رباعيات القاسمي / مواقف باتجاه القبول والرفض

وجدان عبدالعزيز
wijdan_abd@yahoo.com

2015 / 12 / 12

تطرق الشاعرة اسماء القاسمي لونا اخرا من الوان الشعر ، وتقدم لنا لوحات ذات ايقاعات تعمق فيها تجربتها الشعرية ، التي تنوعت كثيرا .. وهذا اللون يسمى (شعر الرباعيات) ، وهو ضمن فنون الشعر العربي التي تدلّ على جماليَّات اللغة العربيَّة ، وشمولها ، وتنوّع أغراضها ، وقد أبدع فيه بعض الشعراء أيَّما إبداع ، فنظموا عدداً من الرباعيَّات الجميلة ذات المعاني السامية ، والأهداف النبيلة ، وحينما نتمعن في هذه الرباعيات ، ذات الأبيات القليلة والخبرة الإبداعية الطويلة وما تحمله من تجربة إنسانية وخبرة عالية في ممارسة الشعر، نجد أنها تحتل جملة من الانفعالات النفسية والعاطفية المتدفقة، واللغة الباذخة والصور الحية فتبرز مقدرة الشاعرة القاسمي في التعبير عن خلجاتها الانسانية من خلال هذا اللون ، وهذا النمط لانشك انه ادركه بعض النسيان ، ولكن هناك قدرات لدى البعض في الكتابه على منواله ، وقد وردت تسميته في كتب النقد بالمقطعات وقد انتشرت في عهود الصناعة الشعرية ، ثم في بداية انتشار الصحافة، حيث رغب أصحاب الصحف في حضور الشعر وأعلام الشعراء بشكل يومي لأغراض تسويقية للصحيفة أو تكريمية للشاعر، والشاعر الجيد يصعب عليه إنتاج قصيدة كل يوم، فيلجأ إلى المقطعات الشعرية لتحقيق هدف الصحيفة من جهة ولإثبات حضوره اليومي من جهة أخرى. غير ان هذا الفن الشعري من أصعب فنون الشعر، بل أصعب من كتابة قصيدة طويلة لأن الشاعر يقدم في أربعة أبيات موضوعاً عميقاً يختزل فيه كل الفكرة المراد تقديمها، وهكذا حاولت الشاعرة القاسمي في رباعياتها ذات التكثيف العالي ، ان تقدم نفسها في تجربة جديدة من ناحية الافكار، قديمة من ناحية الشكل والايقاع ، وحينما نحلل رباعيات القاسمي ، نجد ذلك البحث عن الذات ومحاولة اثباتها من خلال البحث عن حقيقة الوجود والكون ، فـ(إن الرغبة الدائمة والملحة على الإنسان هي رغبة الوجود، وكل مغامرات الإنسان الطويلة ليست في أقصى غاياتها إلا طريقاً لتحقيق وجوده وإثبات ذاته ومن ثم لأدراك معنى هذا الوجود، وقد أخذت هذه المغامرات أشكالا مختلفة، فهي تتمثل مرة في البحث عما نسميه الحقيقة وأخرى في البحث عن الله، وثالثة في محاولة تفهم ما النفس، وإذا نحن ترجمنا هذه المحاولات في إطار أهم .. أمكننا أن نتمثلها في علاقة الإنسان بالكون، وعلاقته بالله، وعلاقته بالإنسان نفسه، ويتفرع عن هذه العلاقات كل المواقف الثانوية من النظر في الحياة والموت، وفي الحب والكره، وفي الخلود والفناء، وفي الشجاعة والخوف، وفي الخصب والجدب، وفي النجاح والفشل، وفي العدل والظلم، وفي الفرح والحزن، وفي كل هذه المعاني مستقرة في الضمير الإنساني، وقد استقرت فيه منذ وقت مبكر، منذ أن تبلورت التجربة الإنسانية في العقيدة الدينية.. لقد استقرت في ذاكرة الإنسان التي تكونت عبر العصور وانطبعت آثارها من ثم في عاداته المجتمعية.)
تقول الشاعرة القاسمي :

(أنا أسماءُ تجلَّتْ في السطورْ
أشربُ التغريدَ من روحِ الطيورْ
سُكبَتْ في مهجتي كلُّ البدورْ
من صميمِ الحزنِ أقتاتُ السرورْ)
او
(ليتني أبتاعُ شكّي باليقينْ
أسكبُ الأنوارَ في بوحٍ أمينْ
أرشفُ المعنى بكأسي كلَّ حينْ
وأزفُّ الشعرَ في ثوبِ السّنينْ)

فهذا الصراع الوجودي في محاولة اثبات الذات ، جعل من الشعر عملا ابداعيا داخليا يجد فيه الشاعر تعزيته وخلاصه .. يقول الاستاذ أحمد برقاوي : (الشعر وعي ووعي معقد جداً، بل هو أكثر أشكال الوعي تعقيداً وغنىً. ففي الشعر يحضر الوعي الجمالي الأسطوري والفلسفي في تشابك من الصعب فضّه. فهو يرسم باللغة أعماق اللاشعور الذي صار شعوراً شعرياً والشعور الذي يرهق كاهل النفس إذا لم يخرج من النفس لغة. والنفس هنا هي الذات بكل تكويناتها. ويتأسس الوعي الجمالي بانزياح للغة عن الأشياء عبر صياغة علاقة جديدة بالأشياء لا وجود لها في الواقع لكنها بنت الواقع بالضرورة. وهنا تبرز معايير الجمالية باللغة الشعرية التي تضفي عليها الموسيقى الداخلية للنص الشعري قوة التأثير. أو تمارس تأثيرها خارج الموسيقى على نحو خفي. الوعي الشعري الجمالي أكثر أشكال الوعي فرادة وخصوصية إنه ليس مستمداً من أية منابع خارجية) ، تقول القاسمي :

(ذكرياتي في شرودي مهملهْ
وحياتي تستفزُّ الأسئلهْ
من عيونِ الحلِّ تبدو المشكلهْ
ليتني أجتازُ بونَ المرحلهْ )

فكل حياتها بمثابة اسئلة متوالدة ، قد لاتصل الى الى اجوبة ، وحتى الاجوبة تثير بالمقابل اسئلة اخرى ، فـ(من عيونِ الحلِّ تبدو المشكلهْ ) ، هذا هو الصراع والقلق الانساني الذي تحمله الشاعرة القاسمي .. وهي تؤسس لجدل فلسفي فيه (يظهر الحدس الفلسفي – الشعري في الغالب عبر أجوبة عن أسئلة مضمرة، بحيث تبدو الفلسفة شذرة فكرية تقول قولاً فصلاً، قولاً يأخذ شكل ما تسميه العرب الحكمة.) ، وكما كان دأب الشاعرة في مجمل انتاجيتها الشعرية ، هو البحث عن الحقيقة لمعرفة كنه الحياة ، ففي قولها :

(لي صلاةٌ في محاريبِ الحقيقهْ
لي دعاءٌ لستُ أدري ما طريقهْ
لي مع البهجةِ أحزانٌ عميقهْ
ضربتْ قلبي بنيرانٍ صديقهْ)

يتمثل القلق الذي يجرها دوما الى مناطق البحث في سلوكيات الاخرين ، حتى انها سخرت في البيت الرابع واستعملت مقالة حربية ، لاظهار سلوكيات البعض المرفوضة من قبل الشاعرة ، ثم انها تتمنى الابتعاد عن الظنون والاقتراب قدر الامكان من مسافات الحقيقة ..

(ليت قلبي لا يبالي بالظنونْ
ليت عقلي يشتهي طعمَ الجنونْ
ليتني أدري أنا من ذا أكونْ
حين ألقاني على وجهِ الشجونْ)

فـ(الابداع الشعري يرفض مفهوم المغلق المنتهي ، يرفض الطرق الشعرية التي تبحث عن حلولها في الفكر ، وتُخضع القصيدة لبنية العقل ـ لحدوده والزاماته المنطقية ، الطريق التي يترسمها الابداع حدسية ، اشراقية ، رؤياوية ، وهي تبحث عن الحلول في فيض الحياة وغناها، في تفجر ممكناتها وتنوعها ، وهي تتبنى الانسان بجحيمه وجنتّه ، بشيطانه وملائكته ، بضعفه وقوّته .. ) ادونيس ، بمعنى ان الشاعرة تعبر بحرية عن مواقفها الانسانية .. حرية ذاتية بذات منفتحة على الحياة والكون والمحيط .. وبهذا قدمت اسماء القاسمي الكثير من الرباعيات الشعرية والتي امتثلت لمواقفها وتحريك افكارها باتجاه القبول او الرفض حسب مقتضيات الخُلق والسلوك الصحيح ...



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن