يوم أن مات أبي

السيد عبد الله سالم
saydsalem4902000@yahoo.com

2016 / 5 / 30

يوم أن مات أبي

جلستُ أتأملُ أنفاسهُ السريعة المتلاحقة، وحشرجةُ الموتِ قد غطَّتْ فضاءَ الغرفة؛ التي ينامُ فيها والدي، لقد بذلتُ كلَّ ما في وسعي لأخفِّفَ عنهُ علَّتَهُ بلا فائدةٍ، فقد أصابهُ داء الكلي وتوقفت تمامًا عن العمل، وأضحت رئتَهُ اليمنى فريسةً لالتهابٍ شديدٍ، أكل معظم فصوصها، ولا يستجيب لأيٍّ من المضادات الحيوية المعروفة بفاعليتها في مثل هذه الالتهابات، فارتفعتْ حرارته، وصار يفقد الوعيَ رويدًا، رويدًا، حتى دخل في غيبوبة عميقة، لا يستجيب لأي مثير خارجي.

كان الأنبوبُ الأنفيُّ الذي يمده بالأوكسجين يُضايقهُ، رغم حاجتهِ الشديدة إليهِ، وضرورة استمراره على أنفهِ، ليُعالجَ نقصَ الأوكسجين في دمهِ، وكلما وضعتُ الأنبوبَ لهُ؛ جذبهُ بعيدًا، وطوَّحهُ عن وجههِ، يفتحُ عينيه وكأنهُ يلوموني على ما أحاوله معهُ، وأتخيل حشرجةَ صوتهِ تقول لي:
- قد أزفَ الرَّحيل، فلا تحاول!.

أتظاهرُ أنَّي أُصلح جهازَ المحلول الواصل من حاملٍ حديديٍّ بجوار سريرهِ، إلى ذراعهِ الأيمن، الممدودِ إلى جوارهِ، أحسبُ عدد القطراتِ التي تمر في الجهازِ كل دقيقةٍ، أحيانًا أُزيدُ من سرعتها، وأحيانًا لا.

كانَ اليوم هو الخميس، عندما دخلتْ ندى إلى حجرةِ جدها، وقفتْ بجوارِ سريره، تنظرُ إليهِ، لم يداعبها كعادتهِ، وضعت يدها على يدهِ، لم يلتفت لها، قفزت الدموع من عينيها، ورأيتُ الألمَ يعتصرُ روحها، وهمستْ بصوتها العذبِ:
- ألف سلامة عليك يا جدي.

كانت نبراتُ صوتها، وطريقتها في تقطيع الكلمة إلى حروفٍ، يشعل في قلبي حريقًا، خرجتْ ندى من الحجرة، تبعتها إلى الصالةِ، وطلبتُ من أخي أن يُحضرَ طبيبًا آخر، لرؤية والدنا، ومناظرة حالتهِ.

بعد قليلٍ عاد أخي وفي رفقتهِ طبيب أبيض البشرة، طويل القامة ونحيفٌ جدًا، يرتدي نظَّارةً طبيةً أنيقة، ويحمل حقيبته في خفَّةٍ ورشاقة، جلس إلى جوار والدي، وراح يفحصهُ فحصًا دقيقًا، ثمَّ أخبرني:
- لابد من نقلهِ إلى العناية المركزة.

سألتهُ:
- ما نسبة الشفاء؟

أشاح بوجهه عنِّي:
- الأعمارُ بيد الله!.

فهمتُ ما يقصدهُ، فقلتُ لهُ:
- اكتبْ كلَّ ما يحتاجهُ والدي، وسوف أوفرهُ لهُ في المنزل.

كتبَ الطبيبُ وصفتهُ الطبية، كانتْ أطول من المعتادِ، فقد احتوتْ على أكثر من عشرة أصنافٍ من الأدوية، وخطَّ لائحةً طويلةً من الفحوصاتِ والأشعاتِ، سلَّمني إياها، وهو يقولُ:
- يوم السبت إنشاء الله، نعمل الفحوصات والتحاليل.

شكرتُهُ على أمانتهِ معي، وأثناء وداعي لهُ، لمحتُ ندى بجوار الباب، تتلصص علينا، وتنصتُ للكلامِ بكل اهتمام، وقد تغيَّرَ لونها، فشحبتْ شحوبًا شديدًا، وهرعتْ إلى حجرةِ جدها، وفي هدوءٍ أقبلتْ على يدهِ تُقبِّلُها، وتبلِّلُها بدموعها الغزيرة، وتقولُ:
- ألف سلامة عليك يا جدي.

لم أتمالك نفسي أمام بكاء ندى، ندى بنتُ الخامسة، تتحرك كأنها فتاةً ناضجةً، تعي ما يدورُ، وتفهم ما خلف الكلمات المبهمة والإشارات اللفظيةِ المؤلمةِ من معنى، أمسكتها من يدها، وأخرجتها من الحجرةِ، وأنا أقول:
- ادخلي غرفتك يا ندى.

جلستُ قبالةَ والدي وسكرةُ الموتِ قد اشتدَّتْ عليهِ، شعرتُ بالضآلةِ والهزيمةِ وقلة الحيلة، وسألتُ نفسي:
- ماذا أفعل؟!

لم يمهلني الموتُ الوقتَ طويلاً، فقد زفر والدي زفرتهُ الأخيرة، وأسلمت روحهُ نفسها لبارئها.

أخبرتُ أخي بالأمرِ، وأغلقتُ بابَ الحجرةِ على والدي، ورحنا نستعد لتجهيزه للدفن.

كُنا نسابقُ الزمنَ، ليُدفنَ بعد صلاةِ الجمعةِ، وبعد أن رتَّبنا كلَّ الإجراءات، وجهزنا كل ما يلزمنا لمراسم الدفن من تجهيزاتٍ، دخلتُ إلى حجرتي، أستعيدُ ذكرياتي مع والدي، فهاج بيَ الشوقُ وهاجمني ألمُ الفراقِ، فأجهشتُ بالبكاءِ، ولم ألاحظ دخول ندى عليَّ، وضعتْ نفسها أمام ناظريَّ فجأةً، وسألتني:
- هل ماتَ جدي؟، هل ستضعهُ تحت الترابِ؟

لمْ ألحظ اللهجةَ العدائية في كلامها، ولم أشعر بنبرة الاتهام في سؤالها، فقد كنتُ مشغولاً بذكرياتي وهمومي، فأجبتها بعفوية:
- نعم، سندفنهُ غدًا بعد صلاةِ الجمعة.

ضربتني على رأسي بيدها الصغيرة وهربتْ من أمامي، انتظرتُ قليلاً حتى تملَّكتُ نفسي وحكمتُ بكائي، فخرجتُ أبحثُ عنها في البيتِ، فوجدتها في حجرة المعيشةِ، قد جلستْ على المقعدِ، وقد رفعتْ ساقيها إلى صدرها، ووضعتْ مرفقيها على ركبتيها، وحملتْ رأسها بين يديها، وقميصها الأزرق يتدلى على جنبيها، وخلف المقعدِ على الحائطِ وراءها، كانتْ صورةً في بروازها الخشبيِّ، لرجلٍ قد جاوز الخمسين، مقصوص الشارب، حليق الذقن، لهُ عينان سوداوان، كانت صورة والدي منذ ثلاثين عامًا.

وقفتُ أمام ندى في حيرةٍ وارتباك، وصوتُ أنينها يدهس قلبي، ويمحو ذاكرتي، كحبَّاتٍ من المطرِ سقطت على زجاجٍ متربٍ، فتركتهُ نظيفًا، نظيفا.

تحسَّستُ يدها بيديَّ، وسألتها:
- ما بكِ يا ندى؟

جاءني صوتها بعيدًا، كأنهُ يخرجُ من بئرٍ عميقٍ، أو كأنهُ يأتي من خارجِ الزمنِ:
- لماذا يا أبي؟....لماذا قتلتَ جدي؟.




السيد عبد الله سالم
المنوفية – مصر
12 أغسطس 2015



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن