الفن المفهومي في السينما والتصوير الفوتوغرافي

عدنان حسين أحمد
adnanahmed9@hotmail.com

2016 / 6 / 16

على هامش معرض "الحدث" الفوتوغرافي نظّمت جمعية التشكيليين العراقيين بلندن أمسية ثقافية بعنوان "المفهومية في السينما والتصوير الفوتوغرافي" شارك فيها المخرج السينمائي البريطاني من أصل سوري أنور قوادري، والمصور الفوتوغرافي العراقي حسين السكافي، وساهم في تقديمهما وإدارة الندوة كاتب هذه السطور.
لا يختلف الفن المفهومي الذي نعرفه في فن التصوير الفوتوغرافي عنه في السينما. ففي التصوير الفوتوغرافي المفهومي ثمة إعداد لثيمة الصورة وفكرتها قبل لحظة الالتقاط، أما في التصوير السينمائي فثمة تهيئة ذهنية ودراسة مسبقة للتصوير السينمائي الذي يعوِّل على ثنائية الضوء والظل في التصعيد الدرامي. فالصورة بالنسبة للمخرج السينمائي هي الأساس، وهي مثل اللوحة بالنسبة للرسّام، والكلمة بالنسبة للشاعر خاصة أو الكاتب بشكل عام.
انتقى قوادري فيلمين أساسيين من بين أفلامه الكثيرة وهما "كسّارة البندق" الذي أخرجه عام 1982، وفيلم "عبد الناصر" الذي أنجزه عام 1998، وهو يرى فيهما لمسات فنية واضحة تعتمد، ليس على الصورة حسب، وإنما على الصوت والمؤثرات الفنية الأخرى التي درَسها قبل أن يشرع في التصوير ليقدِّم لجمهوره شيئًا مختلفًا عن الأفلام السائدة والمألوفة في ثمانينات القرن الماضي.
أشاد قوادري بجيل السينمائيين الروّاد الذين قدّموا أفلامًا مذهلة بالأسود والأبيض وكانوا يلعبون بتقنيات الضوء والظل لكي يجسِّدوا الفرح أو الحزن، ويمسكوا بالإشراق والقتامة، وكانوا يبذلون أضعاف الجهد الذي يبذله المخرجون المعاصرون. ونظرًا لحاجة الناس بعد حربين عالميتين كبريين إلى الراحة والاسترخاء دخلت الألوان إلى السينما وكانت مصدر فرح ومسرّة وإبهار، كما كانت نافذة أمل للمُشاهد الذي عانى من ويلات الحروب، وتداعياتها الكئيبة. وفي الخمسينات والستينات استُعمل اللون في التصوير، وفي التصعيد الدرامي فابتدأ الرسم بالإضاءة تارة، وبالبكاميرا تارة أخرى وقُدمت أفلامًا مهمة مثل "رجل وامرأة" لكلود لولوش، و "قُبلات مسروقة" لفرانسوا تروفو، و "لورنس العرب" لديفيد لين، و "الحافلة البيضاء" لليندزي أندرسون. ثم توقف قوادري عند حقبة السبعينات حينما دخلت التكنولوجيا الحديثة ليقدّم المخرجون أفلامًا مُبهرة أدهشت المتلقين آنذاك.
ركّز قوادري في فيلم "كسّارة البندق" على مشهد الحفلة التنكرية وحاول أن يدعِّم المشهد دراميًا بواسطة الظل والضوء علمًا بأن التركيز كان منصبًا على شخصيتين أساسيتين، الأولى هي راقصة الباليه ناديا غاغارين "فينولا هيّوز" التي تحاول الهروب إلى لندن مُنشّقة عن الاتحاد السوفيتي آنذاك، والثاني هو المصوِّر مايك ماكان "باول نيكولاس" الذي يحاول التقاط صور لها كي يبيعها إلى الصحف التي تدفع أكثر. جدير ذكره أن الفيلم من تصوير بيتر جَسِب وبيتر سنكَلير. أما الموسيقى فهي من تأليف سايمون بارك الذي أضفى لمساته الواضحة على "كسّارة البندق".
أما الفيلم الثاني الذي توقف عنده قوادري فهو "عبد الناصر" وقد ركّز فيه على مشهد اعتقال المشير عبد الحكيم عامر من قِبل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وهو يرى أن هذا المشهد درامي بحت، وله دلالات عميقة، ويلخص تاريخ الأمة العربية الحديث. يوعز قوادري براعة هذا المشهد إلى الإضاءة، فضلاً عن الأفكار الخطيرة التي يتضمنها الحوار الذي استمده من كتاب "الانفجار" لمحمد حسنين هيكل. الفيلم من تصوير محسن نصر، وسيناريو وحوار قوادري، وإيهاب إمام وإريك ساندرز، وإخراج أنور قوادري الذي بات يُعرف بميله الكبير إلى دراسة اللقطة الدرامية، والاشتغال على الممثل، والمراهنة على المواهب الفنية الجديدة كما هو الحال مع خالد الصاوي الذي أسند إليه دور عبد الناصر وراهن على نجاحه.
يعتز قوادري بهذا المشهد الدرامي المؤثر الذي جمع عبدالناصر بعبد الحكيم عامر لما فيه من قوة في الإنارة والإعتام، وهو ذات المشهد الذي أعُجِب به المخرج اليوناني الفرنسي كوستا غافراس وهنأ القوادري عليه حينما شاهده في باريس.

الفن الصادم
ربما يتضح الفن المفهومي في التصوير الفوتوغرافي أكثر منه في التصوير السينمائي لذلك انصبّت مداخلة المصور الفوتوغرافي حسين السكافي على عدد كبير من اللقطات المفهومية لمصورين عراقيين وعربًا وأجانب، بعضهم شارك في المعرض، كما هو حال السكافي، وآخرين شاعت أعمالهم بين الناس منذ عشرات السنين. يعتقد السكافي أن الحرب العالمية الأولى جعلت الإنسان يملّ من كل شيء تقريبًا فلا غرابة أن تظهر مدارس وتيارات فنية مضادة للفن نفسه الهدف منها إحداث هزّة عند المتلقي الذي يبحث عن أشياء جديدة وصادمة مثل وضع شاربين للوحة "الموناليزا" ذائعة الصيت!
الحرب من وجهة نظر السكافي تشوّه الذائقة البصرية، وتتلف الذائقة السمعية، والبلد الذي يمرّ بسنة حرب يحتاج إلى عشر سنوات لإعادة تأهيله من جديد. إحدى الصور المفهومية يظهر فيها الإنسان مُدججًا بالآذان في إشارة واضحة إلى الثقافة السمعية عند هذا الإنسان الذي تحوّل كله إلى آذانٍ صاغية ربما تسترق السمع إلى أناس آخرين.
قد تختلف لغة الجسد من إنسان لآخر فرفْعة اليد قد تعني "صرخة" وكما يقول فرويد: "إن الإنسان يصمت لكنه يثرثر بأطراف أصابعه!".
من الصور الفوتوغرافية المهمة التي توقف عندها السكافي هي صورة "واحد وثلاثة كراسي" للفنان الأميركي جوزيف كوسوث حيث جاء بصورة كرسي خشبي حقيقي ثم صوّره ووضع الصورة على الجدار. وثبتّ على يمينه التعريف القاموسي لكلمة كرسي ليضعنا جميعًا أمام سؤال مهم مفاده: أيهما الكرسي؟ هل هو الكرسي الحقيقي، أم صورته، أم التعريف الذي استعاره من القاموس؟ والجواب من دون شك هو "التعريف المعجمي" الذي اقتبسه من أحد القواميس الإنكَليزية ولولا هذا التعريف لما كان لأحد أن يعرف معنى الكرسي الحقيقي.
على الرغم من الفن المفهومي قد ظهر في أواسط ستينات القرن الماضي إلى أنه يعود إلى عام 1917 حينما عرض دوشامب "النافورة" ووقّعها باسم R. Mutt وقد أثارت هذه "المِبْولة" نقاشات كثيرة ظلّت محتدمة لسنواتٍ طوالا.
عرض السكافي ثلاث صور لامرأة واحدة وسأل الجمهور عن الصورة المختلفة فأجابوا خطأً بأنها صورة المرأة ذات العيون الثلاثة بينما لعب الفنان تقنيًا على الشامة التي نقلها من الخد الأيمن إلى الأيسر ليقلب معنى الصورة كليًا فيحول اليساري إلى يميني والعكس صحيح. وأحالنا إلى رولان بارت الذي قال بأن "البداهة عنف" ذلك لأنها تعنِّف العقل وتُوقفه. فعندما يقول المُحاضر أن هذا "أمر بديهي" فهو يدعوك إلى عدم التفكير أو إيقاف إعمال الذهن.
من بين الأعمال المفهومية العشرة المُشاركة في المعرض توقف السكافي عن عمله المعنون بـ "التفكيكية" حيث وضع مفكّ ومفتاح براغي فوق كتاب "التاريخ والوعي الطبقي"، تأليف الفيلسوف المجري جورج لوكاش، وترجمة الدكتور حنّا الشاعر ليوحي لنا بأهمية العقل التفكيكي الذي يقف مقابل العقل التأويلي الذي يفسِّر لنا صاحبه الوقائع والأحداث على هواه.
ثمة أعمال فنية لفنانين لم يشتركوا في هذا المعرض مثل "الكرسيان المتعاكسان" للفنان جلال علوان وفوقهما فضاء ملبّد بالغيوم الدكناء في إشارة إلى القطيعة والنفرّة في لحظة الاختلاف. أما العمل المفهومي الآخر فهو للفنان باسم مهدي الذي قدّمه في معرض سابق مكرّس للبترول العراقي فثمة برميل نفط مثبت على أرضية وطأتْها أحذية الجنود المحتلين وفي داخل البرميل نجد حذاءً ملونًا لطفلة عراقية في إشارة واضحة إلى أن الانفجارات لا تخلّف سوى أحذية الضحايا، وسوف يكون الحدث أشدّ إيلامًا إذا كانت الضحية طفلة في عمر الورود.
وفي الختام لابد من الإشارة إلى أن صورة الفن المفهومي سواء في السينما أو التشكيل أو التصوير الفوتوغرافي لا تكتمل من دون المرور على أسماء إبداعية كبيرة لمعت في سماء الفن المفهومي نذكر منهم الرسّام الأميركي روبرت راوشنبيرغ، والفنان الأميركي البارع من أصل لاتيفي ميشا غوردن، والروماني إيزودور آيسو، والفرنسي إيف كلاين، والمصور الفرنسي هيبولايت بايرد، والمصورة والمخرجة الأميركية سندي شيرمان إضافة إلى فنانين آخرين لا يتسع المجال لذكرهم جميعا.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن