قص الاجنحة

اميرة محمود اوقاسي
amira.oukaci@yahoo.com

2015 / 10 / 21

عندما عرفتٌ نبيلة بالجامعة استغربت كيف يمكن لفتاة او لإنسان ايا كان ان يكون علي هذا القدر الكبير من التعقد والجمود، كنت احس ان نبيلة تتمني ان تحفر نفقا تحت الارض وتنزوي تحته لكي لا يراها الناس
في الاول لم ارد اطلاقا ان اصاحبها، لم تكن نوعي المفضل في الصديقات، لقد كنت عكسها اطلاقا، اجتماعية جدا وأحب ان اقضم الحياة بملء فمي مثلما اقضم التفاحة، لكن في ثاني سنة لنا في الجامعة جمعت بيننا الظروف ولم يكن هناك من مفر سوي ان نصبح صديقات
اكتشفت الكثير وراء تلك العقد والعقبات التي كانت تضعها في حياتها اليومية وما مردها
في البداية صارحتني نبيلة انها كانت تظن بي الظنون في اول سنة جامعية لنا، كانت تظن انني فتاة منحلة، لقد لقنها المجتمع ان الفتاة التلقائية التي ترفع الكلفة ولا تتصنع هي فتاة منحلة، وطلبت مني الاعتذار انها ظنت بي سوءا، لم اكن لاهتم بل بالعكس ربما اعتبر سوء ظنها مدحا، تقول نبيلة انها علي عكس من توقعاتها عرفت في فتاة قوية الشخصية وصعبة المنال وليست فتاة مستهترة،،،،،،،
كانت الايام التي نذهب فيها معا للجامعة أو للفسحة مليئة بتلاقح ثقافات، نعم نحن من مجتمع واحد ومن مدينة واحدة، لكن الفرق بيننا فرق سنين ضوئية، كنت انا احب ان اكل في الشارع بدون اي خجل، لكن نبيلة كان الاكل امام الناس شيئا مستحيلا وليس الاكل وحده هو الممنوع بل الضحك، المشية بحرية، ان تكون ذاتك بحد ذاتها كان جرما بالنسبة لها ولن اقول ان المجتمع كان يشجعها علي العكس
قربتنا الايام من بعضنا، بدأت اري في نبيلة امورا اخري لم ألاحظها من قبل بعدما سقط الحاجز الذي كان يجعلني انفر منها، بدأت ألاحظ انها شخصية ودودة جدا، رقيقة جدا وحساسة، انها علي العكس مما تبدو عليه اجتماعية جدا، وان لها قلبا كبيرا وسيحبها كل من يتعرف اليها عن قرب.
اردت ان اعرف قصتها، لم تتواني في ان تفتح لي قلبها بعد ما اصحبنا مقربتين جدا، كانت طفولة نبيلة علي عكس ما يتوقعه الجميع طفولة جامحة ومليئة بالإثارة
كانت نبيلة تعيش مع اثنين اخواتها الذكور اصغر منها سنا واثنين اخوات بنات،واحدة تصغرها بسنتين والثانية اكبر منها بخمس سنين، وقد كانت تتميز بما يسميه المجتمع طفلة مسترجلة، كانت متمردة جدا، لا يهمها ما يجذب الفتيات عادة من دمي ومساحيق تجميل، بل كان كل همها الالعاب العنيفة التي يتجه لها الذكور عموما، كالعراك والسباقات الشاقة
ولعب الكرة، سمعتها في الحي بأنها اكثر بنت تغلب الاولاد في كل الالعاب كما تتغلب عليه بدنيا اذا شب بينهما اي عراك
طفولة تحكيها بكثير من الابتسامات والمتعة، في حين كل ما كنت اريد ان افهمه ما سبب هذا التحول الجذري، اختفت كل صفات الذكورية كما يسميها المجتمع لصالح صفات انثوية حسب قوالب المجتمع كذلك، ما الذي حصل كيف حصل ذلك؟
بكل بساطة تقول نبيلة بمجرد بلوغها فترة الحيض، اتفق كل اطراف المجتمع في انه قد ان الاوان لكي ترجع البنت الي حظيرة التدجين لتلقي الترويض اللازم، كانت امها اكثر طرف فعال في ذلك، بدأت تسمع الكثير من الكلام حول لعبها مع اطفال الحي وكيف ان كل واحد منهم ينوي بها شرا ويريد ان يفتك بمفاتنها، اشارت امها مرات عديدة الي صدرها وكيف تطرح نهودها مشكلة كبيرة بين الرجال، كيف ان ما بين رجليها يمكن ان يجر كوارث بأكملها اذا لم تقفل رجليها جيدا في جلوسها وتقفل كل منابع عقلها الاخري التي تحول دون ذلك
كم من السهل ان تصبح حاملا، تقول امها اي متشرد من اللذين نراهم في الحي يمكنه ان يجعلك حاملا في خمس دقائق، ذهبت امها الي ابعد من ذلك وأكدت لها ان مجرد ان تأكل في الشارع فتنة لان حركة شفتيها وهي تمضغ مثيرة للرجال
بدأت نبيلة بعد كل هذه المحاضرات من شخص يعتبر الاعز لقلوبنا، تطبق ما تسمعه، لا تصادق إلا النبات ولا تخرج تلعب مطلقا، تلبس مثل الاناث وتجلس مثلما يجب ان يجلسن وخاصة تغلق رجليها، لا تستطيع ان تأكل البوظة او اي شيء في الشارع لان ذلك فتنة للرجال
وبالتالي تكونت لدي نبيلة صورة عن الرجل الذئب الذي يملك انيابا ولعابه يسيل علي اي جزء منها ولديه بين رجليه سلاح فتاك يمكن ان ينهي حياتها في ثوان، ولم يكن الذكور الذين حولها يكذبن هاته النظرية فإذا تربت البنات في جو من التخويف من الذكر فيجب ان يربي الذكر في جو من الجبروت علي الانثي يجعله يناسب الصورة المرادة له في المجتمع والتي لا تقوم لها قائمة دون وجود المسيطر عليه وهي الانثي
تلاشي كل عنفوان نبيلة ونظارة شبابها وأصبحت كالإنسان الالي المبرمج في جلوسها وخروجها، اصبح الشارع مكانا مخيفا ولا تخرج سوي للضرورة، وكل فرصة تخرج فيها لا تكون خالية من دقات قلب متسارعة ونوبات خوف
عند انتقالها للمدرسة الثانوية اصبح يداعب قلبها الجنس الاخر، في ظل ثقافة مثل ثقافتنا فعموما مرحلة المراهقة تمر كمرحلة احلام لا تنتهي، احلام يقظة وأحلام اثناء النوم، انها مرحلة يود كل طرف فيها ان يحب وان يحس انه محل حب ولا يستطيع ذلك لان الحب حرام وعيب وكل لقاء بين الجنسين يعتبر جريمة تهدد الامن القومي للبلاد وبذلك يظن المجتمع انه يحافظ علي افراده من الرذيلة، انه يحب ذلك النظام حيث يمثل الجميع امام الجميع دور الطهارة والعفة ثم يخلو بنفسه لكي يخرج طاقات مكبوتة امام الافلام الاباحية ويزداد بذلك تشوها ويزداد بعدا عن احترام الطرف الاخر والمقدرة علي اعطائه الحب في يوم من الايام.
احبت نبيلة شابا من بعيد كان زميلا لها في الثانوية، كان الفتي الاكثر غنا وصاحب اكبر شعبية في المدرسة، غالبا ما تحب البنات هذا النوع من الشباب بسبب الهالة المحاطة به، حتما هذا النوع فارغ جدا من الداخل ولا يمكنه ان يحب سوي فتاة من نفس صنفه، ليس كان الخطأ خطؤه هو كذلك يعتبر ضحية لمعايير المجتمع التافهة التي صنعت منه انسانا تافها
احس الشاب بميل نحو نبيلة كذلك، لكنه لم يجرؤ ابدا علي اتخاذ خطوة نحوها، اكتفي فقط بالنظر اليها والذهاب تحت شرفة بيتهم ليراها من النافذة بصفة يومية، ودام هذا الحال لمدة سبع سنين
لمدة سبع سنين، لم يتجرا اي احد فيهم علي مصارحة الاخر، لم تكن نبيلة لتصارحه بل كان هذا الدور يوكل للذكر عموما، لكنه لم يفعل، لم يكن لديه الجرأة لذلك، انه يفضل عوض علاقة حقيقية، النظر من بعيد، والاكتفاء بالأحلام الوردية، الكثير من القراء قد يسمونه جبانا لكن ذلك لا ينفي حقيقة ان الكثيرين عالقون في نفس الاعاقة التي يعاني منها
غذي سلوكه احلام نبيلة لفترة طويلة، احلام كانت مليئة بخيالات وردية وجنسية لم تجرؤ علي البوح بها لي لكن ادركت ذلك لان الامر بديهي ولكن لم يحدث شيئا علي ارض الواقع بينهما
ذات يوم وبناء علي نصيحتي قررت مصارحته، لقد عرفت حسابه في موقع التواصل الاجتماعي وأرادت ان تراسله، مواقع الانترنت تسهل الامور كثيرا للشخصيات الخجولة وتبني جسورا بينهم، لقد كتبت تلك الرسالة انا وهي، استعملت مهاراتي في الكتابة لصالحها
ثم قصدنا انترنت كافيه وبعثنا تلك الرسالة، اتذكر يومها ان نبيلة كانت في قمة الاثارة والحماس لدرجة انها لم تعد تراني وأنا اكلمها
اما هو فقد اكتفي بالصمت التام، لم يجبها اطلاقا علي رسالتها، كانت تذهب يوميا لتفقد حسابها ولم يجبها ابدا اكتفي برؤية الرسالة وعدم الرد
انقطع فترة عن الذهاب لشرفتها وكأن غروره قد اخذ اكثر مما ينبغي بتلك الرسالة فلم يعد يتلذذ بمطاردتها بعد ذلك
كانت نبيلة في قمة الحزن، حاولت ان افهمها ان لا تندم فلقد كانت اشجع منه اما هو فمجرد شخص مزيف، لكن كلامي لم يجد نفعا، الوقت وحده كان كفيلا لمعالجة الجراح
مع مرور الوقت بدأت تبرأ من حبها الوهمي وتصبح اكثر تعقلا اما هو فقد عاد ليقف تحت شرفتهم، لكن لم يعد الامر ذو اهمية بالنسبة لها، بل اصبح كلامنا عنه دائما بصفة السخرية
عرفت نبيلة من خلال الانترنت شبابا كثيرا لكنها لم تقم علاقة مع اي احد منهم، كانوا جميعهم يريدون شيئا واحدا ترفض هي ان تمنحه، وكنت ادعم موقفها ليس لاني ضد الحب ولكن لعدم وجود حب، فهم فعلا يطابقون ما صورت امها لها عن الرجال
كانت تمر بها اياما تكتئب فيها كثيرا وكان كل مبغاها ان تحس بالحب، لكن هيهات عرفت بما لا يحصي عددا وكان كلهم متشابهون قد يجيد بعضهم اخفاء نواياه بغلاف من الحب والرومنسية لكن بمجرد ثبوثها علي موقفها يدفعه لان يسقط القناع ويظهر علي حقيقته وتنتهي تلك العلاقة في ظرف اسبوعين بسباب وشتائم
كانت ترفض نبيلة الاستسلام لرغباتهم الحيوانية وذلك كان يعطيها انتصارا عليهم وفي نفس الوقت احساسا كبيرا بالوحدة
ولم اكن اقدر لكي املأ ذلك الفراغ في روحها فهي كانت فعلا تحتاج لحب وتقدير رجل حقيقي، كل ما استطعت فعله هو ان اكسر بعض التابوهات في عقلها كالأكل خارجا وان تطالب بحقها بصوت عال دون خوف، وان تضحك من قلبها في الشارع، في اخر سنة عرفت فيها نبيلة كنا نتصرف بكل تلقائية ونضحك طوال الوقت
ماعاشته نبيلة عاشته الكثيرات غيرها، فتيات ذكيات جدا، يخافهم المجتمع فيحاول قولبتهن وغالبا ما ينجح بكل مؤسساته، التربوية والدينية والقضائية فيتحولن لمعدومات الشخصية موحدات في زيهن وطريقة كلامهن وتفكيرهن ويتشابهن الي حد كبير في مأساتهن



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن