العولمة كسيرورة إنتاج لسياسات الطرد والإقصاء الاجتماعي ..

محمد البورقادي
bourkadi.med@gmail.com

2016 / 7 / 5


إن العولمة في عصرنا الحديث بقدر ما ساهمت في تعبيد الحياة وتطويعها لتخدم الصالح العام ، بقدر ما أدت إلى تعولم الفقر والعنف وتدويل الظلم والقهر على العالم ،فهي سيرورة لكنها سيرورة مليئة بالتناقضات والمفارقات حيث أنها انحيازية تخدم مصالح الطبقات العليا وبالأخص الجهات المستعمِرة على حساب استنزاف ثروات البلدان النامية . فهي وفقاً لتحليل البعض تعني وصول نمط الإنتاج الرأسمالي عند منتصف هذا القرن تقريباً إلى نقطة الانتقال من عالمية دائرة التبادل والتوزيع والسوق والتجارة والتداول، إلى عالمية دائرة الإنتاج وإعادة الإنتاج ذاتها، أي أن ظاهرة العولمة التي نشهدها هي بداية عولمة الإنتاج والرأسمال الإنتاجي وقوى الإنتاج الرأسمالية. ونشرها في كل مكان مناسب وملائم خارج مجتمعات المركز الأصلي ودوله. وبالتالي هي رسملة العالم على مستوى العمق بعد أن كانت رسملته فقط على مستوى سطح النمط ومظاهره. إن ظاهرة العولمة التي نعيشها الآن هي طليعة نقل دائرة الإنتاج الرأسمالي إلى الأطراف بعد حصرها هذه المدة كلياً في مجتمعات المركز ودوله،وتعميمها لتشمل النسق العالمي بعد أن كانت محصورة في النسق القومي المحلي ،وبذلك كان لزاما لتصريف التضخم الحاصل من فرط الإنتاج عند تلك الأقطاب الصناعية الغربية لتحقيق أكثر الأرباح الممكنة .ولن يتم ذلك إلا بفتح المجال واسعا أمام حركات التدفق والتبادل العالمية بواسطة تحرير الاقتصاد والتنافسية على مستوى العالم ، ولن يستفيد من هذا التحرير إلا ما يعرف بالمتروبولات بتعبير بيير ڤيلز ، هاته المتروبولات هي عبارة عن شبكة عالمية من المدن ذات مستوى عال من التضامنات المحلية تستحوذ على جل رؤوس الأموال والإستثمارات والخدمات بما يتيح لها إمكانية أكبر لتوسيع أسواقها وبالتالي تركيز هيمنتها وقوتها وقيادتها على مستوى العالم ، تلك المتروبولات هي بمثابة أرخبيل ميڭالوبوليتاري يحوز على أكبر نسب الإنتاج واحتكارات الربح العالمية وينتج تبعا لذلك نوع من اللاتكافئات بينه ،"عن طريق شبكاته الاتصالية" ، وبين المدن الأخرى التي تفتقر وتهمش نتيجة لضعف احتكاراتها وقلة فرص استقطابها للخدمات ولرؤوس الأموال (بيير فيلز ، 2014) .
لقد كان للعولمة أثر كبير في سيرورة التحضر التي تعرفها المجالات الترابية على مستوى العالم والتي بقدر اندماجها في العولمة بقدر تحضرها وفي هذا السياق تجيب ساسكيا ساسين عن فرضية بناء هذا التحضر على مستوى المدن بما يعرف بالفصل المجالي ، وهو نوع من التقسيم الاجتماعي للمجال.هذا التقسيم يتجلى في ظاهرتين متوازيتين هما البرجزة الحضرية والتثنية الحضرية ، فالأولى تتواجد بكثرة في المدن الكبرى وهي مرتبطة اقتصاديا بارتفاع طبقة على حساب طبقة أخرى، ذلك أن الفئات الاجتماعية ذوي الدخل المرتفع تحتل مراكز المدن وتطرد منها الفئات الأقل دخلا ، أما الظاهرة الثانية ، فتتمثل في احتكار الطبقة العليا للمباني ذات القيمة العالية بما يضطر الفئات الهشة إلى قصد الهوامش المدينية .وبالموازاة مع ظاهرة البرجزة هناك كذلك ظاهرة التهميش الحضري الذي يتجلى في طرد الطبقات الشعبية من مراكز المدن وتجميعها في الضواحي ، بينما أصحاب الدخول المرتفعة يتمركزون وسط المدينة.فالعولمة ساهمت بحسبها عن طريق سياساتها المدينية في إقصاء وطرد الطبقات الفقيرة وحرمانهم من ثروات المجتمع وذلك جاء نتاج التحولات الراهنة للرأسمالية التي بقدر ما ساهمت في إثراء فئة بعينها بقدر ما أدت إلى القضاء على فئات أخرى ،وبقدر تضاعف مكاسب الفئة المحضوضة والتركيز الشديد والغير المسبوق لثرواتها، تتضاعف خسائر الفئات المستغلة ويزيد حرمانها وإقصائها من فرص الارتقاء الاجتماعي . وهذا هو مكمن النزاع والصراع المجتمعي الحالي ، فكل فئة تحاول أن تشن حرب على الأخرى ، الأولى مغزاها في ذلك حماية ثروتها والثانية تهدف إلى اقتسام تلك الثروات بما يحقق التكافل الاجتماعي والعدالة والمساواة (ساسكيا ساسين ، 2009).
وترجع ساسكيا ساسين السبب في ذلك بشكل خاص إلى تآكل الطبقة الوسطى، الفاعل التاريخي الأهم في القرنين الماضيين ومُوجّه الديمقراطية، وخالق التوازنات الاجتماعية والسياسية ،هذا الفاعل الاستراتيجي هو الآخر إلى زوال كنتاج لشره الرأسمالية المتوحشة ليتحول تدريجيا شأنه شأن الطبقة الفقيرة إلى جوكير لا اعتبار له .كما تعتبر أن العولمة ظاهرة حتمية لها إكراهاتها الضاغطة على مستوى العالم ، وبناء على ذلك ، يجب أن تضع كل دولة الخطط الكفيلة بإدارة الدخول في العولمة، لإحداث نوع من المساواة الاجتماعية من جانب، وحتى لا ينهار اقتصادها من جانب آخر.
لكنها وبالموازاة مع ذلك ، لا تنكر الدور الإيجابي للعولمة في إنعاش الإقتصاد العالمي ولكن تشيد بتخصيص جزء من الرقابة على السوق، عن طريق تحديث نوع جديد من التنظيمات والآليات لمراقبة السوق وليس السيطرة عليه، فالتنظيمات القديمة التي كانت تحمي الدولة القومية لم نعد بحاجة اليها الآن، وتعتقد بأنه مازال هناك أهمية لدور الحكومة في مواجهة قوة وتصاعد الشركات متعددة الجنسيات، فإسكان الفقراء وتوصيل الطاقة والكهرباء بأسعار مناسبة والرعاية الصحية وتوفير فرص العمل والتمثيل السياسى لهم لن تقوم به قوى السوق التي تسعى للربح، ولكن تحقيق ذلك واجب الحكومة في المقام الأول، حتى لو بالإستدانة. ويتجلى دور علماء الإجتماع بحسبها في محاولة تكوين شبكة عالمية للتواصل بين الناشطين والباحثين في أنحاء العالم لتطويع العولمة بما يخدم الفقراء والدول الفقيرة (نفس المرجع السابق)
أما أوليڤر مونڭان فقد تحدث عن ظاهرة المجتمعات المغلقة حيث أن هذه المجتمعات تقوم بالفصل بين الطبقات في الإقامة ، وقد اعتبر أن التعاضد لم يتحقق في المدينة ولكن ما تحقق هو العزل والفصل والعنصرية والميز الطبقي ، فالمجتمع المدني غير قادر على تحقيق نوع من الاستقرار والتوازن بين المحضوضين والمستغلين ، مما ساعد في القضاء على الطبقة الوسطى وأقام طبقات فقيرة تهدد السلم الاجتماعي، وتنشئ صراعات بهدف إدماجها واندماجها في سيرورة التحضر(أوليڤير مونجان ، 2014).
ويصور مايك ديڤيز من جهته لوس أنجلوس طليعة الرأسمالية كحضارة وهمية زائفة لأنها تعلي من شأن الطبقة النخبوية وتساهم في تفقير الطبقة الشعبية ، من حيث أصبحت السلطة في أيدي البيض "البروتستانت والأنڭلوساكسونيين " وأصبحوا يتآمرون على شن حرب ضد السود عن طريق محاصرتهم مجاليا وتعريضهم للقمع من طرف الشرطة ، كما تم فصل الأغنياء عن الفقراء بواسطة هندسة معيارية جديدة تهدف إلى الفصل التام بين الطبقتين مستعملة في ذلك ما يعرف بتسوير الضواحي ،مما أدى إلى تجميع المتشردين والفقراء في مناطق مكتظة بخلاف الأغنياء الذين ينعمون بالعيش وسط المدينة (مايك ديفز، 2006).
إن التباعد بين الطبقات الاجتماعية عبر وسائل الأمن المحكمة ، أصبح ظاهرة عامة تميز الصراع الطبقي في أرجاء العالم ، حيث إن الثراء الفاحش يقتضي دائما حمايته من غضب الفقراء والمحرومين ، الذين حتما سيظهر بينهم من لا يستطيع حل مشاكله إلا بالتعدي على ممتلكات الآخرين ومن هنا ازداد التسوير وازدادت الاحتياطات الأمنية وازداد معها العزل والفصل المجالي بين العشوائيات الحضرية والمناطق المسيجة (فيليب، 1995).
ولا ريب في أن انسحاب الدولة بكل خصائصها ،التوزيعية ، الحمائية ،الرفاهية ، الحارسة ، والعناية في المجتمع الحديث أدى إلى بروز القطاعات اللارسمية ، حيث انتشرت موجات الخصخصة لتواكب تطلعات الليبرالية الجديدة التي تفرضها المؤسسات الدولية المعولمة .وسياسيا يعد القطاع اللارسمي ، في غياب حقوق العمل التي تضمنها الدولة لمواطنيها ، عالما شبه إقطاعي قوامه العلاقات الزبونية والرشاوى والولاءات ، ومجالا يزيد فيه الاحتكار والاستعباد ،وتحتدم فيه الصراعات بين من يملك ومن لا يملك.إنها فعلا حرب الجميع ضد الجميع ، ولكن الحرب ضد الفقراء ، وقد بدأت منذ عقود طويلة ، حرب يكون فيها البقاء للأصلح بحسب منطق داروين ، والأصلح هنا هو من يمتلك الرساميل الرمزية والمادية والاجتماعية ، إنها حرب تتكالب فيها مؤسسات دولية كثيرة وحكومات خائنة وتشنها ضد المواطنين المحرومين من كل وسائل التمكين والعيش بكرامة .حرب بربرية تمثل النتيجة الطبيعية للثراء الفاحش الذي وصل إليه العالم ، والذي لا يمكن أن يتحقق إلا بالظلم والتفاوت الجائر في توزيع الموارد . وهي النتيجة الحتمية أيضا لسحب الدولة يدها عن إدارة الأمور اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ، والتحول إلى مجرد حكومة تمارس السمسرة ، وتنهب الثروات الوطنية ، وتجاهد لفرض الأمن واستمراره بأكثر الأساليب وحشية.
إن نظام العولمة الإنحيازي أسهم بكثير في خلخلة النسيج الاجتماعي وأعاد إنتاج النسق الاجتماعي وفقا لطروحاته وتصوراته وخطاباته التي تهدف نشر قيم الليبرالية الجديدة ، هاته العولمة التي بقدر ما أدت إلى نماء الرساميل المادية والرمزية عند الفئة النخبوية ، بقدر ما عمقت التفاوتات الاجتماعية للفئات الفقيرة مما أسهم في إنتاج مختلف التوترات داخل النسق الاجتماعي العالمي .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن