-قيام، جلوس، سكوت-: مسرح الهوية وتجديد القبلية الثقافية

ياسين الحاج صالح
yassinhs@gmail.com

2005 / 12 / 11

"قيام، جلوس، سكوت"
مسرح الهوية وتجديد القبلية الثقافية
صديقي المحامي والكاتب شعر بالمهانة الشخصية حين وقف، في نهاية مسرحية "قيام، جلوس، سكوت"، بين الواقفين، للنشيد الوطني والعلم السوري الذي رفعه ممثلو المسرحية. كان يشعر أنه "بُلِف" بأن أقحم في موقف يفترض أنه جليل في ختام عرض مبتذل، جماليا وأخلاقيا وسياسيا. المصادرة هذه ليس الوحيد، إنها حلقة واحدة في سلسلة مصادرات لها البنية ذاتها. فالحيلة الدرامية الرئيسية في "قيام... هي تحميل هجاء عدائي ومسف للبنان ما بعد 14 شباط على "تلطيش" أوضاع داخلية سورية من النوع المألوف في مسرحيات دريد لحام التي كتبها محمد الماغوط. فكما صودر العلم والنشيد لمصلحة عرض مسرحي منحاز، صودر أيضا برنامج التلطيش الماغوطي لمصلحة انحيازات سياسية وإيديولوجية ظرفية.
قبل ثلاثين عاما، كان التلطيش هذا لاذعا، لكنه مندرج في تكوين مسرحي يجعل من الأوضاع المنتقدة جزءا من نظام طبيعي، من نظام الحياة المعتاد، ينزع عنه شذوذه وغرابته، ليحيله موضوعا لضحك ترفيهي، يدفع الجمهور المتلقي إلى تحمله والتصالح معه بدلا من الاعتراض أو الاحتجاج عليه. الآلية نفسها اليوم، لكن يزيد في نزع الفاعلية النقدية للتلطيش الماغوطي رفع الجرعة الوطنية فيه (كان دريد لحام يصف مسرحه بأنه "وطني"، رافضا إطلاق صفة سياسي عليه). والوطنية في هذا المسرح وفي مجمل الثقافة التي يصدر عنها من الصنف الذي يقوم على أم المصادرات جميعا: مماهاة الوطن والنظام، الشعب والحكم. الوطني هنا إجماعي ولا نقدي في آن معا، مضاد للانشقاق والاختلاف و.."السياسة". مفهوم الوطنية هذا، المفهوم البعثي، يقصي الانشقاق الثقافي والمعارضة السياسة إلى موقع المشتبه فيه، المحتاج دوما إلى تبرير نفسه أو إثبات وطنيته.
ورغم أن وطنية الماغوط ودريد لحام قبل ثلاثين سنة عاطفية وإجماعية وعضوية، خاوية من الحقوق والحريات والمواطنة والتعاقد، إلا أنها كانت أصفى، وضميرها كان أقل تلوثا بالخوف وأدنى تشابكا مع تكوينات ومصالح جزئية ولاعقلانية. كان التماهي بين السلطة والأمة عارضا، يفسح المجال للسخرية والنكتة. التماهي، اليوم، تام لا يكاد يترك ولو ثقبا صغيرا تتسلل منه السخرية. النكات "السياسية" لمسرحية "قيام جلوس سكوت" نكات "وطنية" لا تنتهك إجماعا ولا تثير انشقاقا، تقيم في الهامش الآمن، بعيدا عن مواطن المحرم السياسي. رجل الأمن الذي يأخذ دكتوراه، أو شركة سيرياتيل والأسواق الحرة على الحدود اللبنانية والأردنية التي جعلت سوريا "مسورة بالحرية" من جانبيها، أضحت تعليقات داجنة، تصدر عن اعتبار نظام السلطة القائم طبيعيا وبديهيا. ويحظى النظام بتطبيع معزز من تعليقات ساخرة توجه إلى المعارضة، إلى مجموعات حقوق الإنسان، بما لا يترك خارجا لهذا الواقع، أو نافذة صغيرة للمقاومة والاحتجاج.
في ختامها، يلقن بطل المسرحية ومخرجها الجمهور الذي قد تكون فاتته "رسالة" المسرحية، عبر خطاب مباشر موجه إلى الرئيس السوري: "سيدي الرئيس، أرجو مشروعا إصلاحيا سوريا، بأياد سورية، بأجندة سورية، وإذا كان الموت فنموت شهداء. نعيش في سوريا. وإذا ما خلونا نعيش فنموت شهداء".
قبل قرابة 40 عاما قال عبد الله العروي، معلقا على مسرحية لعلي أحمد باكثير، إنه لا يمكن أن توجد دراما عربية حين تختم مسرحية باستذكار إرادة الله وقضائه وتصريفه للأمور. بالمثل لا مجال لمسرح اليوم في ظل هيمنة وعي لا إشكالي، يقرأ العالم كأنه كتاب مفتوح، لا غموض فيه ولا توتر ولا صراع. جوهر المسرح هو الصراع والتناقض، يموت حين يتحول مسرحا للهوية. هذا مسرح "وطني"، تربوي، مناسب لطلائع البعث، يستعرض وطنية قمعية وعقيما، طاردة في آن للمواطنين المستقلين وللمثقفين النقديين.
تنتهي المسرحية ويخرج الممثلون على الخشبة حاملين الأعلام السورية بينما يعزف النشيد الوطني. عبر هذا الختام يصادر العلم والنشيد لمصلحة فن هابط، غريزي و"ملتزم" في آن معا. كأن الوقوف هذا لفظة "آمين"، تبصم على كل حرف وكل كلمة وكل حركة أديت في المسرحية.
يخرج المشاهد مطعونا في ذوقه، ملوث الوجدان بهذا الخليط المتنافر من عواطف وطنية وتهريج خفيف وإثارة غريزية. ولفرط ما تكرر هذا المزيج في مسرحيات سورية (ومصرية) فقد تحول إلى تربية وثقافة، إلى وعي يجهل مدى بعده عن رقي الذوق ورهافة الحس وصفاء النفس. ويتكفل الإعلاء من شأن وطنية ماهوية، لا تعاقدية، بإسكات مطالب الذوق والحس والضمير.

ضغوط خارجية و...مواويل شعبية!
وإنما من "رسالتها السياسية" لا من قيمتها الفنية تستمد مسرحية "قيام، جلوس، سكوت" أهميتها. إنها بيان إيديولوجي محاب لوضع بعينه، مناهض لأعدائه. استدعاء الأخطار هو الاستراتيجية المناسبة لتمويه المحاباة: "عندما يصبح الوطن في خطر، حتى المعارضة يجب أن تتلاحم مع الوطن، وأن تظهر اللحمة الوطنية"، حسب محمود عبد الكريم الذي أعد المسرحية، محملا، كما قلنا، برنامج التلطيش الماغوطي المألوف نزعاته السياسية الخاصة، أو راصفا "بيانا داعما للموقف السياسي" الرسمي من عنده هو إلى جانب "موقف لاذع من الماغوط" (الحياة، 18/11/2005). وينسب مراسل "الحياة" في دمشق إلى المخرج زهير عبد الكريم قوله إن "النص الأول الذي قدمه الماغوط كان يضم ثلاث شخصيات هي الشاعر عرب وزوجته والمفتش الأمني الذي يحمل الاسم "أبو لبطة"، وهم يتحدثون عن "الهموم الداخلية" السورية. ثم جاء الكاتب عبد الكريم وأضاف شخصيات اخرى لتحكي عن الواقع الراهن وخصوصا العلاقة مع لبنان على ضوء تقرير ميليس وعن الضغوط الخارجية مع بعض المواويل الشعبية".
ذو دلالة أن المعد عبد الكريم الذي يطالب المعارضة أن "تتلاحم مع الوطن" يعفي السلطة من مطلبه هذا، مفترضا فيما يبدو أن تلاحمهما بديهي. يعيدنا هذا إلى وطنية الهوية والإجماع المحاربة، ويذكر بلغة الالتحام والتلاحم واللُّحمة التي لا يحيل إلى غيرها مدرك الوحدة الوطنية البعثي. والمضمر في المدرك العضواني هذا أن من لا يتلاحم ليس وطنيا، هذا إن لم يكن خائنا. ولعله من باب اللحمة والتلاحم، "التحم" مخرج المسرحية وبطلها الممثل زهير عبد الكريم مع العميد رستم غزالة على الحدود السورية اللبنانية في عناق وطني مشبوب، وقت كانت القوات السورية تنسحب من "القطر اللبناني الشقيق". عارضا صيغة أخرى من الرسالة ذاتها في بروشور المسرحية، يقول الفنان "الملتحم" زهير عبد الكريم: "حينما تكثر الذئاب.. وتتراءى الأنياب الحادة لا بد للمبدع أن يطلق الصوت محذرا.. منذرا.. غاضبا.. حبا لهذا الوطن الجميل تعالوا نطلق الصوت، صباح الخير أيتها الحرية". ترى، هل الحرية هي نفسها الحرية؟ والذئاب، هل هي الذئاب نفسها؟
العلاقة السورية اللبنانية التي يمكن ان تكون مادة لتراجيديا ترتفع بالذوق والوعي تحولت مناسبة لاستعراض القبائل نفسها وتمجيد ذاتها على يد وعي يقيني مكتف بذاته، مرتاح من أي قلق.

المزيج الذهبي
تدمج المسرحية المزيج المعتاد من الغرائز الوطنية والجنسية (قليل جدا من الغريزة الدينية، خلافا مثلا لمسرحية "ليلة سقوط بغداد" لهمام حوت التي عرضت في المسرح نفسه العام الماضي)، ضمن قالب تهريجي معتاد هو الآخر. منذ البداية نسمع موالا يريد أن "يشوف فلسطين وبغداد بإيد العرب". قد نحمل المسرحية أكثر مما تحتمل إن قلنا إن البرنامج الوراثي للموال، إن جاز التعبير، هو الحنين إلى ما ضاع نهائيا، وزمنه هو الدهر الذي يصب دوما في بحر الموت وليس التاريخ الذي قد يفضي إلى انبعاث. إن الموال أنسب للتصالح مع ضياع فلسطين وبغداد منه لإرادة استعادتهما. الموال والإرادة ينتميان إلى عالمين منفصلين.
ينتهي الموال ليبدأ هتاف، وسط تنكيت ساخر،: "يعيش العراق الشقيق ويحيا"! ثم بأسلوب ماغوطي باهت يتكرر الكلام مرات على سيقان هيفا (هيفاء وهبي) التي "انحنت الأمة" أمامها. الانشغال بهيفا يتكرر في المسرحية مرتين أخريين: في سياق الكلام عليها، يتحدث ممثل عن "عملية انتحارية بين سيقان.. العدو الإسرائيلي" في إيحاء جنسي قوي،؛ وتحاكى طريقتها المفترضة في الكلام: "واحد، اتنين، تلاتي، شيراك (أو: مارينز) يا حياتي". ثمة مطابقة خفية هنا بين جمال هيفا الباذخ وسخائها في عرض جسدها وبين فتنة لبنان، الغانية اللعوب التي تتيّم وتغدر، السهلة والمبذولة لكن التي لا تعرف الوفاء و.."القليلة الأخلاق". هيفا في مخيلة المسرحية السورية معادل للبنان، "الفردوس المفقود" الذي يبدو أن النظام السوري سيعاني طويلا من أعراض انسحابية بعد فطامه المفاجئ والإجباري عنه. إن هجاء مسؤولين لبنانيين وإعلام لبناني وتمثيل لبنان بمن يفترض أنها غانية جميلة وخائنة هي من جملة أعراض انسحابية خلفها الاضطرار غير المحسوب للتخلي عن الإدمان اللبناني. ولعل "قيام، جلوس، سكوت" دوخة انسحابية، تالية لخسارة ملكنا الأندلسي المضاع في بيروت و.. مرابعها ومصارفها.

يسبّون عليـ"نا"!
تستعرض المسرحية التي حضرها الرئيس السوري وقرينته في يوم عرضها الثاني أسماء سياسيين لبنانيين يفترض أنهم "يسبوننا"، نحن السوريين. مخرج المسرحية وبطلها يقول لمراسل "الحياة" إنه لاحظ "أن السنيورة بدأ بانتقادنا فأضفت اسمه إلى قائمة اللذين يشتموننا في العروض التجريبية"، قبل أن يوضح: "قررت ارتجال هذه العبارة في العروض التجريبية" بعد ان استخدم الرئيس "هذا المصطلح" في خطابه. هذا المصطلح وتلك العبارة هما "عبد مأمور"، في وصف فؤاد السنيورة رئيس وزراء لبنان.
استخدام عبارة مكرسة رسميا في المسرحية أمر له علاقة بالضحك الحكومي وبالاقتصاد السياسي لتمويل المسرحيات "الوطنية" معا. أعني بالضحك الحكومي الضحك الذي يترغرغ في حلوق رعايا رجل الحكم حين يطلق الأخير طرفة أو تعبيرا ظريفا. إنه ضحك ينبعث مما تبثه طرفة السلطة من شعور بامحاء المسافة بينها وبين رعاياها، من أمان مؤقت وشعور بوحدة الحال. تستدر نكتة السلطة الدموع، دموع الامتنان لصاحب السلطة، وهو ينتهك وقار الحكم ويتيح للرعايا لحظة مشاركة نادرة. لا غرابة أن يستثير التعبير "عبد مأمور" من الضحك والعرفان في حضور الرئيس اكثر مما أثار في العروض الأخرى. كان الجمهور يتماهى مع رئيسه بالضحك ويمنح نفسه لحظة شراكة معه على حساب "العدو".
أما الاقتصاد السياسي فيتصل بقضايا الرعاية من قبل معلنين وبشراء العروض من قبل جهات رسمية.
الشراكة الوطنية (أو "التلاحم مع الوطن") التي تحاول المسرحية تسويقها هي شراكة ضد اللبنانيين، أولئك الذي ينتقدوننا أو يشتموننا أو يسبوننا. تساق سلسلة شتامينا اللبنانيين من أجل أن تتذكر البطلة اسم ذاك الذي "يسب علينا على التلفزيون": إلياس عطا الله! المسبوبون أو المشتومون هم نحن السوريون. السابون والشاتمون هم لبنانيون من أمثال جبران تويني ووليد عيدو وستريدا جعجع وغنوة جلول و"العبد المأمور" وإلياس عطالله. من غير المناسب أن يتذكر معد المسرحية أو مخرجها وبطلها أن إلياس عطا لله كان قائد المقاومة الشيوعية ضد الاحتلال الإسرائيلي بعيد احتلال بيروت، إلى حين نزعت من يد الشيوعيين وغيرهم وتم تلزيمها لطرف واحد. تعريف عطا لله كسبّاب علينا يساعد في بلورة هويتنا نحن؛ بم يفيد تعريفه كمقاوم للاحتلال الإسرائيلي؟
الوجه الآخر، الإيجابي، للتماهي السوري يتلخص في خطاب تهنئة ذاتية: "أأمن من ها البلد ما في!" وخطاب متوعد: "اللي يهدد سوريا نعلقو بحبالها!" وبخطاب استشهاد يعلن أننا سنذهب، نحن السوريون فيما يبدو، "عالحدود لنجيب العمال اللي انقتلوا". هويتنا: مشتومون، مقتولون، متوعدون... أخيار! "العدو": شتام، مهدد، قاتل، وشرير! الدراما: اغتياب سمج للقبيلة الأخرى!

كومبارس ألماني يحرق وطننا!
القول إن المسرحية مبتذلة ربما لا يفيها حقها. الابتذال لا ذنب له. لم تهتد مخيلة المؤلف والمخرج إلى أسلوب لهجاء المحقق ديتلف ميليس أفضل من استظهار هذا الشعار الركيك: "إذا أردت أن تشعل سيكارة، ولم تجد عود ثقاب، أحرق وطنا بكامله؛ التوقيع: ديتلف ميليس". إعطاء النفس شعورا بالحق بهذه الطريقة الجاهلة والبدائية والمثيرة للشفقة هو سمة مميزة لسياسة جاهلة وثقافة جاهلة (هل يلزم أن نقول: من النوع الذي تسبب في ضياع فلسطين ثم الجولان، ويضع سوريا اليوم في مهب الريح؟). الكلام ذاك لا يقول أي شيء عن ميليس ولا عن تقريره (نرجو ألا يقرأه مترجما في أي مكان، لأنه لن يثير إلا احتقاره) لكنه يقول الكثير عن غثاثة المخيلة الإنشائية التي أبدعته، وعن انحطاط وعي من ينتجونه ويسوقونه، وعن شعورهم الساحق بالضآلة والهوان أمام العالم، إلى درجة أن يحرق "وطنهم" بكامله تقرير من يوصف في المسرحية بأنه "كومبارس ألماني".
على المنوال ذاته وبالنبرة الخطابية ذاتها، يُهتَف: "عاشت الحرية الأميركية في سجن أبو غريب بقيادة غوندوليزا رايس؛ التوقيع: جبران تويني". العجز عن التخييل والإيحاء، المباشرة البدائية، المقاربة اللامنظورية إن جاز التعبير، أي التي توهم نفسها أنها ترى الشيء، في الوقت نفسه، من جميع جهاته وتعلم حقيقته الكاملة، هي سمات الوعي والمخيلة اللذين "أبدعا" المسرحية. جبران تويني الصحفي والنائب اللبناني لم يقل ما سبق، هذه واقعة بسيطة يمكن التحقق من صحتها. لكن جبران تويني الحقيقي، المرئي من داخله وخارجه، المنظور إليه من موقع كلي الإحاطة والرؤية، يقول ذلك وأكثر منه. وعلى النسق ذاته، يفترض أن يشرح توماس فريدمان شعار "حرية، سيادة، استقلال" بأنه يعني: "حلوا من لبنان لنقعد محلكم!"
ومن موقع الإحاطة الكلية أيضا، يقرر كل من المعد السابق لبرنامج "سوا ربينا" التلفزيوني و"الفنان الملتحم" أنه "يضل في لبنان أكثرية شرفاء"، وأن في "المسلسل 1636 كومبارس ألماني"، ويعرفان "الكومبارس التقدمي الاشتراكي بقيادة وليد جنبلاط" بأنه "تبع فليرحلوا عنا!" ويرصدان تواقت "كثرة العرائض والاعتصامات والحشود الأميركية على الحدود العراقية السورية"، ويحلفان بأنه "يا دتليف ابن ميليس ابن أهارون،
مكتبينك التقرير قبل سنة".
تطرح المسرحية على مشاهديها خيارين: "يا بول بريمر، يا الزرقاوي!"، قبل أن تهتدي إلى أنه ثمة "حل ثالث: صدام حسين!" ولا تنسى السخرية من المعارضة: "يومين بالحبس، [وتصدر] بيانات حقوق الإنسان، و[تغطية في اقنية] الجزيرة والعربية..".

سفاهتان شقيقتان
تنتمي المسرحية هذه إلى ذلك الصنف التعبوي والمنحط من الثقافة والسياسة الذي يؤخذ، بحق، على أفراد ومجموعات لبنانيين ممن لم يحاولوا بذل أي جهد للتمييز بين سوريا ونظامها. إن أهزوجة "توت، توت، سوريا عم بتموت" مثال بالغ السفاهة على تلك الثقافة، مثال تحاول المسرحية أن تبلغ مستواه عبر السخرية من شعار "حرية، سيادة، استقلال" أو "بدنا الحقيقية"، وقد لفظا باللهجة اللبنانية إمعانا في الانفصال النفسي عن لبنان وتشديدا لفعل التماهي السوري. لا نريد من ذلك أنه لو ميز اللبنانيون لكان رد فعل أوساط سورية بعينها أكثر عقلانية. لعلنا نذكر أن تمييز السيد سعد الحريري، رئيس"كتلة المستقبل ("الكتلة الخبيثة"، أي السرطانية، التي قد "تقتل أربع بلاد، مو بس خالتك"، حسبما تفضلت المسرحية) بين الشعب السوري وبعض حكامه أثارت رد فعل أشد سخطا من توحيدهما وهجائهما معا. نريد أن السياسيين والمثقفين الرصينين ملزمون بأن ينفصلوا عن الديماغوجيين والسفهاء الذي يتلاعبون بغرائز الجمهور ويتاجرون بالضغائن، ولا يستطيعون تصور لبنان إلا محكوما من سوريا، أو معاديا لسوريا.

من تسييس العداء إلى "تثقيفه"
لعل أخطر ما في هذه المسرحية هو أنها تسهم في نقل الشقاق بين النظام السوري ولبنان ما بعد الانسحاب السوري من مجال السياسية إلى مجال الثقافة، أي من مجال المتقلب والزائل و"ما لا دين له" إلى مجال القيم والهوية والثابت، وتاليا التحاق المثقفين بسياسيين غير منتخبين ولم يشتهروا يوما بكفاءتهم كرجال دولة. كانت السياسة المشرقية على الدوام ميالة إلى السفاهة والابتذال وتجد راحتها في الإعلام الذي يقود بدور خادم و"تعبها" في الثقافة. فهذه نزاعة إلى التمرد والاستقلال و"شوفة الحال"، وربما احتقار السياسيين، الرسميين منهم خصوصا. يقابل الاحتقار هذا ارتياب السياسيين غير المنتخبين (وسياسيي الأحزاب العقيدية) بالمثقفين وكراهيتهم لهم ورغبتهم في تكسير رؤوسهم.
تحول المسرح حليفا للسلطان هو خيانة للثقافة والتحاق بالسلطة. وهو كذلك تضحية بالأخوة السورية اللبنانية، التي تتجسد بأفضل صورة في الثقافة خلال السنوات الأخيرة، على مذبح مصالح طبقة سياسية معادية للثقافة، ولا تتمتع بشيء من الجدارة الحضارية والأخلاقية والسياسية، وسجلها التاريخي يتراوح بين مخز وأشد خزيا. المطلوب من المثقف هو العكس تماما، محاسبة السياسي على ما فعل، وخصوصا السياسي في طرفنا، إذ لا شطارة في شتم السياسيين اللبنانيين (مسؤولية المثقفين اللبنانيين بالمقابل نقد طبقتهم السياسية والإعلامية وصيغ التعبئة التي تمارس ضد سوريا..). واجبه أيضا توسيع مساحة المشترك الثقافي ردا على تقلص المشترك السياسي. ليس لجمهورية الثقافة أن تخضع لقوانين ممالك السياسة الاعتباطية.

سلطة ضد العروبة
من أين نبعت كل هذه الكراهية؟ كيف أمكن للعروبة السورية ذات الأصول التحررية أن تنحط إلى هذا الدرك من التحريض ضد الاستقلالية اللبنانية وتغذية الحقد على أكثرية اللبنانيين؟ إن منبعها الأعمق في تقديرنا هو بنى السلطة المحلية، الامتيازية وغير العقلانية، التي بدت مهددة بالتداعي بعد الطرد من الفردوس اللبناني. لقد ولّدت الولاية اللبنانية التي تحصلت في ظروف بعينها عادات وطباعا مستهترة عند نخبة السلطة السورية، أفسدتها كما يفسد الولد المدلل. صارت تعتبر أن لها حقا طبيعيا في حكم لبنان وفي حكم سوريا بالطريقة التي حكمتها طوال العقود الثلاثة الماضية. ولكونها لم تستطع أن تتصالح مع الحرمان من لبنان، فإنها تهاجمه للتقليل من قيمته، أو لكي تعطي نفسها انطباعا بأنها لم تخسر شيئا مهما. أما العروبة البعثية فقد انحطت لأنها فقدت شخصيتها منذ زمن بعيد، ربما يسبق التدخل السوري في لبنان عام 1976 والهيمنة عليه منذ أواخر الثمانينات. لقد فقدت العروبة هذه روحها التحررية والتضامنية الحية منذ ثلاثة عقود على الأقل، وارتدت إيديولوجية مشرعة لبنى سلطة تجمع بين الاعتباط والفئوية والفساد. وتتناسب وظيفتها الحاجبة للمصالح الجزئية طردا مع فقدانها شخصيتها واستقلالها وذاتيتها الحرة. في الحركة ذاتها تحولت الشخصية والاستقلال والذاتية والمبادرة لمصلحة السلطة مجسدة في شخص الرئيس. بالمقابل تتناسب القداسة المضفاة على الرئيس وشدة الولاء المطلوب له طردا مع شدة الفساد وفجور المصالح المتكونة في ظل هذا المقدس السياسي. إن شخصنة السلطة حل لمشكلة وطنية معدومة الشخصية وأحد أسبابها في آن معا، وهي بعد منبر ثر لإنتاج الكراهية والتحريم والخوف وعدم ثقة الجميع بالجميع.
بالجملة، صاغت السلطة العروبة على شاكلتها وجعلت منها إيديولوجية لتشريعها. إن استعادة الروح التحررية للعروبة تمر حتما بنزع شخصنة السلطة والتمرد على التحريمية الثقافية والسياسية التي نشأت في كنفها.

تعبئة وفداء
قد يمكن النظر إلى المسرحية كعنصر ضمن قائمة من وسائل التعبئة والتحشيد التي تستخدمها أو تحث على استخدامها السلطات السورية، في سياق المواجهة الراهنة المتعددة المستويات مع النظام الدولي. من العناصر الأخرى في هذه القائمة رفع العلم الوطني (وليس أبدا علم حزب البعث!) على شرفات المنازل، أو وضعه في لوحات إعلانية ضخمة في شوارع دمشق مع بيت من النشيد الوطني "أما فيه من كل عين سواد/ ومن دم كل شهيد مداد"، وصور الرئيس السوري في لوحات إعلانية، واعتصامات في "خيمة وطن" في ساحة الروضة القريبة من السفارة الأميركية في دمشق، وأمام المعهد المسرحي القريب من ساحة الأمويين. منها أيضا "مسيرات شعبية" تهتف: "بالروح بالدم نفديك يا بشار"، أو "يا بشار لا تهتم، وراك طلبة بتشرب دم"، أو "الله، سوريا، بشار وبس". من بينها أيضا تظاهرة احتجاجية يوم 20/11 ضد قناة "العربية" التي وصفت بأنها "يهودية"!
مثل هذه الأجواء تكون مناسبة لتجديد نزع الطابع المدني والعمومي للدولة، مع بروز الطابع الخاص والمشخصن للسلطة. الشعارات التي أوردناها للتو، والتي تماهي الله والرئيس وسوريا، مقصية العدم وحده خارج الهوية هذه، أو تفتدي الرئيس وبالروح والدم وإظهار الاستعداد لشرب دم الأعداء، أو الشعار الذي كتبه متظاهرون عل لافتة سارت على طريق بيروت يوم 20/11: "رؤوسنا مرفوعة بك يا سيد الوطن...ولن تنحني إلا لله".. هذه كلها شعارات تخاطب الداخل السوري لا غيره، ولها جميعا ذاكرة عنيفة في الداخل وحده، وهي شعارات بعثية لكنه مكفولة ومحمية من قبل "الدولة". ولعل عبارة "سيد الوطن" في الشعار الأخير تطلق لأول مرة على الرئيس بشار الأسد بعد أن كانت اخترعت لوصف والده الرئيس الراحل في ثمانينات القرن العشرين.

علوش أنتي ميليس!
الأطرف والأكثر إثارة للشعور بالخزي في سلسلة عناصر التعبئة والحشد السورية أغنية للفنان علي الديك صاحب "طل الصبح ولك علوش"، تعلن أن "كل تقريرك يا ميليس/ حقو فرنكين وفلس؛ مسيس والغاية منو/ قتل وتشريد وحبس". ويشارك الديك مسرحية "قيام، جلوس، سكوت" اقتناع الحكم السوري بأن تقرير ميليس لا علاقة له باغتيال الحريري. المسرحية حلفت أنـ"هم" "مكتبين" ميليس التقرير قبل عام، فيما الأغنية تقول: "جاي وبدك منا شهود/ محمل كبريت وبارود؛ لعبة محبوكة من زمان/ الكل بيعرف من أمس". لكن الأغنية أحرص على الشراكة مع لبنان من المسرحية: "سوري حبك وابناني [يفترض أن معناها لبناني]/ الحالة صارت تعبانة؛ طوفان علي وعليك/ اصحى، اسمع مني، احترس". مثل المسرحية ومثل شعارات الافتداء بالروح والدم، ترفع أغنية الديك راية الاستشهاد: "وإن كان بدهم من حروب/ رح نعمل بالجبهة دروب؛ بدنا نعيش وإن متنا/ الموتة عالجبهة عرس".
نتذكر ربما أغنية المطربة البعثية دلال شمالي قبل هزيمة 5 حزيران الكارثية: "عبي لي الجعبة خرطوش وناولني هالبارودة، ما يكلفني خمس قروش اللي يقرب صوب حدودي"؛ أو أغنية المرحوم فهد بلان من الفترة عينها: "ميراج طيارك هرب مهزوم من نصر العرب". نتذكرهما بتشاؤم لأن هذه الخفة التي لا تطاق في التعامل مع التحقيق الدولي وقرارات مجلس الأمن تذكر بخفة تناظرها قبل كارثة حزيران قبل قرابة 4 عقود.
ليس هكذا يحكم البلد، وليس هكذا دور الثقافة والفن.

ثقافة الهوية وسياستها
في الختام يغرينا أن نقترح فرضية تقول إن الحياة السياسية والثقافية في سوريا البعثية متمحورة حول الهوية، مع ما يقتضيه لك من كبح الانشقاق وقمع الأفعال المعارضة والاحتجاجية. إن سياسية الهوية هي قبلية جديدة موجهة في طورها الحالي ضد لبنان بصورة خاصة. وإن مدار ثقافة الهوية هو إنتاج وعي إجماعي امتثالي مضاد للاختلاف والإبداع والتجديد. ويناسبهما معا، سياسة الهوية وثقافتها، سياسة محافظة تقبل تركيز السلطة في أيدي مجموعة صغيرة تتم مطابقتها مع الوطنية. وبقدر ما إن المسرح ميدان صراع وتمرد وانشقاق فإنه لا يمكن أن نتوقع مسرحا مزدهرا في ظل ثقافة الهوية وسياستها. وبقدر ما إن الثقافة فعل حرية ونقد و"صعلكة" فإن فرصة ازدهار الثقافة النقدية المنشقة تبقى ضئيلة. بالمقابل تتوفر بإفراط فرص بروز المثقفين الملتزمين والملتحمين من شعراء القبائل ومداحيها: يغوون حين تغوي غزية، ولا رشاد لهم مستقلا عن رشادها.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن