الجهود الذاتية فى تفهنا الأشراف

سامح سعيد عبود
samehaboud@gmail.com

2016 / 5 / 4

عندما قرأت لأول مرة عن تجربة تفهنا الأشراف، فى إحدى الأوراق البحثية المقدمة لحلقة نقاش حول التعاونيات، علقت بأن التجربة منبتة الصلة بالتعاونيات، ولكنها تظل ملهمة من زاوية ما قدمته من حلول عملية لمشاكل الواقع المحلى بالاستقلال عن الدولة و رأسمال، وذلك عبر التضامن الاجتماعى الواسع لأفراد هذا المجتمع الريفى، مستنده إلى قيمه وثقافته السائدة، التى تتلاقى فى بعض المظاهر مع التعاون العفوى الطبيعى فى جوهره، لكنها تخالفه أحيانا من حيث المبادىء والقيم والأهداف التى استقرت عليها الحركة التعاونية الحديثة.
تقع قرية تفهنا الأشراف فى مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية، ويبلغ زمامها الزراعى أقل من 500 فدان، و لذلك كانت تصدر الفائض من سكانها كعمال تراحيل، ولم يكن بها حتى عام 1966 شخص واحد فى أى مرحلة تعليمية، و كانت تخلو من أى مؤسسات حكومية تقدم خدمات تعليمية أو صحية، كما كانت محرومة من وسائل النقل والمواصلات الحديثة والمرافق العامة.
أجتمع 9 من شباب القرية عام 1982 وتناقشوا فى أحوال القرية وكيفية مواجهتها بالجهود الذاتية لأهلها، و طرحوا فكرة مشروع تأسيس مزرعة لتربية الدواجن، برأسمال قيمته2000 جنية فى صورة شركة يخصص 10% من أرباحها لتنمية القرية، وأطلقوا على هذه النسبة "سهم الشريك الأعظم" وصاغوا هذا فى عقد الشركة ثم عرضوا الفكرة على كبار رجال القرية المؤثرين فأقتنعوا بها وطوروها، واتفقوا على حصر مشكلات القرية وأولويات التنمية، ومن جانب آخر حصروا موارد القرية البشرية و الطبيعية، ثم وضعوا خطة للنهوض بالقرية بمشاركة سكانها.
أتفقوا على تأسيس مؤسسة أهلية وفق قانون الجمعيات الأهلية، أطلقوا عليها "المركز الإسلامى"
أتفقوا على أن تكون القرية عائلة واحدة لها قيادة جماعية واحدة تسمى بعائلة الأشراف، واختاروا عشرين رجلا يمثلون قيادة القرية تحت قيادة عمدة القرية.
تولى المركز الإسلامى تنفيذ ما تم الاتفاق عليه من مشروعات خيرية، وشكلوا لجان عمل نوعية للتعليم والزراعة والشباب والصحة والمصالحات والزكاة
قرووا الاعتماد على مواردهم المادية المحدودة، دون تمويل من خارج القرية، و منها أموال الزكاة، و قد تم حصرها، وتحديد المستحقين بالمركز تحت بند أطلق عليه"بيت أموال المسلمين" وكان يتم تجميع أموال الزكاة والصدقة بطريقة التبرع المالى والعينى و من غير إلزام، كما خصصوا 10% من أرباح المشروع الاقتصادى الأول (مزرعة الدواجن) الذى اطلق عليه سهم الشريك الأعظم، وامتد هذا لكل مشروع جديد يتم تأسيسه للصرف على برامج التنمية فى القرية التى ينفذها المركز الإسلامى
و تمت الموافقة من قبل الأهالى على ذلك فى اجتماع عام لأهالى القرية فى يناير 1984، الذى ترأسه عمدة القرية فكرى القرموطى و صلاح عطية و صلاح خضر من الرواد الشباب للفكرة والمبادرة.
بعد حصر المشكلات والموارد و تحديد الأولويات وتشكيل اللجان وضعت خطط مرحلية للتنفيذ وفقا للموارد المتاحة وبالتدريج، وكان التنفيذ فى البداية يتم ببطء نظرا لحداثة الفكرة وانخفاض حجم الموارد ثم بدأت وتيرة التنفيذ تتسارع مع تطور المشاريع وازدياد حجمها وازدياد إقبال الناس على الفكرة.
كانت عبقرية الفكرة هى تحويل الزكاه من عمل تعبدى اختيارى خيرى يوجه للبر والإحسان، إلى مصدر لتمويل التنمية الاقتصادية بالقرية، وفق مبدأ بدلا من أن تعطيه سمكة كل يوم، علمه الصيد، و وفر له أدواته، و تنوعت أنواع الزكاة التى لم تقتصر على جمع الأموال فقط، فكان المزارعون والمزارعات يأتون لبيت المال بمنتجات حقولهم من حبوب و ألبان مواشيهم، وتأتى السيدات بفساتين زفافهم لكى ترتديه يتيمة أو فقيرة فى ليلة زفافها،أو يأتى متبرعون بأكفان لستر الموتى الفقراء. وقد تعهد بعض الموظفين باخراج جزء من رواتبهم لبيت المال كل شهر، وتعهد بعض الأطباء بعلاج المرضى الفقراء مجانا. وفى بعض الأحيان كانت تأتى الأموال فى صورة مواشى يأخذ أحداها فقير ليربيها ويتحول بذلك لمنتج مستقل صغير. وهكذا أمتلك بيت المال أموالا وحبوبا وملابس وقوة عمل مجانية يتم تشغيلها حسب الاحتياج.
تحولت المشاريع الاقتصادية من مجرد شركات تجارية إلى شركات موقوف جزء من أرباحها للتنمية الاقتصادية لصالح الأهالى، وليست مجرد عمل خيرى، ففى أول دورة إنتاجية للشركة الأولى التى كانت مزرعة دواجن، تم تحقيق أرباح كبيرة، فقرر المؤسسون تأسيس شركة أخرى و زيادة قيمة ما يخصص للأنفاق فى وجوه الخير إلى 20% و مع زيادة الأرباح كانت تنشأ شركة جديدة، بزيادة قدرها عشرة فى المئة لسهم الشريك الأعظم عما قبلها، حتى صارت 100 % فى بعض الشركات، و قد وصل عدد المزارع إلى 10 مزارع لتربية الدواجن، و مصنعين للأعلاف، و آخر للمركزات، وأخذوا فى تصدير الحاصلات الزراعية، وأقيمت مزارع أخرى فى مدينة التل الكبير، ووصلت الاستثمارات ل 35 مليون جنية حتى 2012.
كانت نتيجة كل هذا وبدون أى تمويل من خارج القرية محليا أو أجنبيا أن توافرت أموال تم ضخها لتنمية القرية وحل مشاكلها ومشاكل أفرادها، وتحول كثير منهم لمنتجين مستقلين وشركاء فى مشاريع بدلا من عملهم كعمال تراحيل موسميين، وتحسنت أحوالهم المعيشية وتوفرت لهم خدمات كانت الدولة قد تخلت عن تقديمها لهم. وتجلى ذلك فى العديد من الأنشطة نجملها على النحو الآتى:
أولا: قامت لجنة الزكاة بتوزيع 40 نعجة عشر على الآرامل فى السنة الأولى، و فى السنة التالية قامت بتوزيع 20 عجل جاموس للرجال الفقراء و مع كل عجل نصف أردب ذرة، ثم خصصوا ستة قراريط لكل فرد من أصحاب العجول ليزرعوها برسيما من الأرض التى اشتروها لبناء المنشئات التعليمية، ثم قامت اللجنة بتدريب الشباب على حرف وتقديم الآلآت الخاصة بالحرف لإقامة مشروعات صغيرة لهم تحتاجها القرية، أما أصحاب الاحتياجات الخاصة فقد قاموا بعمل أكشاك لهم، أو تقديم عربات مجهزة ببضاعتها ومساعدتهم ومتابعتهم عن بعد، كما قام المركز بعقد دورات للخياطة ومحو الأمية للفتيات غير المتعلمات، وبعد انتهاء كل دورة تحصل الفتاة على ماكينة خياطة و بعض المستلزمات لمزوالة العمل.
ثانيا: قامت القرية بتأسيس حضانات و معاهد أزهرية للتعليم ما قبل الجامعى للطلاب والطالبات ابتدائى واعدادى وثانوى، و مع زيادة الأموال اتصل المركز الإسلامى بالأزهر للحصول على موافقته لإنشاء كلية للشريعة للأولاد بدأت الدراسة فيها فى اغطسطس 1992 كما انشئت كلية تجارة للبنات ثم كلية للتربية ثم كلية للدراسات الإنسانية والعربية للبنات و لم تساهم جامعة الأزهر إلا بالموافقات بينما أوقف ايراد مصنع الأعلاف لصالح الأزهر للإنفاق على الكليات.
ثالثا: تم تأسيس لجنة أهلية لفض المنازعات بين أهالى القرية وأصبح من المعتاد إنه عند حدوث خلاف بين شخصين أن يتقدما ببلاغ لرئيس اللجنة والذى يستعين بسكرتير اللجنة للنظر فى الخلاف بالإضافة إلى أعضاء متخصصين حسب نوعية المشكلة، وقبل الجلسة يوقع الأعضاء على شيكات لضمان الجدية فى الإلتزام بحكم اللجنة، ولا توجد طعون فى قرارات اللجنة لأنها محايدة، كما يتم تسجيل القضايا فى محاضر مسلسلة كى يمكن الرجوع اليها واستنساخ صور منها عند الطلب، و كان من نتيجة أعمال اللجنة عدم وجود قضايا من القرية فى نقطة الشرطة، أو المركز، واذا افلتت قضية فإن المأمور ينصحهم باللجوء للجنة المصالحات وفض المنازعات.
رابعا: من ريع المشاريع الموقوفة تم تنفيذ العديد من المشروعات الخدمية التى تحتاجها القرية مثل انشاء مدينة جامعية للطالبات وأخرى للطلاب المغتربين الذين يدرسون بالقرية، و تم انجاز مشروع للصرف الصحى، ومشروع للتشجير خارج القرية وداخلها، وزراعة ألف نخلة بلح زغلول، بالإضافة إلى انشاء مجمع للخدمات بالقرية من أربع طوابق يضم سنترالا ومشغلا لتعليم الفتيات و مكتبة عامة ومقرا للجنة المصالحات، كما تمت إقامة محطة للسكك الحديدية تتوقف عندها القطارات المتحركة ما بين طنطا و الزقازيق، واخيرا شراء سيارات خاصة تقوم بجلب أطفال الحضانة من القرى المجاورة مجانا.
لاشك إننا أمام انجاز شعبى هام نقل القرية بجهود أبنائها الذاتية من حال إلى حال، و برغم تقديرى للتجربة وروادها و اداركى للسياق التى تمت فيه وحدوده إلا أن لى ملاحظات و تحفظات على التجربة تهدف لتطويرها فى الاتجاه التعاونى، لا أن تنحرف مستقبلا ويتم إفشالها، فنجاحها واستمرارها دافع قوى ليحذو حذوها الآخرين، وانحرافها و فشلها سوف يضيف للاحباطات احباطا جديدا يمنع الآخرين من تكرار التجربة.
تقوم التجربة على الطائفية بوضوح فالمركز الذى يقوم بالتجربة اسمه المركز الإسلامى يجمع الزكاه وهى إحدى أركان العبادة للمسلمين فى بيت مال المسلمين، ويوقف أعماله على معاهد وكليات لجامعة الأزهر الإسلامية، وهو يحرم غير المسلمين من المشاركة فى التجربة سواء من أهل القرية أم غيرها الذين والحال هكذا سوف يلجأون لمؤسسات أخرى تخص طوائفهم، وهذا يدعم الاحتقان الطائفى فى المجتمع بدلا من تخفيفه، و لا شك أن هذا الطابع الطائفى يخالف أول مبادىء التعاون المتعارف عليها دوليا، وهو الحياد السياسى والدينى فباب العضوية الطوعية يجب أن يكون مفتوحا بلا أى تمييز لأى سبب، لكل من يرغب فى الاشتراك ويساهم بالعمل والمال، سواء كمنتج للسلعة أو مقدم للخدمة أو مستهلك للسلعة والخدمة.
واضح جدا أن التجربة سواء فى مؤسستها الأساسية المركز الإسلامى وما يتفرع عنها من مشاريع تخلوا من أى ممارسات ديمقراطية فى اتخاذ القرارات و الإدارة، فالناس تدفع بالزكاة، والمركز الذى لا يتمتع بعضويته كل سكان القرية يدير تلك الأموال دون محاسبة ومتابعة من قبل المتبرعين، و دون شفافية فى عرض الميزانية عليهم اعتمادا على الثقة المتبادلة، وهذا يفتح الباب واسعا للفساد إن لم يكن الآن فوارد مستقبلا، و يتناقض مع المبدأ التعاونى الثانى الخاص بديمقراطية الإدارة، الذى يجب أن تمتد لكل مشروع فرعى فضلا عن المشروع الأساسى، فالتعاونية تتناقض مع الشكل الهرمى فى الإدارة، وتحكم الملاك والمديرين فى قوة العمل.فواضح أن المشاريع الاقتصادية التابعة للمركز حتى ولو موقوفة على أعمال الخير إلا انها تستخدم العمل المأجور مثلها مثل أى شركة رأسمالية، وتدار مثل أى شركة رأسمالية لا تعاونية.
برغم استقلالية التجربة عن الدولة، التى لم تدفع مليما لهم إلا انهم منحوها طوعيا أرض ومبانى تعليمية لتشرف عليها كمعاهد وكليات لجامعة الأزهر التابعة فى النهاية للدولة، بدلا من انشاء مدارس وجامعة تعاونية بأموالهم مستقلة عن الدولة ولو نسبيا فى الإدارة والمناهج، لكنهم ربطوا أبنائهم بتعليم عقيم وتلقينى من أجل شهادات لا تصلح فى سوق العمل، وهم بدلا من التركيز على كليات عملية كالزراعة والهندسة والطب والعلوم تفيد نشاطهم الاقتصادى، أنشأوا كليات نظرية تزيد أعداد الخريجين غير المطلوبين فى سوق العمل شريعة وآداب وتجارة.
الملاحظة الأخيرة تخص مساعدتهم للفقراء فى دعم مشاريعهم المتناهية الصغر بكل مشاكلها وضعف إنتاجيتها ومخاطرها، بدلا من وفورات التجميع فى شكل تعاونيات مختلفة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن