اساطير الاولين !

عارف معروف
aw56maroof@yahoo.com

2016 / 1 / 5

اساطير الاولين !

لي صديق ابدل لقبه ستة مرات خلال عشرة اعوام ! حتى انني سألته ، ملاطفا ، في آخر مرة التقيته فيها وكان قد ثبّت الى مكتبه لوحة باسمه مع لقبه الجديد ، ان كان هذا آخر تحديث (Up grading) فأجاب ،ضاحكا، ان علم ذلك عند علام الغيوب وانه يتوقف على نتائج بحث مستمر ، تحتمه ضرورات اجتماعية لا نزوات شخصية . فيما اعرف آخر ، انتهى به بحثه الى ان يستقر على لقب ،وولده على لقب آخر ، فاصبح هو ، بعد عدد من التحديثات ، " جبوريّ " فيما ظل ابنه " زبيدّي " . اما بالنسبة لي ، شخصيا ، فاذكر ان ابي كان يحفّظني ، في طفولتي ، متباهيا ، سلسلة اسلافي حتى اثني عشر ظهرا ، لكنه كان يغلط في كل مرة في جدنا السادس او السابع ، ويسميّهما ، في كل مرّة، اسماء مختلفة، حتى تاهت عليّ السالفة .....
ولا تعود حمّى بحث الناس وتحرّيهم عن انسابهم ، الملتهبة منذ عقدين تقريبا ، الى ترف او بطر او جهل فقط ، بل هي تنبع عن حاجات عملية تملي نفسها على الافراد والجماعات . لقد عاد الناس الى هذه الروابط والدعامات بعد ضعف وتقهقر اعترى الدولة المدنية وسلطتها وانسحب على سطوة القانون ونفوذه . لكن هذا ليس مربط الفرس ، كما يقال ، انما ، مربطها ، هذه الثقة المدهشة ، التي يبديها الناس ، في الشخوص والاحداث والوقائع لما سلف من الزمن، فتراهم يبنون مواقفهم وتحزباتهم بل وصراعاتهم الحاضرة ، على مواقف ووقائع ورجال وادعاءات لا تملك من الدعم الموّثق الشيء المطمئن . فاذا كان أبي لا يملك ما يدّعم قناعته باسم جده الخامس او السادس ، واذا كان البعض يحدّث ويصحح معلوماته عن اسلافه ونسبه في كل مرة ، لأسباب موضوعية ومقنعة ، اذ لا سجلات ولا وثائق يُعتّد بها، حتى قبل مئتين من السنين ، الاّ عند خواص الخواص ، من الناس ، وفيما يتعلق بسندات الملكية العثمانية تحديدا ، فكيف يمكن لنا ان نبدي كل هذه الثقة فيما وردنا مرّويا شفاها او تناقضت بشأنه التدوينات المحدودة التي ورثناها ، وفقا لمواقف اصحابها على قاعدة " حب واحكي واكره واحكي " المعروفة ؟
انك تجد وصفا، لرجل ، على انه " ابيض الوجه ، طلق المحيا ، خفيف العارضين ، غضّ الإهاب " ، مرّة ، و " آدم( أسمر ) ، ثقيل الأدمة، عكر المحيا، ثقيل الجثة، مخشوشن " مرّة اخرى ، وباختلاف الكاتب وموقفه ، حيث ينسحب الحب والكراهية ، لا على الرأي والموقف فحسب ، بل والسحنة والمحيّا ، والقامة ، والخطو ،حتى يستحيل الانسان من حال الى حال ، هذا في الخلقة والشكل مما لا يتوقف عنده الناس كثيرا ، كما يفترض ، في الشخصيات التاريخية . اما اذا جئت الى الخُلق والسياسة والانحياز فكان الله في عونك ، اذ ستتدخل عناصر السلطة والنفوذ والمال والاعطيات والانحيازات القبلية والتعصبات المذهبية والحب والكره واعنف اهواء القلب البشري في صياغة الصورة وتوصيف الحالة . والامر لا يتوقف عمّا يحدثنا به التاريخ في شأن الاولين بل انه ينسحب حتى على المعاصرين ممن كانوا بين ظهرانينا، قبل عقود ، او غادرونا قبل بضع سنين ، وانظر كيف ان شخصا مثل عبد الكريم قاسم ، مثلا ، يوصف بالسماحة والعفو والنزاهة والشجاعة والذكاء والوطنية وتُقدم لدعم ذلك الاسانيد وتروى القصص ،عند من احبوه ، وبالطغيان والمكر والجنون بل وقلة الوفاء والقتل عند من عادوه دون ان يعدموا ، كذلك ،الأسانيد والوقائع . فيرى فريق ظل ابتسامته وقد ارتسم على القمر فيما يكنيه فريق بابي جنيّة !! ثم انظر في امر صدام حسين وقد عشنا عهده وعايشناه كيف اختلفت بشأنه الاحكام ، وفقا لعواطف الحب والكراهية ، رغم ان وقائع عهده ماثلة وارتكاباته شاخصة ونتائجها معاشة ، ورغم ان وسائل التوثيق المكتوبة والمسموعة والمرئية متوفرة للناس ، بشأنه وشأن معاصريه ، كما لم تتوفر في عصر من العصور . فكيف لنا ان نركن ، والحال هذه ، الى صفات وبطولات القعقاع وحدّة بصر الزرقاء وقصة مسيلمة وحديث الاسود العنسي ودهاء فلان وشجاعة علان وسموّ وطبان ؟!
ان البشر ، كل البشر " ونحن منهم "، يخلقون مثالهم كما يشاؤون ، ويسربلون الواقع بأزياء ،من عندهم ، كما يشتهون ، وهمّ بذلك ، يصنعون القصص ويؤلفون الملاحم ، ويعيشون في عالم " افتراضي " قبل ان نعرف هذا العالم اليوم . لكن ذلك كله ، يجب ان يعرض على العقل واحكامه ،والمنطق وموازينه، والواقع ،الذي نعيش ، وقوانينه . اذْ ان الارض كانت وما زالت هي الارض .والانسان كان وما انفك هو الانسان .
ان صورة السيد المسيح ، التي توقعها مجموعة من الباحثين البريطانيين استنادا الى هياكل عظمية ليهود فلسطينيين من تلك المرحلة التاريخية بعد التعامل معها بتقنيات متطورة وبرامج حاسوبية حديثة والتي نشرت مؤخرا ،تظهر شخصا ذو ملامح متوسطية اقرب الى الواقع منها الى صورته المألوفة والرائجة كشخصية بملامح اوروبية غربية يمكن ردّها الى سطوة ونفوذ الامبراطورية المسيحية ومثالها الجمالي لا الى الواقع . وبالمثل ، فأن بحوثا علمية ، بعيدة عن الهوى ،وتطبيقات راشدة للتقنيات الحديثة ، قد تغير الكثير من احكامنا الثابتة ومسلماتنا المطلقة ، لقرون طويلة بشأن لا الشخصيات والرجال فحسب ، بل والمواقف والوقائع والنصوص ، وحتى ذلك الحين الذي يبدو افقه بعيدا ، حتى الان ، فلا اقل من ان نرعوى ونتريث ونتزن فيما نطلقه ونستند اليه من احكام ومواقف وانحيازات ، او على الاقل ، نتجنب اهدار الوقت والثروات والدماء في امور تكتنفها الكثير من الشكوك !



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن