم يشير إلى بنية مجتمعية انصهارية أعيدت هيكلتها ،تشكل فيها الطبقات والأحزاب والمنظمات غير الحكومية والنقابات والهيئات الأهلية المختلفة أشكالاً للوجود الاجتماعي مستقلة عن الدولة ،بل وتقف في مواجهتها دفاعاً عن مصالح أعضائها.في المجتمع المدني ثمة فصل بين ما هو خاص وما هو عام بحدود تميزهما دون أن يعني ذلك القطيعة الكاملة ،وكلاهما مستوعبان في إطار المجتمع وتحت سقف القانون.بهذا المعنى فإن مفهوم المجتمع المدني هو مفهوم تاريخي، ولد في إطار عمليات الانتقال إلى النظام الرأسمالي في أوربا، بلوره فلاسفة العقد الاجتماعي ،ليبلغ أوج نضجه وتطوره على يد هيغل.
المجتمع المدني يتحدد بدلالة الدولة،فإذا كانت الدولة بناءاً مؤسساتياً تنتظم علاقاته الداخلية جملة من القوانين والتشريعات،فإن المجتمع المدني يعبر عن العلاقات والتفاعلات القائمة بين المواطنين المؤطرين في تنظيمات مدنية دفاعا عن مصالحهم الخاصة.
يتداخل مفهوم المجتمع المدني كثيرا مع مفهوم المجتمع الأهلي مع انهما مختلفان في ظروف النشأة وفي الوظيفة الاجتماعية لكل منهما.المجتمع المدني ولد مع صعود الرأسمالية وارتبط بها ويتطور مع تطورها.تنظيمات المجتمع المدني تقوم على أساس الروابط المدنية الطبقية بالدرجة الأولى وبالتالي فهي تنظيمات أفقية.غير أن المجتمع المدني قد يستوعب بعض التنظيمات الأهلية القائمة على أساس العلاقات الشخصانية مثل التنظيمات العائلية اوالأقوامية . وظيفة تنظيمات المجتمع المدني هي الدفاع عن مصالح أعضائها في مواجهة الدولة . في سياق عملية الصراع هذه تبرز الوظيفة العمومية للدولة على حساب وظيفتها الطبقية دون أن تحجبها ،وتبرز أيضا الوظيفة المدنية العمومية للتنظيمات المدنية على حساب وظيفتها الخاصة.
أما المجتمع الأهلي فهو سابق على المجتمع المدني ويمكن ملاحظته في مجتمعات قديمة جدا. تقوم التنظيمات الأهلية من حيث الأساس على الروابط الشخصانية،مثل روابط الدم أو القرابة أو العقيدة وغالبا ما تكون تنظيمات شاقولية. تكمن وظيفة تنظيمات المجتمع الأهلي بالدرجة الأولى في تمايزها ودفاعها عن حدود هذا التمايز تجاه غيرها من التنظيمات الأهلية أو المدنية الأخرى وثانيا في دفاعها عن مصالحها تجاه الدولة وتجاه التنظيمات الأخرى في المجتمع .
يتداخل مفهوم المجتمع المدني مع مفهوم التنظيمات غير الحكومية. المجتمع المدني مفهوم أوسع ويشمل التنظيمات غير الحكومية وكذلك التنظيمات الأهلية.التنظيمات غير الحكومية تركز في العادة على بعد واحد وهو استقلاليتها عن الدولة، وقد تكون مستقلة عن الأحزاب السياسية وتتميز بالتماسك والاستقرار بالمقارنة مع تنظيمات المجتمع المدني.[3]
تتنوع كثيرا ميادين نشاط الجمعيات غير الحكومية لتشمل العديد من مناحي الحياة الاجتماعية، فهناك الجمعيات الخيرية وجمعيات رعاية المشردين ودور العجزة. وتنتشر أيضا المنظمات غير الحكومية في المجالات الخدمية، في مجال النقل والسكن والسياحة، وهناك أيضا الجمعيات الثقافية ..الخ.
المجتمع المدني لا يكون إلا باستقلالية الفرد وتمتعه بحريته، ومن خلال الاستقلالية وممارسة الحرية يمكنه أن يلتقي مع غيره في وعي ضرورة الدفاع عن حريته واستقلاليتهما مما يؤدي في خطوة لاحقة إلى ولادة مختلف التنظيمات المدنية المستقلة وظيفيا عن الدولة وعن غيرها من التنظيمات الأهلية أو غير الحكومية على قاعدة الاعتراف بضرورة الاختلاف والحق به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت
1-زيداني، سعيد " الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان في الوطن العربي " في "حول الخيار الديمقراطي-دراسات نقدية" ،( بيروت ،مركز دراسات الوحدة العربية 1994) ص171
2-زيداني،سعيد، المرجع السابق ص 172.
3-الباز، شهيدة " المنظمات الأهلية على مشارف القرن الواحد والعشرين- محددات الواقع وأفاق المستقبل "، ( القاهرة ،لجنة المتابعة لمؤتمر التنظيمات الأهلية العربية، 1997 ) ،ص40-43



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن