مهلا... سأبوح لكم بسرها

نهاد عبد الستار رشيد
nihada.rasheed@gmail.com

2016 / 6 / 27

مهلا . . . سأبوح لكم بسرها
قصة بقلم القاص نهاد عبد الستار رشيد

أقبل الأصيل في العاصمة الهندية ، نيو دلهي ، رطبا مثقلا بالضباب بعض الشيء عندما غادرت الفندق لشراء بعض المواد الغذائية . كان الرصيف مزدحما بالمارة ، وكنت ساعتذاك افكر في الحصول على اقامة دائمية في هذا البلد وأتطلع للمحلات التجارية العديدة على يميني . لمحت امرأة متقدمة في السن تجلس على عتبة صيدلية وتتفرس في وجوه الماره . وفجأة وقفت على قدميها وراحت تتطلع باتجاهي ، فأنتزعت نفسي من غمرة الشرود الذهني ، وتباطأت في السير ، ورحت اسائل نفسي قائلا : " هل تقصدني في نظراتها المحدقة ؟ "
أنشأت ادنو منها ، فاذا بها ترفع يدها طالبة مني الوصول اليها . نزلت عند رغبتها وامتثلت أمرها ، اذ لم أجد في نفسي الجرأة على رفض طلبها ، يدفعني في ذلك حب الأستطلاع لأستجلاء حقيقة أمرها . تقدمت نحوها بطيئا . كان مظهرها الأنيق يوحي بأنها من عائلة مترفة . أفتر ثغرها عن ابتسامة خفيفة قلقة ويبدو عليها شيء كثير من التعب وكان شعرها مسترخيا فوق كتفيها وقد ظهرت تجاعيد جبينها بوضوح ، ونظراتها اللطيفة كانت تستدر عطفي واشفاقي عليها . ما أن اقتربت منها حتى استقبلتني بتحية هندية ثم تنهدت نهدة طويلة وهمست في اذني وكأنها تهمس لي بسر بلغة انكليزية واضحة :
أبحث عن عمل شريف يغطي نفقات معيشتي وشراء الأدوية ، مشيرة الى وصفة طبية بيدها . كانت في صوتها امارات الخجل والذلة والأنكسار بادية في حركاتها وصوتها ، وكانت تفوح منها البراءة والطهارة ، ووجدت في كلامها حرارة الصدق . فعرضت عليها ان اقوم بشراء الدواء فأجابت في شيء من الأستحياء والخجل قائلة وهي تهز رأسها الأبيض :
 لست متسولة !
- " اقصد اني سأجد لك عملا وأستقطع ثمن الدواء منه ." أجبت على الفور ، وطمأنتها ورحت اطيب من خاطرها واهديء من روعها ، وانتابني شوق شديد لأطلع على قصة حياتها .
لمحت في عينيها غمامة تنبيء عن شعورها بالحزن . شعرت بشيء كثير من الشفقة تضطرب في احشائي نحو تلك المخلوقة الوديعة كان الأهتياج البالغ قد شرع يستبد بي وبلغ بي التأثر مداه ، وقد طفرت عبراتي كدأبي في عهد الطفولة .بدت كأن تشنجا قد استبد بنحرها . طلبت منها الدخول أمامي الى الصيدلية فأنبسطت أساريرها وأشرق محياها ، وشعت عيناها بنور الحبور ، وانسرى همها ، وتلاشى حزنها ، وفاض فؤادها بعرفان الجميل والتفتت نحوي ، وطبعت على رأسي قبلة وفية . أعطيتها عنواني ، ودعوتها لتناول العشاء معي .
كانت تحمل في دخيلة نفسها كل ما على وجه الأرض من طيبة . راعني ما رأيته من سمو خلقها وحصافة تفكيرها .
دخلت الصيدلية معها فاستقبلتني امرأة في متوسط العمر . أعطيتها وصفة الطبيب وسرعان ما جهزت الدواء ، دفعت ثمنه الغالي وسلمت الدواء للعجوز فشكرتني كثيرا واعربت عن شديد تقديرها وامتنانها لي قبل ان تغادر الصيدلية .
وطفقت الصيدلانية تسرد على مسامي ما جرى لها ولعائلتها قائلة وقد اكتسى وجهها بمسحة من الأسف :
-- " كانت عائلتها مترفة وفي قمة السعادة قبل ان يضرب زلزال قريتها ويدمر جميع املاكها ويقتل جميع افراد اسرتها ، زوجها التاجر المشهور واولاده . وكانت هي في هذه اأثناء في مستشفى ابولو في نيو دلهي
ولم تمض عدة ايام على سماعها الخبر المفجع حتى اصيبت بمرض السكر . ومنذ ذلك الحين تعيش بمفردها ، لا احد يسأل عنها او يشاركها متاعب الحياة . ثم سألتني قائلة :
 " هل انت هندوسي مثلها ؟ "
 " كلا . لست هندوسيا ولا هنديا .
 اذن ما الذي يدفعك الى تسديد ثمن الدواء ؟ "
 " الأنسانية . انها انسانه مثلي ، وأنا لا اميز بين الناس على اساس العرق او القومية او الدولة او اللغة او الدين او المذهب . "
 " من أي بلد أنت ؟ وما هو دينك ؟ "
 " أنا انسان أعيش على هذا الكوكب مثلها ومثلك ومثل الجميع . الدين بالنسبة لي هو ارتباط شخصي بين الأنسان والرب ،فلا ينبغي ان نجعل هذا الأرتباط الشخصي أساسا لمواقفنا السياسية او الفلسفية
كان الهلع قد جمّد الدم في عروقي قبل ان اغادر الصيدلية ، وانتابني شيء كثير من الحزن والكآبة جعلتني أنكفيء خائر القوى على عتبة الصيدلية وأخذت الدموع تترقرق بين أهدابي ورحت اخاطب نفسي قائلا : " انها لم تشعر قط في حياتها بمثل افتقارها الآن الى من يقف معها ويشاطرها متاعب الحياة ويواسيها في ما تبقى من حياتها . "
نهاد عبد الستار رشيد
نيو دلهي 2013



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن