وفاء امرأة

الطيب آيت حمودة
aithamoudatayeb@yahoo.fr

2015 / 10 / 10

في زمن الهجرة نحو الشمال حزمت حقائبي ، وركبت الطائرة باتجاه ( لندرا ) للدراسة في إحدى جامعاتها ، فكان حلمي الكبير قد تحقق ولو على حساب هجر الأهل والصحب والخلان ، تابعت دراستي بانتظام فقد كان رصيدي من لغة شكسبير شحيحا ، سرعان ما نميته بفضل مخالطة أهل البلاد في الجامعة ، فهُنا من السهولة إتقان اللغة في بضعة أشهر ، فأصدقاء أمثالي من الهند وباكستان ومصر والعراق قد تبوأوا مكانا راقيا في البلاد بفضل تمكنهم اللغوي بلغة الأنجليز .
استمرت دراستي بتفوق ، وإن انشغلت قليلا بالعمل الساعي لتوفير المستلزم المالي من غير إفراط لأنني أعلم أنني ما جئت لهذا البلد الغريب سوى لأخذ العلم .
في أثناء ترددي على مكتبة الجامعة نسجت علاقة إصطحاب وصداقة مع ( دانا ) ذات العشرين ربيعا بقدها المياسي وشعرها الأشقر الطويل الذي ينسدل برشاقة على كتفيها ، وسرعان ما تحولت تلك الصحبة إلى ود تزايد ونمى ليصيح حبا جياشا لم أفهم لسره شيئا ، فتعددت اللقاءات واللطائف الكلامية ، فكنت دائما أسائل نفسي عن مستقبلي مع هذه الأنجليزية الشقراء ، هل أتزوجها ؟ وهل تقبل العيش معي في بلادي الجزائر ؟ ، وهل تتأثر بقيمي الإسلامية وتغدو مسلمة مثلي ، تساؤلات أرقتني لكنني الحديث معها يطمئنني دائما فهي شديدة الهيام كثيرة الإعجاب من أخلاقي المحافظة التي هي وليدة الإيمان و الذوق الجميل و الحس العذري ،
تمتّنت العلائق ونمت ... زرت أهل (دانا ) في منشستر بدعوة من أبيها ، فتعرفت على أسرة غاية في التفهم ، وإن كانوا يجهلون عن الجزائريين الشيء الكثير ...تحدثنا عن الدراسة و الثقافة ، والتاريخ ، وأحوال المجتمع بين (عالمهم وعالمنا ) ، فما وجدت سوى أسرة ذات رقي فكري و بساطة في التعامل قليل وجوده ، فقررت إستشارة أسرتي في الجزائر بالأمر والعزم .
°°° ما أن حل الصيف وانغلقت أبواب الجامعة حتى ركبت الطائرة رجوعا لبلدي وأهلي ، ففاتحت أمي أولا بالأمر ثم علم والدي ، فشجعاني على استكمال شطر ديني بالزواج من [ دانا ] فهاتفتها للقدوم إلى الجزائر للتعرف إلى أسرتي تمهيدا لخطبتها ، فاستجابت للدعوة مرفوقة بأبيها ، فاستقبلناهما في مطار هواري بومدين بحفاوة الجزائريين ، حيث انتقلنا جميعنا نحو دارنا في (الرغاية) ، وخصصنا لهما غرفة مستقلة ، وحاولنا التعرف عليهما ، فكنت أنا المترجم غاليا في إفهام المقاصد الكلامية ، وفي إحدى الأمسيات اتفقنا على مفاتحة والد (دانا ) بالزواج من ابنته ، المهم أنه وافق دون تردد بعد أن تعرف على أهلنا وعوائدنا وأخلاقنا وقيمنا فأقمنا عرسا إحتفاء بالحدث بحضور إمام قرأ خطبة النكاح، أو ما يسمى بالعقد الشرعي تلاه عرس الدخلة ، وبعد أسابيع من العطلة والترواح غادرت (دانا )الجزائر ومعها والدها باتجاه لندن ، وتأخرت أنا إلى غاية نهاية العطلة استمتاعا بالجو العائلي في هذا الجو الساخن المشبع برطوبة البحر .
°°° كان والدي منشغلا في تنظيف خزان المياه الموجود في المستودع السفلي ، فمن عادتنا أن ننظفه دوريا ونعقمه ( بالجير والجافيل ) لمحاربة آفة تلوث الماء بالجراثيم خلال ركودها الطويل ، فنظفنا وجيّرنا ، و انتظرنا جفافه لكي نملأه من جديد بالمياه التي تزورنا دوريا ، ففكرت في أمر تجفيفها بأكثر سرعة .. حتى يتسنى لي تعبئة الخزان بالمياه قبل غلقها ونقصها ، فصعدت إلى الأعلى فاستقدمت معي قارورة غاز البوتان ومعها موقد لتشغيله داخل الخزان لتجفيفه بأقصى سرعة ممكنة ....فهمَّ والدي بالدخوب فنهرته ودخلت مكانه ، نزّلت الموقد ووضعته داخل الخزان ذو الفتحة الوحيدة ،وتركت القارورة خارجا مع توصيل بينهما بأنبوب مطاطي مرن ، فأمرت والدي بفتح قاروة الغاز ليتسنى لي إشعال الموقد داخل الخزان ، فأشعلته بصعوبة لنقص الأكسوجين الذي يساعد على الإحتراق ، المهم انني أفلحت وقد تعمدت ترك الموقد مشتعلا وصعدت نحو الأعلى في انتظار استكمال التجفيف ، صعدت نحو الطابق العلوي للإستراحة وعدت بعد ساعة لتفقد الموقد ، فوجدته قد انطفأ .... فنزلت لإشعاله من جديد ...دون أن أنتبه لأمر كثافة الغازات داخل الخزان .... ، فما أن اشعلت ثقاب الكبريت حتى وقع انفجار مصحوب بلهب صعقت لهوله بعد أن أحاطت بجسمي الشبه عار نار لاهبة !، وما صعدت خارجا إلى بشق الأنفس و ألسنة اللهب تلاحقني ... فشعرت بتمزق في جلدي و احتراق في فروة رأسي ،والتصاق ما لبسته بجلدي .... انطرحت على الأرض كسير الجناح فاقدا للوعي .. فسارع والدي الخطى فتلقفني .... و قادني بخطى وئيدة إلى خارج المرأب وقد عاين حجم الحريق الذي ألهب جسمي داخل الخزان وأنا أحاول الخروج منه ، فأنا في حالة هستيريا وجزع كبيرين لا يعلمهما إلا الله ، وزاد حزني بعد رؤية أمي مهرولة نحوي بصياح وبكاء لهول ما شاهدته من حالي ، مصحوبة بنظرات أبي الكئيبة نحوي، والتي صاحبها دمع تلألأ فوق عينية إشفاقا على حالي ، فهاتفَ أخي لحملي على جناح السرعة لأقرب مستشفى .
دخلت في شبه غيبوبة وأنا محمول بين ذراعي والدي (بوجمعة ) وأخي (محمد ) ، وما أدخلوني في السيارة إلا بشق النفس وأنا أصرخ ملء نفسي من ألم الحروق التي أصابت جل جسمي من فروة الرأس إلى أخمص القدمين .
فوصلنا مستشفى (الرويبة ) ، بعد فحصي ومعاينة نسبة الأعطاب تبين للفريق الطبي بأن إمكانتهم في هذا المشفى لا تسمح بعلاجي ، فوجهوني نحو مستشفى ( الدويرة ) المتخصص بالحروق على متن سيارة إسعاف ...الذي وصلناه بصعوبة أمام زحمة المرور رغم إطلاق أبواق التنبيه ، وما وصلنا ذلك المستشفى إلا بشق النفس .
بعد معاينة حالتي التي كانت خطيرة ، وُجّهت إلى جناح العمليات ، فجردوني من لباسي و بدأ الفريق الطبي في تنظيف جسمي كله فوجدوا حروقا وندوبا متفاوتة العمق والسمك وبدرجات خطورة متفاوتة العطب ، وأكثر الضرر كان على مستوى الساقين و الأوراك المتآكلة و ندوب أصابت وجهي واحتراق كلي لشعر رأسي ، فنظفوا قدر استطاعتهم جسدي كله بعد تقطيع اللحم الفاسد المتقيح الصديد ، و أطلوا جميع جسمي بمراهم ، ولفوني في لفائف قطنية محكمة الربط ، ولم يتركوا سوى فتحات حول الفم والأنف والعينين .
فالمنظر عصيب لا أتمناه لغيري ، و أرقودوني في حجرة منفصلة تحت رقابة ورعاية أخي محمد .
استمر حالي التعيس في هذا المستشفى وأنا طريح الفراش ، أقتات من قنينات السيروم و أطعم بصعوبة بواسطة أنبوبة توضع في فمي ، فأنفاسي بطيئة تنذر بنهاية أجلي ، فقد فقدت الأمل في الحياة ، وسئمت من رؤية نظرات الإشفاق تحوم حولي ، وتذكرت زوجتي ( دانا ) الأنجليزية كيف سيكون موقفها وأنا في هذه الحالة البائسة التي قدرها الله لي .

بعد أيام هاتف والدي (دانا ) مخبرا إياها بأني مصاب بوعكة صحية تستلزم حضورها لرؤيتي ، فهو لم يُرد إفجاعها بما أصابني ، وحضرت ( دانا ) على جنح التسرع فاستقبلها أخي في المطار فأخذوها للبيت لإفهامها بأحوالي الصحية حتى لا تصاب بنكسة مفاجئة من هول ما تسمع وترى ، فقيل لها بأنني مصاب بحروق بسيطة ، سنأخذك لمشاهدة زوجك في المستشفى ، وحاولي أن تكوني متماسكة شجاعة حتى لا تؤثري على نفسيته المنهارة .... فدخلت ( دانا ) بقامتها الفارهة حيث أنا موجود بمفردها ، فتقدمت نحوي بخطى وئيدة وهي تنظر لي بنظرات غريبة لا أفهم سرها ، فتَحسست جسمي بليونة وتراجعت خلفا ودموعها تنهال على وجنتيها ، فهو منظر تراجيدي فريد ، وما أن خَرجت بعيدا حتى أجهشت بالبكاء مستفسرة أهلي عن أسباب الحادثة والحادث .
عادت ثانية للإستفسار عن حالي تدقيقا ، واحتظنتني مشجعة لي على صبري على هذا المصاب ، فقلتُ لها أنت ترين يا ( دانا ) حالي الميؤس من شفائه ، فواجبي يدعوني إلى [ الإنفصال عنك ] لتعيشي حريتك ، فأنا محكوم علي بالموت البطيء ، فأجهشت ثانية بالبكاء وقالت بأنها تزوجتني سليم البنية صحيح الجسم ، وهي راضية بالتبدلات التي وقعت فيما بعد ، لأنها من قضاء الله وقدره .
فهي قد اعتذرت لأهلي عن حسن صنعهم بي ووقوفهم جانبي ، وأخبرتني بأنها عائدة لأنجلترا لتسوية وضعية عملها لتعود ثانية ، وعادت فعلا بعطلة طويلة الأمد لتكون رفيقة لي في مشوار مرضي العصيب للتكفل بي كلية .

°°° فعلاجي في مستشفى ( دويرة ) كان شاقا ومكلفا ،و لأن بقائي في المستشفى لم يكن مريحا ، يتم نقلي في بداية الأمر على متن سيارة إسعاف خاصة ندفع ثمنها مرتين كل أسبوع ب عشرة ألاف دينار جزائري في كل مرة ، وعندما تحسنت ظروفي ، يتم نقلي لإجراء الفحوصات والعلاج الدوري على متن سيارة أخي ، واستمر العلاج شهورا عديدة دون تحسن يذكر ، فقال الطبيب المعالج لوالدي بأن حالة ( هشام ) ميئوس منها ، وبأن الكثير ممن أصيبوا بحروق أمثالي أهملوا في المستشفى دون عناية من أهاليهم وفقدوا الحياة ، فنحن بإمكاناتنا لا نستطيع فعل أكثر مما فعلنا ، فإن كانت لكم إمكانات فانقلوه إلى الخارج لإستكمال العلاج ،
فقررت زوجتي ( دانا ) القيام بإجراءات نقلي للعلاج في لندن تحت كفالتها الخاصة ، فتعاونت مع عائلتي في شراء بذلتين لي من إسبانبا مصنوعتين خصيصا لأمثال حالتي وبسعر غالي الثمن ،
°°°أنا الآن في لندن أتلقى علاجي بانتظام تحت رعاية زوجتي ( دانا ) ، وحالتي في تحسن كبير ، فالجراحات التجميلية قائمة لتحسين صورتي ، بزرع قطع اللحم المبتورة من جسدي في الأماكن المتضررة من وجهي ، فالعملية طويلة وشاقة ، ومن الصعب الرجوع إلى صورتي الأولى ، لكن تشجيعات زوجتي ورضاها بوضعي شيء مطمئن يبعث على التفاؤل ، أقول هذا وأنا مقتنع بأن الحب و التضحية ، وحب الخير ، قيم انسانية عليا بلا لون ولا دين ولا جنس .
أروي هذه القصة الواقعية وأنا مندهش من وفاء الزوجة الأنجليزية لزوجها الجزائري هشام ، فقد برهنت بفعلها وصنيعها بأن الوفاء الزوجي أخلاق وممارسة ووفاء .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن