تخلَّ عن الأمل: الفصل الثالث

دلور ميقري

2016 / 7 / 25

" عبد المؤمن والمهدي..! "، كذلك كنتُ أفكّرُ حين شاءَ شاعرُنا الإيغالَ في تاريخ المدينة، وصولاً ربما إلى زمن قيامتها. عليّ كان أنّ أفكّر بسَمِيَيْ من أسسا مراكش الكبرى، كما نعرفها الآن تقريباً؛ أي الخليفة الدمويّ، " عبد المؤمن "، ومُلهمه ومعلّمه " ابن تومرت "، المُدّعي كونه المهدي المنتظر. كان عليّ أن أفكّر برحلة الأول، المُريد، التي ابتدهها من اقليم السوس في أقصى الجنوب الغربي، لكي يلتقي مع المعلّم المنحدر من ندروما، المستلقية في أقصى الشمال الشرقيّ بين رمال المتوسط وصخور الأطلس. هذا الأخير، كان إذاك يُبشّر بعقيدة التوحيد الأشعرية، القائمة على القياس والعقل لا البديهة والفطرة. الموحدون أولئك، كانوا بحاجة إلى جيشٍ مسلّح بهدف فرض عقيدتهم بالقوة، للحلول بمحلّ المرابطين ممن كانوا يعتبرون أنفسهم حماة المذهب المالكيّ ويحكمون باسمه البلادَ من عاصمتهم مراكش. هذه العاصمة، ما لبثت أن فتحت أبوابها للموحدين، الذين رفعوا على أسوارها رايتهم المُتمثلة برقعة شطرنج على خلفية بلون الدم: كان إذاً لقاء بين العقل والقوة؛ الحلم والفعل؛ القرطاس والسيف.. لقاء، جمعَ ولدين في اسمٍ مزدوج لحكاية تاريخية شبه أسطورية؛ " عبد المؤمن والمهدي ".
لم يكن بلا مغزى، أن أقرأ التاريخ في قصيدة، وذلك خلال وجودي على مقربة من ساحة سيدي بن يوسف، المُعدّة مركز مراكش المرابطية.. ساحة، سيندثر تأثيرها على يد الموحدين لصالح أخرى تقابل منارة الكتبية العظمى؛ ساحة جامع الفنا. ثمة إذاً، في رواق الفنون بالقرب من ساحة سيدي بن يوسف، كانت كلمات الشاعر تتدفق في سمعي جنباً لجنب مع صراخ الأجواء حولنا بعبق العطور الباريسية، النسائية.. كلمات، تُماهي بين حاضر هذه المدينة التائقة للحرية ولو بالتمادي في الإباحية، وبين ماضٍ مغلق داخل أسوارها الممتدة على مسافة عشر كيلومترات: كانت قصيدة ذات موضوعٍ فريد، منتقىً من إحدى اللحظات التاريخية للمدينة؛ لحظة، كان سيتقرر فيها مصيرُ " ابراهيم " ذي الأعوام الستة عشر بعيدَ قطع رؤوس أقاربه جميعاً. " عبد المؤمن " الفاتح الموحّدي، يشعر بالشفقة على شباب وليّ العهد المرابطي، وكان بسبيله للأمر بإطلاق سراحه عندما بادرَ أحد الحجّاب للقول: " أترغبُ بأن يكون في كنفكَ شبلُ أسدٍ سبقَ وقتلتَ والده؟ ".
هأنذا بدَوري أراوحُ قدميّ على رقعة الشطرنج، خلفي تاريخٌ دامٍ يمتدّ من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب.. خلفي زقاقٌ ضيّق من أزقة حيّ الأكراد الدمشقيّ، يتصل بممرٍ أسطوريّ مع جزيرة بوطان، وأبعدَ إلى جبال زاغروس؛ أين الحدود الشرقية لخارطة الوطن العربيّ، الموشومة بيد فلاح تحمل مشعلاً. ثمة، في تلك الجبال، ما تفتأ أسطورة " فرهاد وشيرين " متمثّلة بقصرٍ مدينةٍ ـ كشاهد على حكاية حبّ كردية ستنتحلها ملحمة " الفردوسي " الفارسية ومسرحية " ناظم حكمت "، التركية: والدنا، لكأنما أرادَ جمع مولوديه في اسم تلك الأسطورة، المزدوج.. والدنا، المجهول حتى الاسم، ومن دأبنا على تصديق نسبه النبيل مع علمنا أيضاً بأنّ الأم قد هربت منه عبرَ الحدود وهيَ مُحمّلةٌ بقماط يضمّنا نحن صغيريها.

***
في رواق الفنون، رأيتني في مراكش أخرى، تختلفُ ولا شك عن تلك، المشغولة بين ركعة صلاة وأخرى بالضغائن والصغائر. هناك، أين جمعت جدرانُ الصالة أناساً على صلة بالثقافة مع آخرين حبالى بالثروة، ودونما حاجةٍ لكليهما إلى تمثيل التقوى على صاحب سورة " اقرأ ".. صالة، لا تجرؤ المومسات الرخصات على الإتكاء على جدرانها الخارجية وكلّ منهن تأمل بصَيد رجلٍ محترمٍ بعلامة نظارته، وقبعته، وسيجاره، وسترته المُبرز من جيبها الأعلى منديلٌ أبيض، مُنكّه بعطرٍ يحملُ اسمَ مصمم الأزياء " ايف سان لوران ". هذا الأخير، لعلمكم أيضاً، تعرفتُ عليه عن طريق مواطنه " غوستاف ". لربما كان آنذاك ( أي على وقت الأمسية )، متحصّناً في قصره المراكشيّ، مُحاطاً بمومساتٍ أكثر رفعة. هوَ من دأبَ على الإقامة في مدينةٍ تعشّقَ شمسَها، وإباحيتها، منذ نحو عقدٍ من الأعوام. وأعني حكاية شرائه لحديقة " المهندس ماجوريل، " في غيليز، وذلك بغية استثمار نباتاتها النادرة وعمارتها الفاتنة في جذب الأوروبيين إلى وجهةٍ سياحية جديدة. أولائي المومسات، الأكثر رفعة، لم يكن بينهنّ بكل تأكيد " سوسن خانم "، الثرية السورية؛ التي التقيتُ بها إتفاقاً على أثر تعرّفي شخصياً بالشاعر صاحب الأمسية، وكان معها مرافقة مغربية فتية وفاتنة: كانَ لقاءً، متوافق المكان والزمن ـ كإحدى صُدَف دستويفسكي ـ سيُجيز لي ضمَّ شخصياتٍ جديدة لهذه السيرة الروائية.. شخصيات، لا بدّ وأن تُرخي ظلالها على الأبطال الآخرين ممن عرفتموهم من قبل في هذا السياق الحقّ، والمستحيل، في آنٍ واحد.
ولكنني لم أكن إبّان ذلك سوى مخلوقة مغمورة لا شأن لها، متعيّشة على موائد المُحسنين، وبغض النظر عن كوني لاجئة قد أُجبرتْ على تقبّل هكذا وضع. بيْدَ أنّ مصيري، على أيّ حال، لم يكن حتئذٍ أقلّ غموضاً من رمز العين المرسومة داخل كفّ مضمومة، والتي يدرأ بها المغاربة العينَ الحسودة.. ذلك الرمز، دائم الحضور في لوحات " غُزلان " المرقّشة بمهارة وتلقائية؛ وهيَ لوحات، كانت تباع بدراهم قليلة لصديق زوجها، الذي كان لديه ورشة للطباعة والنسخ في حيّ باب أغمات بالمدينة القديمة. أحلامي، كانت آنذاك شبيهة بواقع أولئك المواطنين، المتخوّفين ممن يحسدهم على بؤسٍ يغرقون فيه حتى أعلى أبدانهم الأبنوسية، وقد تركت العنايةُ الرسمية ( أو ربما الإلهية ) لكلّ منهم رأساً يطفو كي يتنفّس الهواء المجانيّ، علاوةً على أطرافٍ للكدّ والكدح. لم أكتشف ذلك البؤس، حينما كنتُ أعيش عالة على العائلة المُحسنة وفي فيلا رائعة صارت بالنسبة لي عالماً مغلقاً على الأحلام والرؤى. عليّ كان أن أكتشفَ فيما بعد الأحياءَ البائسة، الممرغة دروبها في الأوحال؛ الأزقة المتربة، الهائم فيها أطفالٌ ذوو أجسادٍ أوهى من ظلال أشجارها ساعة الهاجرة؛ المنازل شبه المتهدّمة، المحمرّ طينها كأعين أصحابها المُسهدين ليلاً بسبب الحر والحشرات المتطفّلة والرغبات الجنسية المتأججة. فيما بعد إذاً، أكتشفتُ كل ذلك، وأشياء أمرّ، لما أضحيتُ محظيّةً تحظى بدَورها بالإهتمام والتملّق ـ كعشيقها الملياردير سواءً بسواء.
" سيمو "، كان لديه مفاتيح أبواب الفردوس الأرضيّ، الموصدة. لكأنما تعرفه عليّ، غبَّ برودٍ وتجاهل من قبلي، هوَ من أتاحَ لمواهبه أن تبرز جليةً مثل ردف امرأته، الفاره. وبالتالي، انتقلَ في سرعةٍ ويُسر إلى مخادع ذلك الفردوس. فبصرف النظر عن محتدّه الكريم، وشهادته الجامعية، إلا أنه لم يكن قبلاً أكثر من رجلٍ يتعيّش من رشاوى تتيحها وظيفته الرسمية، البائسة.. رجلٍ متطفّل، يترامى على عتبات ذوي النفوذ والشأن من مواطنين وأوروبيين. مراكش، كان لها دائماً شأنٌ مع أولئك المتطفلين. فهيَ مَدينة الشحاذين، ممن كان أغلبهم بَطِراً لدرجة عدم ايلاء النظر إلى قطع النقود، المتساقطة في قصعاتهم المعدنية؛ مدينة، يتحوّل فيها أيّ متشرّد إلى دليل للسياح الأغراب أو إلى مرشدٍ للناس الموسرين، المُحتارين في أمر إركان سياراتهم بمكان مناسب؛ مدينة، يتناوب فيها بوّابو العمارات المنيفة على راحة قاطني الشقق المفروشة وقحابهم المجلوبات ليلاً من المقاصف أو أرصفة محطات القطار والأوتوبيس: هوذا بوّاب آخر، مختلف ولا مِراء، يستعدّ لفتح باب قصر " مسيو غوستاف " لزهرةٍ زاهية الحُسن، مورّقة بالأحلام والرؤى.. لضحيةٍ مترفّعةٍ عن الألم، تخطو إلى المسلخ وقد خلّفت في الطريق آثار دم عفّتها.

***
كلّ ما سبق، سيبدو للقارئ النابه وكما لو أنه مقدّمة لظروفٍ قادتني إلى فردوس الإنحراف والجريمة؛ إلى مدخل قصر المسيو الفرنسيّ، ثمة أينَ يَخفر البوّابُ " سيمو " كأيٍّ من بوّابي المدينة، القوّادين. قبل أيامٍ قليلة، كنتُ ما أفتأ حبيسة جدران داخلي الأكثر علواً من أسوار فيلا العائلة. في صباحٍ تلى ذلك اليوم، الشاهد على حضوري للأمسية الشعرية، عنّ لي الخروجُ إلى العَرَصَة المجاورة، التي يفصلها عن الفيلا الشارعُ ذي الاسم الملكيّ. محل الحلويات، كان مغلقاً في ساعة قيلولة صاحبه. الأم، ما عادت تهتمّ بالمحل منذ أن حلّ والد كنّتها في المنزل وما تبع ذلك من جرسة السرقة. رأيتني إذاً أقتعدُ على أحد كراسي الحديقة، بمقابل أسوار الفيلا. وكالعادة رحتُ أستعيد بعضاً من الماضي، وفي الوقت نفسه، أغمّق في تراب الذاكرة القسمَ الأشد ايلاماً منه. ثم انتقلتُ، وربما للمرة الأولى، إلى التفكير بوضعي الآنيّ: صبيّة شابّة، تحيا عالة على الآخرين مع أنها لا ينقصها الثقافة أو المستوى التعليميّ العالي، وفوق ذلك، يُشار إليها بالحُسن والرشاقة حالُ أيّ فرَسٍ أصيلة.
على حين فجأة، حصل شيءٌ أدعى للخراقة منها إلى المصادفة. عربة تجرها فرسٌ أصيلة، مزدوجة، تتوقّفُ أمام باب الفيلا المفتوح على الشارع الفرعيّ، المؤدي إلى الفيلات الأخرى المتباعدة عن بعضها البعض. العربة، كان فيها علامة غير مألوفة ميّزتها عن أمثالها من الكوتشي، التي تمرّ طوال الوقت في الشارع الرئيس. فبدلاً من أن تكون العربة مكشوفة السقف، أو ذات مظلة، فإنها كانت بحجرة مغلقة من الخشب، المُظهَّر بالديباج الأرجوانيّ الجميل. لقد كانت شبيهة نوعاً بعربات الكاوبوي، التي تصطفّ كلّ دزينة منها على حدة في ساحة جامع الفنا وتستخدم لبيع الأشربة أو النقول والفواكه المجففة. الشيء الأكثر مدعاة للعجب، هوَ أنني كنتُ قبل ذلك أنظر إلى الشكل الخارجيّ لعمارة هذه الفيلا، الغريب والغامض. لقد بدا لي أشبَه بأحد الجوامع الأثرية في المدينة القديمة؛ بنخلةٍ سامقة كمئذنة، وبأبراجٍ أربعة كقباب: إذاك، فكّرتُ لأول مرة بكتابة يوميات هذه الفيلا، التي كانت حتى ذلك الوقت هيَ كلّ ما أعرفه تقريباً من مراكش. فالأحداث المتواترة خلال شهر من إقامتي هنا، كانت تنبيءُ بأخرى خطيرة، وفي التالي، كانت تُغريني للشروع بالكتابة حالاً.
كان إذاً أحد أصباح الخريف، المُبقّع السماء بلمساتٍ من السحب المضاءة بزرقةٍ فاتحة اللون، والمدفوعة بريح خفيفة المحمل ـ كأيامنا سواءً بسواء، التي تدفعنا إلى هاوية العُمر بفعل قوّة ربانية أو شيطانية. وكنتُ لا أبرحُ أفكّر بمشروع اليوميات، أو السيرة الروائية، الممكن أن تحطّ يوماً بين أيديكم. في الأثناء، كانت العربة تلك متوقّفة أمام باب الفيلا، وكلّ من فرسيها البهيين، الرشيقين، كان براوحُ قدميه الأماميتين كتعبيرٍ عن الجذل والإمتنان لفرصة الراحة في هكذا نهارٍ معتدل. امرأة بمقتبل العُمر، ملفوفة بزيّ محليّ من ساقيها العاجيين وإلى أطراف شعرها الليمونيّ، ستنزل على الأثر من العربة بقفزة رشيقة لا تتناسبُ كثيراً مع مؤخرتها العظيمة. فما أن تلتفت إلى الخلف، لكي تحيي من كان قابعاً داخل غرفة العربة المغلقة، إلا وانتبهُ إلى كونها أليفة السحنة. نعم، كانت هيَ مرافقة المرأة السورية الثرية، التي ألتقيتُ بها البارحة مع هذه الأخيرة عند انتهاء الأمسية الشعرية. " الشريفة "، كنتُ بالطبع أعرفُ اسمها قبل أن ألتقيها. " خدّوج "، كدأبها كل حين وبكل مناسبة مشابهة، كانت هيَ من سبقَ ونثرَ شذراتٍ من سيرة امرأة الأخ غير الشقيق: " أولو أمر هذه المرأة لْعروبية *، زفّوها إلى سيمو بدون صداق لكي يتخلصوا من روائح فضائحها. والدي، في المقابل، أشتبه بأن أولئك الأهل قد ألزموا ابنه بالزواج تحت تأثير الأفيون والخمرة. فما كان من سيمو، المتأثر ولا ريب بغضبة الأبّ العارمة، إلا أن حلفَ أمامه بأنّ امرأته كانت عذراء ليلة دخوله بها ". ثم أردفت صديقتي وهيَ تطلق ضحكة طريفة، متسامحة: " أعتقدُ أنه لم يكن بوسعه أن يكذب، هوَ من وضعَ يداً مطهَّرة على المصحف الشريف! ".
> مستهل الفصل الثالث من رواية " تخلَّ عن الأمل "..
.................................

* أي أنها ليست أمازيغية



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن