مبدأ بوبر و الفكر الديني بإختصار

كمال آيت بن يوبا
kamalaitbenyuba@yahoo.com

2016 / 7 / 15

شعارنا : حرية – مساواة – أخوة
من أجل ثقافة عقلانية تنتمي لعصرنا
ذات مرة في المركب السياحي الهادئ والفسيح لمدينة المهدية الشاطئية التي تبعد 30 كيلومترا عن العاصمة الرباط شمالا سمعت أحد الشباب الذين كانوا جالسين بالقرب منا (كنا إثنين) يقول لآخر و هو يضحك : "أرايت الذي يُكَذب بالنظريات العلمية ، فذلك الذي يدق المسامير في نعش نهضته و تقدمه و لا يحث على التعليم العلمي الذي برفع الجهل والفقر عن مواطنيه "
فقلت له ممازحا "لكن بداية كلامك من الناحية النظرية غير صحيحة رغم أن التعليم العلمي و محو الأمية عن المجتمع واجب من بين واجبات أخرى للنهضة والتقدم و حق لكل مواطن لا تقوم شرعية الحكم و إدارة البلدان في القرن الواحد والعشرين إلا به .
فسأل: كيف أن بداية كلامي غير صحيحة ؟
فقلت له إن فلسفة العلوم الحديثة أي الإبستيمولوجيا épistémologie و أحد روادها في أواسط النصف الأول من القرن العشرين و هو كارل بوبرKarl popper يجيب عن سؤالك بأن النظرية أو الفرضيات التفسيرية لظاهرة طبيعية ما لكي توصف بالعلمية لابد و أن تكون قابلة للتكذيب réfutable بمعنى أن القابلية للتكذيب لأي فرضيات هو الذي يجعلها متماسكة و ليس التحقق منها بواسطة التجريب .كما أن التجريب يمكن أن يكذب أي فرضيات كما يمكن أن يؤكد أخرى .هذا المعيار يفصل بين ما هو علمي حديث و ما هو غير ذلك..حين يتعلق الأمر بالعلم التجريبي.
فقال لي أنه لم يعد يفهم شيئا ..
في هذه الأثناء عاد صديقي حيث كان يؤدي فاتورة مشروباتنا .وهممنا بالانصراف .واثناء ذلك قلت للذي قال انه لم يعد يفهم شيئا : إذا حدث أن إلتقينا مرة أخرى هنا فسنكمل الحوار ..و حييته و غادرنا ..و في الطريق شرحت لصديقي الحكاية .
لقد تذكرت ذلك الحوار اليوم حين كنت أتابع قضية العالم الفيزيائي غاليليو غاليلي في أحد الفيديوهات وهو العالم الذي عانى من قمع الكنيسة أو لنقل رجال الدين المسيحي للفكر العلمي من خلال محاكمته رغم كون الكنيسة اعلنت توبتها بقرون عديدة بعد موته .و كان هو أيضا مَن فصل بين العلم الحديث و الفلسفة من خلال المنهج العلمي الذي تبناه .و بعده بثلاث قرون يفصل بوبر بين ماهو علم حديث و ما هو شبه علوم أو غير ذلك .
يبدو لي أن كارل بوبر إستنتج مبدأه هذا ببساطة من سيرورة تكوين النظريات العلمية التي عاصر تكوينها أي من تاريخها الملئ بالكبوات و الأخطاء قبل وقوفها على رجليها ثم طبقه على مستقبلها مثلما يصلح التاريخ للحكماء لأخذ العبرة من دروسه.
ففاكنر Wegner في نظريته لزحزحة القارات مثلا أي تحرك القارات على سطح الكرة الأرضية بالنسبة لبعضها البعض و قبل إكتشاف المغناطيسية المحيطية أي الموجودة في قعر المحيطات كان يقول بأنه يجب تصور قارتين تتزحزحان تماما كقطعتي جليد محمولتين على سطح الماء لتفسير الظاهرة .و إكتشاف المغناطيسية المحيطية سيثبت أن فكرة ميكانيزم فاكنر أي الآلية التي يحدث بها التزحزح كانت خاطئة رغم كون زحزحة القارات كانت حقيقة علمية .
إذن كارل بوبر يضيف ببساطة لمهام الباحثين في العلوم الحديثة فضلا عن تفسير الظواهر مهمة أخرى هي الإنتباه لما يمكن أن يعيق هذا التفسير لاحقا أي كل ملاحظات أو تجارب ممكن أن تجعل تفسيرهم للظواهر الطبيعية شيئا خاطئا أي تجعل فرضيا تهم كاذبة .معنى هذا أن الشغل الشاغل للباحثين يجب أن لا يقتصر فقط على الجانب الممكن بواسطته تأكيد الفرضيات بل بالخصوص على جوانب تكذيبها أي على النقد الممكن أن يوجه لها .بعبارة أخرى يجب الإنتباه لكل ما يمكن أن يجعل هذه الفرضيات صامدة أمام النقد بالانتباه للنقد المحتمل نفسه .
و هذا هو ما قصده كارل بوبربالضبط من خلال مبدأ التكذيب .
إذن تكذيب الفرضيات العلمية ليس هو تكرارالقول بإصرار ببغائي " هذه الفرضيات العلمية أو تلك ليست صحيحة " مثل ما يحدث عندنا حول نظرية التطورالبيولوجي أو الإتيان بأقوال آخرين لم يفهموا النظرية بسبب أنهم ليسوا متخصصين في المجال أو أنهم لسبب ما يستغلون آخرين غير متخصصين ، و إنما من الناحية النظرية و البنائية يجب تصور ملاحظات أو تجارب ممكن أن تكذب الفرضية من طرف صاحبها نفسه .يستنتج منه أنه حين نقول "الفرضية قابلة للتكذيب" لا يعني أنها كاذبة وإنما ببساطة أنها يمكن أن تكون في سياق آخر غير قابلة للتطبيق مثل فيزياء الأجسام الكبيرة التي لا تصلح لفيزياء الأجسام الدقيقة .
هذا المبدأ يفترض ، طالما أننا لا نزال في محاولة تفسير الظواهر الطبيعية أي في منطقة الفرضيات ، إحتمال أن تكون أفكارنا عن الواقع مخالفة له.و بالتالي يجب طبقا للمبدأ (مبدأ بوبر) أن ننتبه أنه من الممكن جدا أن نكون مخطئين ولو كانت لدينا آلاف الأدلة على صحة فرضية ما.و هكذا تتقدم المعرفة البشرية التجريبية عن عالمنا الطبيعي .ومعنى ذلك أنه ليست هناك حقائق مطلقة أو يقين تام في الفكر العلمي في هذه المنطقة بالذات من مناطق البحث عن الحقيقة و تفسير الظواهر الطبيعية و تكوين افكار صحيحة عن هيكلتها..
و يكون إذن بوبر ، مثلما فصل غاليليو غاليلي بين العلم والفلسفة عن طريق تطبيق المنهج التجريبي ، قد فصل بين ما هو علمي و ما هوغير علمي بمبدأه الخاص .
و يمكن علاوة على ذلك نقد المبدأ نفسه أي مبدأ القابلية للتكذيب .وهكذا تتقدم المعرفة.يمكن ان نرى ذلك في مقال قادم.
إنما الحديث عن المبدأ الآن بهذه البساطة هو فقط لكي يفهم الذين ينطلقون مما يسمونه يقينيات لا تقبل النقاش بالنسبة لهم في الفكر الديني القديم المعذور اصحابه بجهلهم زمن طفولة البشرية القديم والمناقض للفكر العلمي الحديث الذي يعبر عن رشد البشر و تطور فكرهم.الفكر العلمي الحديث يقول لنا ان معرفتنا عن العالم نسبية وليست مطلقة .و بالتالي فأي كتاب أو نص ينطلق بكونه يقول الحقيقة المطلقة في مناطق للضباب و يمجد الايمان بالمجهول في اجزاء منه و ينصح بعدم طرح السؤال أو بعدم الشك في المفاهيم و إعادة قراءتها و مراجعتها أو بعدم تشغيل العقل الذي نعتقد انه هبة إلهية مثله في ذلك مثل الفكر العلمي الحديث ،فيجب الحذر منه.لأنه ليس حتى في مستوى الفكر البشري العلمي الحديث فمابالك أن يُنسب لقوة عظمى موجدة للكون.
و تحياتي للجميع .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن