عادل امام مسجون في مصر !

محمود ابوحديد
ma7mod9@gmail.com

2016 / 6 / 8

السجون في مصر حقيرة لاقصى درجة ودخولها يعني مصيبة حياتية لن يُلغى اثرها ابدا. انا متاكد انها غيرتني في العديد من الاشياء رغم ان سجني لم يتجاوز الستة اشهر ! من يوم خرجت اصبحت ارى ان "تحرير المعتقلين" يجب ان يكون الهدف الاولي لاي عمل سياسي. ارى ضرورة بذل كل الجهد لصالح من في السجون ضمن اي عمل او كفاح اجتماعي . ان تحريرهم هدف اولي للمجتمع حتى لو لم يُقر افراد المجتمع باولوية هذا الهدف الا يعني اندلاع الانتفاضة ان تهزم قوات البوليس وتحرر الجماهير المسجونين المعذبين بالسجون ؟ فقط خصيان الليبرالية والديمقراطية والجمهوريين هم من يعتبروا هذه الافعال "تجاوزات غير مقبولة للثورة". هكذا يجب التأكد ان انتصار الثورة هو طريق التحرير الكامل للمعتقلين ، وان الحكومات الراسمالية لن تفرج عن المعتقلين الا لاعتقال اضعافهم.

شهر رمضان بالنسبة لمسلمين القرن الواحدوالعشرين يعني اكبر نسب متابعة المسلسلات والبرامج. وقد استغل النظام الجمهوري في مصر هذه الحقيقة ليبث افكارا وصورا ومشاهد مزورة ومشوهة لحقارة وفداحة سجون مصر لترتبط هذه الافكار بعقول المصريين بمجرد الكلام عن السجون. ان هذا ما يُسمى في علم النفس "الارتباط الشرطي للافكار والصور"

هنا تكمن قوة النظام لراسمالي وايدلوجيته : في احتكاره وقدرته على تشكيل الصور المرتبطة بالافكار التي تظهر في العقل الانساني.

الحقير "عادل امام" اكبر كلاب سينما رجال الاعمال العرب يذيع مسلسلا في رمضان يقوم فيه بدور مواطن مسجون في مصرنا المظلومة! ولاشك سيزيف عادل امام لمشاهديه كل صغير وكبير عن السجن . سيعلنه المسلسل مسجونا ينام على سرير ابيض ، ويخرج للتريض في اماكن خضراء ، يتناقش مع الضباط وامناء الشرطة بكل سهولة واريحية ، ويزوره المحامي والاهل في مكاتب فسيحة يجلسوا فيها على كراسي خشبية ثمينة! وسيخضع الناس لافكار المسلسل شائوا ام ابوا ، وسترتبط صور المسجون المرفه بالمسلسل باذهان وعقول المواطنين رغما عنهم لتظهر في الدماغ الانساني كلما ذكر السجن والسجناء!

لقد وصل سجناء مصر الى ارقام ومعدلات عملاقة . ولو لم يكن اغلب مواطني المجتمع لهم علاقة بالسجن والمسجونين لما دفع النظام الراسمالي اشهر كلابه في شهر رمضان لينبح عن سجون وهمية تجعل من المقبول ان يقبع السجناء فيها شهور وسنين.

هكذا يجرى تشتيت وتغييب الراي العام الذي يجب ان نبذل قصارى جهدنا للفت نظره للتجاوزات والجرائم التي تحدث يوميا في اقبية اقسام الشرطة والسجون ويعتم عليها الجهاز الايدلوجي للدولة (الصحف والقنوات التليفزيونيةي والافلام ودور العبادة والتعليم..الخ)

من الافضل للكلبي كاره الانسانية عادل امام ان يغادر مصر قبل ان تندلع فيها ثورة ناجحة ستجعل منه مسجونا حقيقيا بتهمة تزوير الواقع والتدليس والدعايا والمساندة النظام الراسمالي العسكري- مبارك والسيسي وحتى ان الحقير دعم محمدمرسي والاخوان عندما تولوا الحكم- هذا ان لم يكن متهما بنهب اموال المصريين . ان جشع وفساد "امام" هو ما سيقوده بالفعل نحو سجون الثورة المنتصرة.

سافضح في الجزء الاخير من هذا المقال ملمحا واحدا من سجون مصر يجعلها من اسوأ سجون العالم : التكدس والزحام وكيفية النوم والجلوس في السجون . ومع معرفتي ان كتابتي هذه لن تصمد ابدا امام متابعي مسلسل السفيه "عادل امام" فاني اكتب - بشكل اساسي - كي اتنفس ولا اصاب بالجنون. هذا العمل يعد تاريخا وفضحا لواقعا اضحت فيه الحقيقة ابعد من ابعد كواكب مجموعتنا الشمسية !!

(2)

مشيت على شاطئ الاسكندرية لافكر في بنود هذا المقال وبينما امشي على الشاطئ رايت شخصا لا اعرفه يقترب مني وينطق اسمي! "محمد" شاب اسمر في منتصف العشرينات يعمل كمحاسب ويعيش بالاسكندرية. مظهره كالالاف من حاملي هذا الاسم لكنه ميز نفسه بان ذكر لي انه لم يمض على خروجه من السجن اكثر من شهرا واحدا ! اعتبره انا "اسيرا محررا" وليس في الوصف اي تجاوز.

اخبرني انه اعتقل على خلفية مشاركته في مظاهرات الذكرى الرابعة لاحداث نوفمبر 2011 محمد محمود. قضى مائة يوم بسجون القاهرة ، 40 منها في قسم شرطة "قصر النيل" والباقي بسجن "طره - المزرعة" وحقا تأثرت عندما اخبرني ان قضيته تراوحت احكامها من 7 سنوات وحتى البراءة التي كانت من نصيبه. كما اصبت برعب لحظي عندما اخبرني ان احد زملاءه يقضي عقوبته بسجن العقرب . احد اسوأ سجون مصر على الاطلاق. ولم استطع النوم حتى كتابة هذا المقال لانه اخبرني ان مواطنة مصرية حكم عليها في قضيته بالسجن سنتين وتقضي مدتها بسجن القناطر. كل ما املك هو القلم دفاعا عن معتقلين/ات شعبي المظلوم.

لعلمه بهويتي السياسية وكوني اشتراكيا ثوريا حكى انه قابل "طاهر مختار" ولا ادري لماذا سعدت بهذا الخبر ولماذا طرحه اصلا وكأنه سيسعدني ! اغلب الظن اننا نسعد عندما نسمع ان هناك من قابل اصدقائنا المعتقلين فقط لنتأكد انهم مازالوا على قيد الحياة فمرة واحدة يختفوا باعتقالهم وعديدين لم تتح لنا رؤيتهم من يومها ولا نعلم هل يفارقونا للابد ام يتفضل علينا نظام الحقارة بمجالستهم مرة اخرى! لقد كنت دائم الخلاف مع الرفيق "طاهر مختار" عن اغلب المواقف السياسية لمنظمتنا . حزنت وسعدت كثيرا في نفس اللحظة عندما ذكرني بسجنه واظن ان تاخري في كتابة مقال دعم له هو سبب احراجي امام ذكرى سجنه.

شرحت لمحمد اني امشي على الشاطئ لاحدد بنود المقال الحالي وسالته : كيف كان قسم شرطة قصر النيل .. ابتسم واستخدم بعض الشتائم للبوليس واجمل وضع المحتجزين بانه فضيحة انسانية ! فاخبرته ضرورة ان نشرح لكل الناس ان اقسام الشرطة جميعها "سلخانات للمواطنين" واستنكرنا حقيقة ان قليلين هم من يكتبوا عن تجربة سجنهم.

سالته : كم انفقت طوال فترة احتجازك ؟ رد بكل حسم وقد تغيرت معالم وجهه للجدية والحسرة 15 : 20 الف جنيه !

شخصيا ، تعرفت على عشرات انفقوا كل مدخراتهم واستدانت عائلاتهم بآلاف الجنيهات لتوفير احتياجات السجن. ولاني قضيت فترة سجني مع جنائيين وليس سياسيين فقد سمعت قصصا عديدة عمن باعوا اثاث منازلهم ومن باعوا المنزل باكمله لكي يُمولوا احتياجات سجنهم ! ولن استطيع هنا شرح غلاء وتربح ضباط السجون من المعتقلين ذلك ان غلاء السجون يحتاج مقال مستقلا . سالته عن ما انفقه لاني حتى اليوم – بعد 6 اشهر – مازلت اسدد الديون التي اقترضتها من عائلتي في سجني وتحسر هو ايضا وهو يشرح انه بنفس المشكلة!

شد "محمد" على يدي وهو يؤكد اهمية المقال الذي انتوي كتابته . تبادلنا ارقام الهواتف واتفقنا على ميعاد آخر.

تذكرت اول ما شرح لي "محمد" انه مسجون سابق ، احصائية ان مائة الف مواطن دخلوا وخرجوا من السجون في قضايا سياسية منذ اندلاع ثورة يناير. من هذا الرقم توصلت لاحصائية ان واحدا من كل خمسة مصريين يستطيع تسمية مواطن مسجون من معارفه اذا كانت دائرة معارف الانسان الطبيعي تتسع ل200 شخص. ثم تذكرت اني قرأت حوارا منذ ايام للسفاح السيسي اعلن فيه ان معتقلي السياسة لا يتجاوزوا 10% من مسجوني مصر، ما يعني طبقا للاحصائية السابقة ان مليون شخص دخلوا وخرجوا السجون المصرية في الست سنوات الاخيرة. واذا ربطنا هذا الرقم بدائرة معارف المواطن الطبيعي لمصر ، نحصل على نتيجة ان كل فرد في مصر يستطيع تسمية مواطنين اثنين دخلوا وخرجوا من السجن او مازالوا فيه . هول الرقم اجبرني على بدء تقصي سريع لمثل هذه الاحصائية ، شرعت في سؤال المارة : هل يعرفوا اسم مواطن مسجون او كان مسجونا ؟

(3)

كررت السؤال السابق على عشرة افراد تواجدوا بشكل عشوائي بشاطئ الاسكندرية في الخامسة صباحا يوم 7 يونيو 2016 وكانت النتيجة صاعقة . اثنان فقط هم من نفوا معرفتهم لاي مسجون – احدهم اخبرني اسم "محمد مرسي" عندما تعجبت عدم علمه باي مسجون - بينما شرح البقية التالي :
· شباب لا يتجاوز سنهم 18 سنة اخبرني احدهم انه يعرف ثلاثة اطفال اعتقلوا باصلاحية الاسكندرية ، خرج منهم اثنان ومازال الثالث مسجونا.
· مواطن في منتصف الثلاثينات متجه الى عمله ، رد على السؤال السابق ب"مصر كلها محبوسة ، دة انا ممكن اقولك اسامي عشرة مش واحد.
· شاب في العشرينات يمارس رياضة الجري ، اخبرني بمعرفته اسمين ، اعدام احدهم في قضية قتل ويقضي الاخر حكم المؤبد في قضية اخرى.
· 5 شباب انتهوا من عملهم باحد المطاعم ، الاول يعرف اثنان سجنوا في قضية سرقة بالاكراه ، الثاني والثالث والرابع يعرفوا مسجون في قضية مخدرات ، والخامس يقضي ابن عمه حكم المؤبد في قضية شروع في قتل.
· رجل عراقي الجنسية في منتصف الخمسينات ، اخبرني انه على علم بمواطن يسكن في شارعه مسجون بتهمة التشاجر.
· شاب في اوائل العشرينات اخبرني انه يعرف زميل له بالكلية مسجون واسمه "احمد فؤاد".. كدت اطير من الفرحة لما سمعت اسم صديقي في عينة عشوائية ! اخبرته على الفور "احمد فؤاد طالب كلية العلوم" تعجب وبادر بالسؤال "كيف تعرفه" اخبرته انني طالب بكلية الهندسة ، فكرر

السؤال "وكيف تعرفه" اخبرته اني قابلته في السجن. فسألني هل كنت مسجونا . اجبت بالايجاب ، فشد على يدي مبتسما في محاولة لمواساتي .

(4)

لقد اصبح مرضا يأكل عقلي .. فكرة سوداوية تجابه عقلي في كل دقيقة وساعة وفي كل افعال يومي... انها "مأساة الانسانية" مأساة الناس من حولي، المشردين ، الفقراء والمعوزين ، مأساة ساكني سوريا الذين تحول اقربائهم الى اشلاء جراء الصواريخ والقصف من نظام الاسد ، ومدافع داعش امريكا. واخيرا ونسبة لتجربتي كمسجون سابق ، مأساة سجناء في مصر.

اضمحلت المرات التي اذكر فيها سجناءنا في كل يوم لكني اقسم اني مازلت اذكرهم في اغلب واهم افعالي اليومية حتى بعد مرور 6 اشهر على خروجي من السجن. انا متاكد ان محاولات تناسيهم ستبوء دوما بالفشل ! اعتقد اني ولدت بميل نحو التعلق بالمآسي !

لقد غيرني السجن بشكل كامل، كنت قد تبنيت فكرة عن نفسي اني معدوم المشاعر وفقط ما املكه هو الافكار .. لا احس لكني افكر . اكتشفت اني احس بعدما تعرضت لتجربة السجن . اكاد ابكي في لحظات كثيرة. وانهرت في البكاء مرة عندما مررت على قسم شرطة عابدين ورأيت الاهالي يصطفوا لاجل دورهم في زيارة ذوييهم.

هناك مقاربة تظهر دائما في عقلي لاستنتج اان السجن افضل من العيش في المجتمع الحالي مهما بلغت فداحة وبشاعة السجن ، لكني اصاب بالرعب في ثانية عندما اتذكر هول وفداحة السجن. المقاربة ببساطة ان السجن لا يحويي مشردين وشحاذين. فعلى الاقل يتوافر الطعام الميري الذي لا تأكله االقطط التي تسكن السجن !

بعد اكثر من 6 اشهر على الخروج من السجن ، مازالت آُثاره على جسدي . مازالت الحبوب والبثور تملأ ظهري ، وجسدي ممتلأ بالبقع التي تركتها الحبوب قبل ان تختفي .

(كيف هو طعام السجن – كيف نمت – كيف كان تعامل المباحث – هل تعرضت للضرب..الخ) واذكر ان تنوعت ردودي لاخبرهم بعدها اني ساكتب سلسلة مقالات لاشرح كل ماحدث معي لكي لا يفاجئوا بما سيحدث لهم في حالة الاعتقال العشوائي الذي جميعنا معرضين له !

سؤالا واحدا علق في ذهني واظنه مناسبا لهذا المقال (ماذا تعلمت من السجن) كنت اسخر دائما "تعلمت الغسيل اليدوي" لكن اليوم استطيع ان اجد اجابة ذات مغزى بحق. تتعلم في السجن ان الشرطة قوية لما حد له .. يجبروك على التغوط في وقت معين وان لم تفعل ستضرب لحين تفعلها ! يضرب كل سكان الغرفة في هجمة المباحث بحيث تتراصوا صفا واحدا وتبدأ حفلة ضرب متساوية مع كل مسجون سواء بضربات على الوجه والظهر او باستخدام العصي والضرب على كف القدم ، هذا الضرب هو الطبيعي والدائم والدوري في السجون ، اما المعتقلين السياسيين و"المشاغبين" فيتم التنكيل بهم بشكل فردي في غرف مغلقة لم ارهم لكني سمعت تأوهاتهم . والاهم هو "حفلة الاستقبال" التي تتعرض لها عند دخول السجن : تُضرب بالعصي امام ضابط المباحث وانت عاريا تماما الا من لباس يستر عضوك فقط ليُفهمك الضابط انه يستطيع ان يجردك من لباسك امام كامل المساجين وينتهكك بامر واحد منه. لتتعلم في السجن ان الشرطة قادرة على التنكيل بكل من يقع تحت يدها ، ولتتمنى شيئا واحدا بعد ان تقضي مدتك وانت في انتظار الحصول على اجراءات الافراج : انا لا اريد الرجوع لهذا المكان مرة اخرى. اغلب المعتقلين يعتزلوا العمل السياسي الفعال بعد ان يخرجوا من السجن. انا نفسي وبعد ان شاركت في كل مظاهرات الثورة المصرية ، وجدت لنفسي العذر كي لا اشارك في المظاهرات ضد الحكومة 15 و25 ابريل الماضي. وارتكزت تعليلاتي على كبر احتمالية القاء القبض على المتظاهرين الذين سيكونوا قلة قليلة ضعيفة جدا امام جبروت الشرطة ، وهذا بالفعل ماحدث بحيث اعتقل الشباب في الاسكندرية قبل حتى ان يتجمعوا للتظاهر.

(5)

مصيبتي تقترب من فكرة دارت بعقلي منذ مايقرب من العامين.. الحيوانات جميعها تتراوح في نسب الفهم والتفكير لكنني في مصيبة اكبر من الحمار !! رغم انه يُضرب ويُسب في كل لحظات يومه ، الا انه لا يفهم مأساة جنسه المستعبد منذ عشرات القرون ! لكني كانسان هوايته القراءة ، وقد اطلعت على كثير من الكتب في الادب والشعر والسياسة وعلوم الاجتماع ، فاني افهم للاسف كامل مأساة جنسي .. افهم المشكلة الانسانية ببساطة .

آخر ما يمكن ان تلاحظه السمكة هو انها تعيش في الماء ! كذلك آخر ما يمكن ان يلاحظه ويفهمه الانسان الحالي انه يعيش في نظام عبودي عالمي يجدر الخلاص منه بشكل كامل .. اي على نطاق الكوكب.. يال صعوبة الهدف .. سلطة رجال الاعمال موجودة في كل دول العالم. عبودية ومأساة العمل المأجور هي مصير دائم سيلاحقني طوال حياتي بحيث سأضطر لتأجير جسدي وقوتي بالساعة طوال حياتي . كلما عملت ساعة اكثر كلما زاد راتبي اكثر .

لقد فهمت ان الحل النهائي لكل المشاكل مؤجل لحين ليس فقط اندلاع ثورة جديدة لكن لحين انتصارها.. لن تنتصر سوى بالخلاص من رجال الاعمال ونظامهم . افهم ان الحكومة الثورية ستكون معادية لرجال الاعمال وطرائقهم او لن تكون ثورية. اما مهام تلك الحكومة فهي مؤجلة لحين استيلاءها على السلطة. لكنها لن تبدأ الا بالمطالب التاريخية للطبقة العاملة والطبقات الشعبية (طرد البوليس من الشوارع والمقرات واعادة السلاح للشعوب التي كانت مسلحة قبل عقود نزع السلاح من الشعوب خمسينات وستينات القرن الماضي – مصادرة جميع المؤسسات لصالح العاملين بها – اقرار حق انتخاب وعزل المسؤول المباشر في كل المؤسسات الاجتماعية خاصة الجيش النظامي)

انا اكره مجتمعنا الحالي بكل ما فيه . وارفض الحياة فيه ولو لساعة اضافية اخرى. افكر في الموت ليل نهار لكني اتمنى النصر وعيني عليه في كل لحظة من حياني ، ولحينه اتمنى العيش وسط ناس مقاومة . افكر في القدس مثلا . لكني اقرأ انهم يعانوا اكثر ما يعانوا ليس من الصهاينة بل من عملائهم حتى ارض القدس مليئة بالعمالة.. العمالة لرجال الاعمال في كل مكان والكل يحاول ان يلتقط منهم اكبر قدر من الفتات... كل الثورات هزمت بيد القوات المسلحة بعد مقاومة جماهيرية عملاقة هذا ما اذكره مع كل نقاش عن الثورة. اذكر يوميا ما آلت اليه الثورة السورية لان شعبها رفض الهزيمة السريعة من اول اسبوع وياليت شعري ستنتهي تضحيات السوريين باعادة فرض النظام الجمهوري الراسمالي في سوريا . هذا ما سيحدث بعد عقد او عقدين من استمرار الحرب الاهلية هناك تماما على شكل الحرب الاهلية اللبنانية.

قرأت ان انسان ما بعد الراسمالية سينظر الى عصرنا هذا الحقير كما ننظر نحن اليوم لعصور آكلي لحوم البشر بحيث سيتسائل الناس كيف عشنا نقصف بعضنا البعض بالصواريخ ! الم نكن آدميين !! والحق ان قلة لا تتجاوز 1% من سكان الكوكب هم المسؤولين عن انهيار الاسواق الاقتصادية ومجاعات البلدان الفقيرة وبيع وتجارة السلاح ، وبالتالي هم المسؤولين عن اكبر المآسي الاجتماعية في عصر مابعد الحرب العالمية الاولى ، هذه القلة يجدر اجبارها على الاستسلام لرغبة ملايين السكان في تغيير العالم الحالي - تلك الرغبة التي يعبروا عنها بالثورات الدورية - وبدلا من الكفاح لاجل اخضاعهم لرغباتنا ، يطرح اقرب معارفي علي يوميا ضرورة الاستسلام والخضوع والتفكير الاناني في نفسي ومصلحتي فقط وكأن هذا هو الطريق للحياة الكريمة ! اتألم بشدة عندما اسمع هذا الاستنتاج الحيواني اللامسؤول من علاقاتي القريبة واتمنى لو يستطيعوا تخيل مجتمع عالمي يخلو من رجال الاعمال واستغلالهم ، لو يتخيلوا عالم يكرم الانسان ويُخطط اقتصاده لسد احتياجات سكان الكوكب بدلا من فوضى البحث عن الربح وسط تجويع شعوب وطبقات اجتماعية باكملها هي وابناءها بل واحفادها ايضا. اتمنى لو يفهموا الامكانية التاريخية التي يحملها مجتمعنا الطبقي الحالي لتحقيق ما سعى اليه جميع قادة حركات التحرر حول العالم وبالذات ما سعى اليه انبياء السماء قبل ان يزور تعاليمهم كهنة الحكام. اتمنى لو يفهموا قدرة مجتمعنا الحالي على الخلاص من عبودية الانسان لاخيه الانسان. لن الجأ للاله ليخلصنا من حقارة النظام الجمهوري فهو لن يتدخل ويحاسب الظالمين على الارض ، فقد ترك لنا نحن هذه المهمة . على الانسان الفرد ان يجمع الناس حوله ليتخلصوا من الظالمين. لن تساعدنا سوى قوانا الذاتية وعليها فقط يجب ان نعتمد.

بعد هذه المقدمة الطويلة لكن الضرورية اترك القارئ مع شرح منقوص لتفاصيل حالة التكدس بسجون مصر، شرحا لم استطع كتابته سوى بالعامية ، لكنها افضل من عدم الكتابة على الاطلاق . هذا المقال فضحا لايدلوجيا وافكار الراسمالية ، فضحا للكلبي الحقير كاره الانسانية عادل امام وافكاره التليفزيونية عن السجون . اليكم ما تعنيه جملة "السجون مكدسة لدرجة انهم يدوسو بعضهم البعضهم" وهذا الرابط لصورة ملتقطة من احد زنازين مصر المظلومة والتي اشرح حالتها في هذا المقال رغم ان هذه الاشياء لا تُفُهم سوى بالتجربة. والاعتقال العشوائي سمة مميزة لوطننا مصر منذ اندلاع الثورة ما يعني ان السجن ليس عننا جميعا ببعيد !

(6)

نجيب سرور شاعر الخمسينات والستينات علمنا الروح التي يجدر التعامل بها مع ضباط الشرطة بعد الاعتقال "ياكلاب ،، كبدي خذوه ،، يا ناهشي الاكباد هاكم فانهشوه" تبني هذه الفكرة سيسهل عليك كل ما في السجن.

اول ما بتعتقل بتروح "سلخانة" قسم الشرطة وتدخل الحجز ، المكان اللي بيُعذب فيه المواطنين في كل دقيقة ... بالتكدس.
اول ما بتدخل اوضة الحجز مستحيل تلاقي مكان فاضي في الاوضة ، المساجين في كل حتة ، لما باب الاوضة بيفتح بتلاقي كل المساجين باصين ناحية الباب ومرعوبين ان ناس جديدة تدخل لان دة معناه ان عددهم هيزيد ، لو واحد او اثنين مفيش مشكلة لكن الرعب من ان ثلاثة او اكثر يدخلوا .. اول حاجة بتيجي في دماغك من منظر الاوضة انك فعليا مش هتلاقي مكان تنام او تقعد فيه.

الاوضة متقسمة فرش على اليمين والشمال ، ومعنى فرشة هي بطانية مفروشة على الارض بتضم من خمسة لستة اشخاص والاوضة كانت بتمم حاجة وستين على اقل تقدير ودة مش معناه ان فيها 10 فرش ! هما 6 او 7 فرش على الاكثر وهشرح الفرق بيروح فين

لما بتدخل الناس على الفرش بيعملوا مش شايفينك لان الفرشة اللي هتتكلم معاها وهتحاول تقعد عليها المفروض انك هتبقى منهم ودة معناه ان الفرشة اللي مساحتها ثابتة هيزيد عليها واحد ودي اكبر تكديرة بالنسبة لهم - اكبر من ان المباحث تدخل تهجم على الاوضة وتضرب كل اللي فيها وتنهب كافة محتوياتها ، على الاقل بعد الهجمة كل واحد هيرجع لمكانه وفرشتهوالزيارات هتجيب حاجات بدل اللي اتاخدت .. لكن بوجودك على الفرشة فعددهم هيزيد ومش هيخلصوا منك ابدا ! على الاقل على المدى القريب - فبالتالي كل فرشة بتتجنب تتكلم معاك علشان متبقاش معاهم ع الفرشة . معنى دة انك ممكن تفضل واقف طول اليوم والناس مترضاش تقعدك معاهم – والكلام لسة مجاش للنوم خالص. لو معرفتش تتصرف وتظبط نفسك مع "سكان فرشة" فساعتها هتتمنى تمشي دلوقتي قبل ميعاد النيابة بكرة الصبح ! هتقضي الليلة دي والناس بتزقك من فرشة للثانية علشان انت بتحاول تاخد مكان . ثاني يوم الساعة سبعة الصبح ،الاوضة زحمتها بتخف لان الناس بتنزل النيابة.

لو النيابة مدياك 4 او 15 يوم تجديد ، ولو لسة الساعة معدتش 4 العصر ، فهتتمنى تمشي في التراحيل اللي بتروح السجون ، هتقعد تتمنى تمشي الترحيلة الجاية ، ولما الاسامي تتنادى ، هتحلم لو اسمك معاهم ولو محصلش نصيب واسمك متنداش هتضطر تواجه مصيبة انك هتبات في المكان اللي مش عارف حتى تقف فيه .

اللي بيدور في دماغك بقى : ازاي هتنام وانت حرفيا مش لاقي مكان تقف والاغلب انك فعلا هتقف على رجل واحدة لان رجليك الاثنين واخدين جزء من مكان واحد نايم فيه ، ساعتها هيزقك وتروح تقف في مكان ثاني ، هتتزق منه يعني هتتزق!

ساعتها هتقولهم – اقصد سكان الفرشة - انك واقف على رجل واحدة ومش واخد مكان كبير فسيبوني اقف بس – دة علشان تستجدى عطفهم ! انا شفت بعيني ناس بتقول كدة ، مراهقين فقرا اهلهم مش بيسالوا فيهم ومش بيجولهم زيارات ومعهمش فلوس فمش لاقيين مكان على اي فرشة من اللي في الاوضة، لان الناس اللي على الفرش بيضموا لفرشتهم اللي معاه فلوس وبيجيله زيارات اما اللي محدش بيجيلهم زيارات او زياراتهم كل كام يوم فبيفضلوا يتنقلوا من فرشة لفرشة ،، يتنقلوا يعني يقفوا من فرشة لفرشة !

لازم يبقى معاك فلوس واكل وسجاير علشان تدي منها للي على الفرشة علشان يقبوا انك تبقى منهم ويوسعولك مكان دايم وسطهم ، حط بقى تحت كلمة دايم دي 100 خط . المكان دة بقى بيبقى عامل ازاي؟

لا يتجاوز ابدا الشبرين اقل من الشبرين ,, شبر وقبضة دايما ، يعني تفتح ايدك شبر وتحط ايدك الثانية مقفولة جنبها هي دي بقى الشبر وقبضة .. جربها اعملها بايديك كدة وتخيل ان دة بقى المكان الدايم بتاعك ... وافتكر ان يابختك لو لقيته . يابختك فعليا لان الناس بتتخانق ليل نهار على الاماكن.

هتنام في المساحة دي على سيفك ، يعني على جنبك. حاضن اللي جنبك واللي وراك حاضنك وساعتها انت مش هترضى ان واحد ييجي يقف في حتة من مكانك . لانك مش بس حاضن اللي قدامك واللي وراك، لأ ، انت اصلا تحت رجلك في اثنين نايمين وانت بترفع رجليك عليهم ، ودول بقى بيبقوا واخدين مكان على "اخر" الفرشة بمعنى ان مكانهم الثابت تحت رجلين الناس اللي على الفرشة ودة يعد كنز لانه بالنهاية مكان ثابت ليهم ! انهم يناموا وانت ترفع رجليك فوقيهم دة .

فالاوضة بالضبط لما بتدخلها بتلاقي : ناس نايمة على الصفين ورجليها محطوطة فوق ناس لغاية الركبة والواحد فيهم حاضن اللي قدامه واللي في ظهره .

ساعتها بقى ولو انت قاعد بالمنظر دة بقالك 50 يوم مثلا ،، هل هتسيب مكان ل"قدم" واحد تقف بين بطنك وظهر اللي قدامك او بين ظهرك وبطن اللي وراك.. حتى لو انت وافقت ان رجليه تاخد مكان جنب بطنك وانت نايم فاللي جنبك مش هيرضوا وهتلاقيهم زقوه يروح واقع عليك ومصحيك وهكذا دايما في ناس عمالة تتزق وتقع على ناس ثانية

تخيل بقى اانك معرفتش تنام وعايز تقعد .. ساعتها طيزك هتاخد مكان اكبر بكثير من الشبرين المخصصين ليك هتلاقي اللي على يمينك واللي على شمالك بيقولوا لك قوم اقف علشان يعرفوا يناموا دة معناه انك هتضطر تنام لو اللي جنبك نايمين ومش هتعرف تصحى وتقعد غير لو هما صاحيين ساعتها ممكن تبدلوا القعدة – يعني حد يقعد وحد يقف - او تقعدوا قدام بعض بما ان رجليك ملمومة ومش واخدة مكان ع الفرشة . فعلا المسجونين بيتمنوا ان اللي ينزل نيابة او جلسة يروح وياخد براءة ، على الاقل علشان مكانه هيفضى لواحد ثاني ! كلما مررتم على اي من اقسام الشرطة تذكروا ان من بداخلها يدهسوا بعضهم البعض من الزحام.

دة كله عن القعدة والنومة تخيل الاكل في الحالة دي عامل ازاي ؟
مثلا الحمام ، مفيش غير حمام واحد لاوضة فيها 70 شخص تقريبا ، ولو الواحد بيقعد 5 دقايق في الحمام فدة معناه ان دورك بييجي كل خمس ساعات على الاقل . الحجز في دور الحمام فعلا ممكن ياخد 5 ساعات .

يعني مثلا بتبقى عارف ان اهلك جايين لك الزيارة الاسبوعية يوم الجمعة فبتبقى عايز تستحمى علشان شكلك يبقى نظيف! فتدور بقى على دورك في الحمام من مساء الخميس !

هي دي الطريقة اللي الحكومة بتخلي بيها المساجين ييجوا على بعض ويتخانقوا مع بعض .. التكدس اللي بيصل انك متعرفش تخطوا 8 خطوات اللي هما طول الزنزانة من غير ماتدوس على حد .

اجسام المساجين كلها امراض نتيجة عدم التعرض للشمس.. لو انت في القسم مش هتشوف الشمس غير لما تنزل جلسة ، ولو انت في السجن مش هتشوف الشمس غير ساعتين كل اسبوع .. اعد قراءة الجملة الاخيرة وتخيل هتعيش ازاي في كمية الامراض دي .. لو حاولت تقوم تقف وتريح حد من الفقرا اللي واقفين بانه ينام شوية مكانك او قمت علشان تدخل الحمام ورجعت لقيت حد منهم قاعد مكانك .. هتقومه ولا هتسيب هدومه وجسمه اللي كلهم امراض ياخدوا مكانك وبالتالي جراثيمه تتنقل لمكانك اسرع ؟ مثلا لو فرضنا انها مش فارقة معاك وقعدته مكانك ساعتها هتلاقي الاثنين اللي جنبك بيزعقوا ويقولوا "هي ناقصة امراض وخرى اقعد ومتقعدش حد مكانك" ويروحوا مقومينه واصلا الكسل وقلة الحركة بيكونوا اكلوا جسمك فمش هتقدر تقف اكثر من ربع ساعة. الناس كلها عندها امراض السجن والامراض والعناية الطبية محتاجة مقال لوحدها وهتكون فظيعة ومقززة لاقصى درجة.

اخيرا : فطول 6 شهور حبس ، شفت ناس كثير لا يمكن حصرها ، بيبكوا دموع علشان نفسهم يناموا او يقعدوا ، ناس بقالها ايام واقفة... عمر القارئ ما هيفهم بس فكر كدة لو احنا ، طبقة المثقفين مستخدمي الانترنت ومتحدثي اللغات الاجنبية ، تخيل لو شفت رجالة سنها كبير بتعيط علشان نفسهم في مكان يناموا فيه . الناس دي بقى بيتقال ان السجن ارحم لهم من القسم .. والفرق بين نومة السجن والقسم هو "قبضة" واحدة ، يعني نص شبر .. في السجن نومتك بتبقى شبرين وفي القسم نومتك بتبقى شبر وقبضة...

كل الكلام دة عام . يعني اغلب ظروفه موجودة في كل الاقسام يمكن بتغير الاحداث لكن الوقائع تظل ثابتة .. السجناء يدوسوا بعضهم من التكدس.

المجد للشهداء والحرية للمعتقلين والشفاء للمصابيين والنصر للثورة.
الثورات تظل دائمة.
تسقط حكومة رجال الأعمال.
الموت للبوليس والقضاء والجيش.
لا حل سوى الثورة الإشتراكية والحكومة العمالية لإنتصار الثورة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن