أية علاقة بين الدّين والقانون؟ الجزء الثاني

عبد الرحمان النوضة
nouda.abderrahman@gmail.com

2015 / 9 / 5



(أو نقد القانون الجنائي بالمغرب)



6) هل يُعقل تجريم «زعزعة عقيدة مسلم»؟

في ”مسودة” القانون الجنائي، تُعاقب المادة 220–1 بالحبس من 6 أشهر إلى سنتين، وبغرامة قد تصل إلى 20.000،00 درهم، كلّ من قام ب: ٍ«زعزع عقيدة مُسلم، أو تحويله إلى ديانة أخرى»! وتُجرّم أيضًا المادة 221 كل من «عطّل عمدا أو مباشرة إحدى العبادات»!

وقال بعض التـقدميين: «حول ”زعزعة عقيدة مسلم“، لنتصوّر مثلاً حدوث حوار فكري، أو فلسفي، حول موضوع خلق الكائنت الحيّة. ومن المعلوم أن مجمل الدّيانات، بما فيها اليهودية والمسيحية والإسلام والسيخية، إلى آخره، تعتـقد أن الإله خلق الكائنات الحية، دفعةً واحدة، في أشكالها، وبِمُمَيّزاتها، التي نراها اليوم. بينما نظرية ”تطوّر الأجناس“ (Théorie de l’évolution)، التي أسّـسها العالم ”شارل داروين“ (Charles Darwin)([1])، توضّح أن مجمل المخلوقات الحيّة، تنحدر من أسلاف مشتركة. وطرح ”شارل داروين“ أن هذه الأنماط أو الأجناس تنتج عن عملية وصفها بِ ”الانتـقاء الطبيعي“ (sélection naturelle). وطرح ”شارل داروين“ أن صراع الكائنات الحيّة من أجل البقاء في الحياة، له تأثير مشابه للإختيار الذي يقوم به الانسان لانتـقاء أحسن الحيوانات الأليفة أو المُدجّنة، لكي تتوالد وتكاثر. وتنبني نظرية ”شارل داروين“ على جمع وترتيب المعلومات عن الأجناس، وعلى عِلم الآثار القديمة (archéologie)، وعلم المتحجّرات (paléontologie)، وعلى عِلم الأحياء (biologie)، إلى آخره. وتُبيّن أن الكائنات الحيّة الحالية لَمْ تُخلَق دفعة واحدة (مثلما تـقول الأديان)، أي أنها لم تكن دائما موجودة على الشّكل الذي هي عليه الآن، وإنما تنحدر من حيوانات أخرى، والتي تنحدر هي أيضًا، في آخر المطاف، من حيوان أصلي مشترك. وكل جنس (من الكائنات الحيّة) كان يتطوّر عبر الزّمان، خلال ملايين السّنين. وكلّما توفّرت ظروف خاصّة، مُؤثّرة في الجينات الوراثية، يمكن أن يتحوّل جنس مُعيّن، حيث يَتَـفـرّع إلى جنسين متميّزين أو أكثر. فيصبح كل جنس يتوفر على أشكال، أو صفات، تميّزه عن مجمل الأجناس الأخرى السابقة. ولنفترض الآن، حدوث حوارات فكرية أو فلسفية، من هذا الصّنف، داخل أقسام المدارس، أو الجامعات، أو في المقاهي، أو في مقصورات القطارات، أو في غرف الحمامات العمومية. ولنفترض أن أنصار نظرية ”شارل داروين“ قدّموا براهين علمية قوية، وأقنعوا مواطنين كثيرين بهذه النظرية. ولنفترض أن هذا الحوار الفكري، أو الإقناع النظري، أدّى إلى ”زعزعة عقيدة أو إيمان“ بعض المواطنين المسلمين. ولنفترض أن بعض المواطنين، المقتنعين بالتّـفسير الدّيني لخلق الكائنات الحيّة، إشتكوا إلى الدولة (أو إلى القضاء)، ضدّ مناصرين لنظرية ”شارل داروين“، واتّهموهم بجرائم: ”زعزعة عقيدة مسلمين“ (المادة220–1)، أو ”الإساءة إلى مشاعر المسلمين“، أو ”ازدراء الدّين الإسلامي“، أو ”الاستهزاء، أو الإساءة إلى الله، أو الأنبياء، أو الرّسل“ (المادة 219)! ماذا يجب على الدولة، أو القضاء، أن يفعلا في هذه الحالة؟ هل يُعقل أن يُجرّم القانون الجنائي المواطنين الذين يشرحون نظرية ”شارل داروين“؟ وفي هذه الحالة، ولكي نكون منطقيين مع أنفسنا، لماذا لا نجرّم تعليم أو نشر كل العلوم الدقيقة (sciences exactes)، باعتبارها تختلف جذريا، هي أيضًا، في منطقها، وفي تعاليمها، مع المعتـقدات الدّينية؟ وهل يُعقل أن نحكم على هؤلاء المواطنين (المروّجين لنظريات العلوم الدقيقة) بحبس يتراوح بين سنة واحدة و 5 سنوات، وبغرامة مالية تتراوح بين 20.000،00 درهم وَ 200.000،00 درهم؟ وحتّى إذا افترضنا أن ”عقيدة“ أو ”إيمان“ بعض المواطنين المسلمين أصبحت ”متزعزعة“ نتيجة لقوة هذه النظريات، هل سببُ هذه ”الزعزعة“ يرجع إلى ما سمعوه من أفكار (علمية أو فلسفية) في محيطهم المجتمعي، أم يرجع إلى هشاشة محدّدة في إيمانهم، أو يرجع إلى ضعف مَا هو موجود في ذلك الدّين المعني»؟

وردّ المحافظون: «ولماذا لاَ؟ يجب فعلاً تجريم ومعاقبة كل ما يؤدّي إلى زعزعة عقـيدة المسلمين! واجب الدولة هو حماية الدّين وصيانته بجميع الوسائل»!

فقال التـقدّميون: «في هذه الحالة، قولوا لنا ما هو هدف التّيار السياسي الإسلامي الذي صاغ ”مسودة مشروع القانون الجنائي”، هل هدفه هو صيّانة ”عقيدة المسلمين“ عبر منع تنوير الشعب؟ أو عبر تجريم تثـقيف الشعب؟ هل يجوز حقّا للدولة أن تحفظ عقيدة المسلمين، عبر منع حرّية التفكير، وحرّية التعبير، وعبر فرض الجهل، أو تـقديسه؟ هل يحقّ للدولة أن تترك الشعب في جهل مقدّس؟ وما هو هدف القانون الجنائي؟ هل هدف القانون الجنائي هو صيانة ”عقيدة المسلمين“، أو منع ”زعزعتها“؟ هل دور القانون الجنائي هو فرض ”أسلمة الدولة والمجتمع“، بقوّة القانون؟ لاَ، هذا توجّه مُتحيّز، وغير سليم. لأن دور القانون الجنائي هو فقط الفصل في النّزاعات أو التظلّمات التي تحدث بين المواطنين والمؤسّـسات، ومعاقبة السّلوكيات التي تتسبّب لمواطنين محدّدين في أضرار ملحوظة، وملموسة، وقابلة للقياس؟ أمّا الدّين، أو العقيدة، أو العبادة، أو عدم العبادة، فلا يحق لاَ للدولة، ولاَ للقانون، أن يتدخّلا فيها. لأنها تدخل ضمن الحريات الشخصية».

وقال بعض أطر وزارة العدل: «إنكم تبالغون في أحكامكم. بل هناك سوء تفاهم بيننا. لأن المادة 220–1 التي تُجرّم ”زعزع عقيدة مُسلم، أو تحويله إلى ديانة أخرى“، تستهدف فقط البعثات الأجنبية المُبشرة، التي تأتي إلى المغرب لنشر المسيحية، وتستغلّ فقر بعض المواطنين، وتـقدم لهم مساعدات مادّية متنوّعة، بهدف إغرائهم، أو جذبهم إلى المسيحية».

وردّ عليهم بعض التـقدميين: «إذا كان هذا هو قصدكم، فاكتبوه بوضوح في هذه المادة. لكن واجبنا نحن، هو أن نقرأ مشروع القانون الجنائي كما هو مكتوب، وليس كما تؤوّلونه أنتم. لأن القضاة سيحكمون في المستـقبل بما هو مكتوب حرفيّا في القانون، وليس بما هو مُضمر أو مُفترض فيه»!

وأضاف بعض التـقدمينن: «يمكن لكل مواطن أن يختار بحرية ما هو نوع القانون الجنائي الذي يتمناه، هل قانون خاضع للدّين، أم قانون منفصل عن الدّين. لكن علي هذا المواطن أن يتحمل مُسبقًا مسئولية اختياراته السياسية أو المجتمعية. حيث لا يُعذر أحدٌ بجهله للتاريخ. وحيث أن التجارب التاريخية، لمجمل شعوب العالم، أثبتت أن إخضاع القانون للدّين، يؤدّي حتما إلى الحرب الأهلية، ثم إلى الانحطاط، ثم إلى الخراب. وهذا بالضبط هو ما يحدث حاليا في كلّ من أفغانستان، وباكستان، وسوريا، والعراق، ومصر، واليمن، والصومال، والسودان، وليبيا، ولبنان، إلى آخره. وبلدان مسلمة أخرى هي مرشّحة لمصير مشابه، ومنها مثلاً المغرب، والجزائر، وموريطانيا، والسعودية، والإمارات، إلى آخره. لماذا؟ لأن القانون يستوجب العقل، بينما الدّين يُلغي العقل. ولأن الحل الوحيد المعقول، هو الفصل بين الدين والدولة، وتبعًا لذلك، الفصل بين الدّين والقانون».

وقال بعض المحافظين: «مسألة الفصل بين الدين والدولة تؤدي بنا إلى تغيير النظام السياسي القائم. وهذا التغيير ممنوع كلّيًا، وذلك بالضبط بقوة عدّة مواد من القانون الجنائي».

وردّ بعض التـقدميين: «غاية المجتمع، وغاية الدولة، هي الانسان؛ أمّا النظام السياسي القائم، فهو وسيلة، وليس غاية في حدّ ذاتها. فلا يجوز تجريم طموح الانسان إلى تغيير النظام السياسي القائم»!

7) هل يجوز تجريم العلاقات الجنسية المُتراضية؟

– تُعرّف المادة 490 «جريمة الفساد» بكونها هي: «كل اتصال (؟) جنسي (؟) غير شرعي (؟) بين رجل وامرأة، لا تربط بينهما علاقة زوجية». وتُعاقب عليها بحبس قد يصل إلى 3 أشهر، وغرامة 20 ألف درهم.

وقال بعض التـقدّميين: «هذا التعريف ”لجريمة الفساد“ خاطئ تمامًا. ولا يمكن أن يقبل به أي عقل سليم. فكأن كاتب هذه المادة تستبدّ داخل دماغه وَسَاوِس الجنس المُستلب. حيث لا يُدرك أن عبارة ”اتصال جنسي“، لا تعني بالضرورة ”النّكاح“، وإنما قد تعني اتّصالاً، أو تواصلاً، بين جنسين، عبر مجرّد تـقارب، أو كلام، أو مجاورة، أو مرافقة، أو مذاكرة، أو تعارف، أو مداعبة، أو تواصل، أو مصاحبة، أو صداقة. فهل واضعوا هذا القانون يريدون أن يعتـقل البوليس كل شابّ أو رجل وُجِدَ رفقة امرأة ليست زوجته، وأن يحكم عليه القاضي بِ 3 أشهر حبسًا وغرامة 20 ألف درهم؟ ماذا يريد واضعوا هذه المادة؟ هل يريدون أن لا يحدث في المجتمع كلّه أي اتصال بين الإناث والذكور؟ هل واضعوا هذا القانون ضلّوا إلى درجة أنهم يريدون تـقسيم المجتمع إلى إناث وذكور، بواسطة جدار عازل غير مرئي، يهدف إلى فرض فصل جنسي مطلق بين النساء والرجال؟ هل يريدون معاقبة كل مواطن يتخطّى هذا الجدار العازل غير المرئي؟ ألاَ يعرفون أن مجمل البلدان التي تتشدّد في منع العلاقات الجنسية (الخارجة عن الزواج)، ومن أشهرها مثلاً السعودية، أو الإمارات، تكون فيها النتيجة الحتمية هي سفر جزء هام من مواطنيها الأثرياء إلى البلدان الغربية، التي يجدون فيها الحرّية الجنسية، والملاهي الليلية، وأحياء الدعارة، فينفقون فيها الملايير من الدولارات؟ وهل مصلحة الشعب تكمن في تحقيق الاندماج بين الإناث والذكور، أم أنها تكمن في فرض الفصل المطلق بينهما؟ هل مصلحة المواطنين تكمن في تحقيق التّعاون والتكامل بين الجنسين، أم في التمييز الإقصائي ضدّ الإناث؟ ألا يؤدّي هذا الفصل الجنسي إلى الحكم على الإناث بالبقاء داخل بيوتهنّ، وتحويل هذه البيوت إلى سجون خاصّة بالنساء؟ ألا يشكّل هذا الفصل بين الإناث والذكور تمييزًا عنيفًا ضدّ النساء؟ وهل يجوز للقانون الجنائي أن يتدخّل في هذه الاعتبارات»؟

وردّ بعض المحافظين: «أنتم تريدون تعميم الاختلاط بين الذكور والإناث في المجتمع كلّه. وهذا الاختلاط يؤدي حتمًا إلى الإباحية الجنسية. والإباحية الجنسية لا تنتج سوى الفساد، والزّنى، والفحشاء، والرّذيلة»!

وقال بعض التـقدّميين: «يجب على واضعي هذه المادة 490 أن يعرفوا، أن مجمل الدول المتـقدّمة في العالم، تعتبر أن كل علاقة بين رجل وامرأة رَاشِدَيْنِ، إذا كانت سِلمية، وبالتّراضي، وإذا لم تكن تعني قاصرًا، ولا معوّقًا، وإذا لم يشتكِ منها أي طرف ثالث (مثلما يحدث في حالة الخيانة الزوجية المُشتكى منها)، فإن هذه العلاقة لا تُعتبر جريمةً، ولو تخلّلتها علاقة جنسية (خارج الزواج)! وكل من يدعو إلى عكس ذلك، فهو في حاجة إلى مراجعة أفكاره. لأن هذا الغلوّ في الأخلاق، بِوَاعِز ديني أصولي متعصّب، يصبح هو نفسه جريمة حقيقية، لأنه يعتدي على الحريات الشخصية للمواطنين. حيث يريد منع المواطنين من التواصل فيما بينهم».

ووأضاف بعض التـقدميين: «هذه المادة 490 تُجرّم كل اتصال يحدث بين رجل وامرأة خارج علاقة الزواج. بينما الجريمة، في منطق القانون، لاَ تعتبر أصلاً جريمة، إلاّ إذا كانت تتجسّد في اعتداء مُنتج لضرر ملموس، وملحوظ، ومُشْتَكَى منه. بينما كل علاقة تفاعل مجتمعي بين مواطنين (سواءً كانا من جنسين مختلفين، أم من نفس الجنس)، أو كل تواصل مبني على أساس التفاهم، والقبول، والتّراضي، دون إحداث ضرر لأحد، لا يحق للدولة أن تتدخّل في هذه العلاقة، فبالأحرى أن تجرّمها. وبشكل عامّ، لا يحقّ للدولة أن تتدخّل في العلاقات الجنسية القائمة بين المواطنين، إلاّ في الحالات التي يوجد فيها اعتداء، أو عنف، أو إكراه، أو مخادعة، أو الاتّجار في البشر، أو استعبادهم. وحتّى المادة 491 هي نفسها تنصّ على أن الخيانة الزوجية لا تُعتبر جريمةً ”إلاّ إذا اشتكت منها الزوجة أو الزوج“. أي أنه إذا لم يوجد شرط الشّكاية ضدّ الخيانة الزّوجية، فإنها لا تعتبر جريمة»!

وقال بعض التقدّميين: «تُريد الحكومة ”الاسلامية” الحالية تجريم العلاقات الجنسية التي تحدث خارج الزواج. فتظهر هذه الحكومة كأنها مُتحلّية بالأخلاق الحميدة, وبالعِفّة، والطّهارة. بينما نحن الذين نرفض تجريم العلاقات الجنسية المُتراضية، نظهر كأننا إباحيّون، أو مُدنّسون، أو فاسقون، أو فاجرون. لكن التعمّق في تحليل واقع المجتمع قد يفضح عكس ذلك. فبدلاً من أن تنهج الحكومة الحالية استراتيجية تنموية تراهن على جودة التعليم، وعلى تكوين الأطر الكُفأة، وعلى الصّناعات المُصَنِّعَة، نرى هذه الحكومة تُركّز على سياحة الأفواج الغفيرة. وقد وفّرت الحكومة رساميل هائلة لتشييد أو تسهيل بنيات تحتية سياحية قادرة على استيعاب أكثر من عشرة ملايين سائح في السنة، ومن جميع الأصناف. وتطمح الحكومة إلى بلوغ 15 أو 20 مليون سائح في أفق سنة 2020. وتزعم الحكومة أن هذه السياحة تأتي بالملايير من العملات الصعبة. وبعد تطبيق هذه الاستراتيجية السياحية منذ أزيد من 20 سنة، نلاحظ أنها لم تحقّق التنمية الاقتصادية المنشودة، ولم تزل الفقر، ولم تقض على البطالة. وإنما جاءت بعدة مشاكل من نوع جديد. ومنها بالضبط تنمية صناعة الخدمات الجنسية، والدّعارة، والشذوذ الجنسي، وشبكات المخدّرات المتنوعة. حيث نكتشف أن مناطق المغرب التي تتميّز بضخامة السياحة فيها، مثل مناطق مدن ”أگادير”، ومراكش، وفاس، وطنجة، والدار البيضاء، هي بالضبط المناطق التي تكثر فيها أعداد المصابين بداء ”فقدان المناعة المكتسب” (السّيدا)، وأعداد الشبّان والشابّات المتعاطين للدّعارة، أو الشذوذ الجنسي. ورغم حسن النّوايا، لا تقدر أية حكومة في العالم على فصل أنشطة السياحة عن أنشطة الجنس. لأن تعايش السياحة، والبطالة، والفقر، ينتج بالضروة تجارة الجنس. وكلّما التقى سيّاح أجانب ميسورون، مع سكان محلّيين فقراء أو عاطلين، فإن ظواهر مبادلة الجنس بالمال تصبح حتميّة. خاصّة حينما تكون نسبة الشّبان والشابات في بنية السّكان هي الغالبة. ومجمل الشغوفين بالجنس، أو بالشذوذ الجنسي، الموجودين في أوروبّا، يعرفون أن المغرب هو من بين جَنّات الجنس في العالم. ولو أن المغرب هو أقلّ مرتبةً من بعد طايلاندا، والفليبين، والبرازيل، وبلدان أخرى. وكل سياحة عرمرمة إلاّ وتخفي داخلها سياحة جنسية. ثم تخلق سياحة الجنس تقاليد جنسية جديدة داخل البلد المضيف. وقد تـتواصل مظاهر هذه التقاليد الجنسية خلال زمن طويل. ومهما كان القانون زجريا أو قمعيا، فإنه لا يقدر على محو هذه التقاليد الجنسية بسرعة».

وتجرّم المادة 489 «من ارتكب فعلا من أفعال الشذوذ الجنسي مع شخص من جنسه»! وتبقى هذه المادة غامضة؛ لأنها لم تُحدّد ما هي «أفعال الشذوذ الجنسي»، هل هي اللّمسات، أم العناق، أم القبلات، أم المعاشرة، أم المُساكنة، أم اللّواط، أم الجِماع، أم النّكاح، أم هي أيّ كان من بين هذه الأفعال؟ وتُعاقب هذه المادة 489 «أفعال الشذوذ الجنسي» بحبس يتراوح بين 6 أشهر و 3 سنوات(!)، وبغرامة قد تصل إلى 20 ألف درهم(!).

وقال بعض التـقدّميين: «هذه المادة 489 هي مقلقة، بل مرفوضة ! لأنها تتناقض مع المنطق السّليم. ولأن معظم الدول المتـقدمة في العالم لاَ تُجرّم الشذوذ الجنسي، ولاَ تعاقب عليه، ما دام بالتّراضي، ولا يشمل قاصرًا. وتجريم ”الشذوذ الجنسي“ هو غلوّ في الأخلاق، وينتج عن طغيان أيديولوجية دينية أصولية ومتشدّدة».

وأضاف بعض التـقدميين: «يُريد كاتبو هذه المادة 489 منع المصابين بالشذوذ الجنسي من ممارسة الجنس؟ طيّب ! لكن ما هو البديل الجنسي الذي يُقدّمونه إلى المصابين بالشذوذ الجنسي؟ لاَ شيء ! أليس الشذوذ الجنسي في كثير من الحالات فطري، أو طبيعي، أو غريزي، أو ناتج عن خصوصية جِينِيّة أوِ وراثية (DNA,RNA)؟ وما عَسَى أن يفعل الشخص المصاب بالشذوذ الجنسي؟ هل في مقدوره حقّا أن يمتنع كلّيا عن ممارسة الشذوذ الجنسي مع مثيله؟ أليس هذا نكران لحقائق معروفة، موضوعية، وقاهرة»؟

وأجاب بعض المحافظين: «هذه الاعتبارات سخيفة، وهذه التفسيرات مرفوضة مطلقًا. والمهم لدينا، هو فقط تجريم كل علاقة جنسية تحدث خارج الزواج. وكل القضايا الأخرى لا تهمنا»!

وأضاف بعض التـقدميين: «كاتبوا هذه المادة 489 هم مصابون بِغلوّ في الأخلاق بواعز ديني أصولي متعصّب. ولا يفهمون أن غلوّهم هذا هو الذي يحثّهم على محاولة فرض الفصل المطلق بين الإناث والذكور (طبقا للمادة 490). ولا يدركون أن هذا الفصل الأحمق بين الإناث والذكور هو بالضبط الذي ينتج شتّى أنواع الانحرافات الجنسية، ومنها مظاهر الشذوذ الجنسي. وبعد ذلك يريدون تجريم الشذوذ الجنسي. إنهم كمن يبيع القِردَ، ثم يضحك على من اشتراه. ومحدودية ثقافة كاتبي هذه المواد تجعلهم لا يفهمون أنه، بقدر ما يكون أي شعب متشدّدا في كَبْت الجنس، وفي منع العلاقات الجنسية الخارجة عن الزواج، بقدر ما تنتشر داخل هذا الشعب الكثير من أنواع الانحرافات الجنسية (مثل الأستمناء باليد، والشذوذ الجنسي، والمِثْلِيّة الجنسية، والوَلَع بالعلاقات الجنسية مع الأطفال، والاغتصاب، والعلاقات الجنسية مع المستخدمين أو المأجورين، والعلاقات الجنسية مع الحياوانات، والجرائم العنيفة المقرونة بِهَوَس لا يُقاوم نحو الجنس، إلى آخره). وإذا كانت البلدان المسلمة هي التي تكثر فيها الانحرافات الجنسية، أكثر من باقي بلدان العالم، ولو أن هذه الانحرافات تبقى عموما مستورة، فسبب ذلك يرجع بالضبط إلى كَبْت الجنس، ومنع الاختلاط بين الذكور والإناث، وتجريم العلاقات الجنسية الخارجة عن الزواج. وسياسة كَبْت الجنس هته، تُنتج مواطنين مأزومين، أو مُعقَّدين، أو عنيفين، أو مصابين بأمراض نفسية، أو بالكآبة، أو بالاستيلاب، أو غير مؤهّلين للشعور بالرّضَى عن النفس، أو غير قادرين على الانشراح، أو عاجزين على التّـحكّم في غرائزهم، أو غير لائقين للإبداع. وفي بعض الحالات، الأشخاص الذين يخضعون إلى الكَبْت المطلق للجنس، خلال سنين طويلة، يصبحون ذوي ميولات غريبة. منها مثلاً أنهم لا يستطيعون ممارسة الجنس إلاّ عبر العنف، أو العدوانية، أو الصّراخ، أو إحداث الألم للشّريك، أو ”السّادية” (sadisme)، أي المُتعة بتعذيب الغير، أو ”المَاسُوشِية” (masochisme)، أي التّلَذّذ بتعذيب النّفس، أو الخلط بينهما (sadomasochisme). ويمكن أحيانًا لِبعض السّلوكيات، مثل التحرّش الجنسي العنيف، أو الإرهاب الدّيني، أن تكون ناتجة عن سنوات طويلة من الحرمان من العلاقات الجنسية العادية. وبعبارة أخرى، فإن الحرمان المطلق من العلاقات الجنسية (الخارجة عن الزواج) تُحَوّل البشر إلى وحوش مريضة وغريبة. وبالتّالي، فالحل السليم، ليس هو المنع، أو التشدّد، وإنما الحلّ هو التعامل مع العلاقات الجنسية (الخارجة عن الزواج) بعقلانية، ومرونة، وتسامح، وتفهّم، وتواضع. وفي نفس الوقت، يجب الحرص على تعميم التربية الجنسية، وتسهيل الحصول على وسائل منع الحمل للجميع».

وقال بعض المحافظين: «الاباحية الجنسية مرفوضة، لأنها تتنافى مع قيمنا الدّينية، ومع ثوابتنا المقدّسة. ولأنها تهدّد قواعد أمننا الرّوحي والعقائدي. ومن واجب الدولة أن تمنع، بواسطة القانون الجنائي، كل ما من شأنه الإساءة إلى أخلاق أو مشاعر المسلمين».

وأجاب بعض التـقدميين: «يمكن أن نتفهّم هذا الخوف المبالغ فيه من العلاقات الجنسية (الخارجة عن الزواج) خلال القرون الماضية، التي كانت تنعدم أثناءها التربية الجنسية، ولا تتوفّر فيها وسائل منع الحمل. أمّا اليوم، فإن الانسانية تتوفّر على وسائل وقائية رخيصة وسهلة لمنع الحمل، ولمعالجة الأمراض التي يُحتمل أن تنتج عن العلاقات الجنسية. ووجود هذه الوسائل، سَيُغيّر بالضرورة تعامل مجمل الانسانية مع العلاقات الجنسية (بما فيها الخارجة عن الزواج). وهذا التطوّر التاريخي سيحدث حتما في كلّ بلدان العالم. ويستحيل على أية مؤسّـسة بشرية أو دينية أن تمنع حدوث هذا التطوّر. ونلاحظ اليوم أن الإسلاميين المتشدّدين يريدون منع العلاقات الجنسية الخارجة عن الزواج (المادة 490)، ومنع الدعارة أو البغاء (المادة 498)، ومنع الشذوذ الجنسي (المادة 489). طيّب ! أيْوَا، ومِن بَعْد؟ ماذا سيفعل كل المواطنين العُزّاب خلال السنوات الطويلة لعُزوبتهم؟ لا يبقى لهم سوى الاستمناء باليد ! هل هذا هو ما يريده الإسلاميون المتشدّدون لكل المواطنين العُزّاب؟ ولماذا لم يُجَرّم هؤلاء المتشدّدون حتّى الاستمناء باليد؟ هل فقط لأنهم نَسَوْا تجريمه؟ وفي الحقيقة، لو كان بمستطاعنا أن نطبّق فعليًّا، وبنزاهة، كل هذه المواد 489، و 490، و 498، فإن معظم المواطنين البالغين سَيَطُولهم الحبس، في فترة أو أخرى من حياتهم. وإذا قبلنا بهذا المنع المطلق للعلاقات الجنسية الخارجة عن الزواج، ولكي نكون منطقيين مع أنفسنا، فسيكون من الأحسن، في هذه الحالة، أن نقلّد العادات المعمول بها في بعض بلدان غرب إفريقيا: أي أن نَخْتِن الفتيات الصغيرات، وحتّى أن نقطع خصيات الأطفال، وهكذا سيرتاح المجتمع كله من العلاقات الجنسية. ولكن المجتمع سيغدُو، في هذه الحالة، بَاهِتًا، عَبُوسا، ثم سيفنى في استيّاء يأس. هل هذا هو ما يريده المتشدّدون تجاه العلاقات الجنسية الخارجة عن الزواج»!؟

وأضاف بعض التـقدميين: «السّر الذي يُفسّر التشدّد تجاه العلاقات الجنسية الخارجة عن الزواج، يرجع إلى كون مجمل التيارات الدّينية الأصولية المتشدّدة (سواءً في اليهودية، أم المسيحية، أم الاسلام)، يرون في المرأة أصل مجمل الخَطايَا، وينظرون إلى الجنس كفساد، أو نجاسة، أو انحطاط، أو دناءة. ويُبالغون في الخوف من كل علاقة جنسية. ويظنون أن السّبيل الوحيد للخلاص من هذا الجنس القذر، يمرّ عبر تعبئة الأخلاق، أو الإرادة، أو العَفَاف، أو الإمساك، أو الزُّهْد، أو الامتناع، أو الطّهارة. وهذا التصوّر ينمّ عن جهل طبيعة الانسان. وفي الحقيقة، الجنس هو شيء طبيعي، عادي، سليم، وملازم للإنسان. قد يستطيع العقل التحكّم في الجنس جزئيا، أو مؤقّتًا، لكنه عاجز على التحكّم فيه بشكل مطلق، أو دائم، إلى درجة الامتناع عنه كلّيا. لأن الجنس هو في أساسه، ليس قضية أخلاق أو إرادة، وإنما هو قضية أعضاء عضوية، وخلايا حيّة، وجينات (gènes) وراثية مؤثّرة، وتحوّلات أَنْزِيمِيّة (enzymes)، وتفاعلات هُرْمُونية (hormones)، وتطوّرات بيولوجية. وفي إطار هذه الكمياء العُضوية المُعقّدة، يحدث تفاعل متبادل بين هذه المواد والدّماغ، دون أن يستطيع العقل الواعي التدخّل في هذه الصيرورة الكيماوية، ولا أن يتحكّم فيها، فبالأحرى أن يقدر على إلغاء وظائفها، طبقًا لنزوات أخلاقية أو دينية مثالية. لهذا يستحيل تحويل المجتمع إلى نوع من الكنيسة، أو المعبد، المملوء بِرُهْبان، أو كَهَنَة، أو قَسَاوِسة، أو فُقهاء، متميّزين بالزّهد، والعَفاف، والإمساك، والطّهارة المطلقة. والتاريخ أثبت أن هذا الطموح مستحيل. وفي مجتمعنا الحالي، مثلاً الشّاب الذي يصل البلوغَ في سنّ العاشرة، ولا يقدر على الزواج إلاّ في قرابة سنّ 30 سنة، هل يُعقل أن نمنع عليه، خلال قرابة 20 سنة، كل علاقة جنسية خارجة عن الزواج، وأن نمنع عليه الدّعارة، وأن نمنع عليه الشذوذ الجنسي، وأن نمنع عليه الاستمناء باليد؟ هذا أمر مستحيل! ولا يطرحه إلاّ جاهل! فما هو الحلّ إذن؟ مجمل التيارات الدّينية الأصولية لا تتوفّر على أي حلّ، ولا تـقدر على اقتراح أي حلّ ([2]). وتكتفي بمحاولة تطبيق أيديولوجية مثالية، مستحيلة، ومُسْتَلَبَة، قد تُخفي نفاقًا مكبوتًا»!

وقال تـقدميون آخرون: «يتصارع رأيان متناقضان في المجتمع. المتديّنون المتشدّدون والمحافظون يعتبرون أن العلاقات الجنسية هي مخصّصة فقط لإنجاب الأبناء، أي التكاثر. ويعتقدون، ولو بشكل غير واع، أن الجنس هو أصل مجمل المصائب. فلا يقبلون العلاقات الجنسية إلاّ إذا كانت قائمة داخل الزواج القانوني. ويخشون أن تؤدّي العلاقات الجنسية الخارجة عن الزواج إلى كوارث مرعبة. بينما يتحمّل التقدّميون العلاقات الجنسية، ليس فقط لإنجاب الأبناء، وإنما أيضًا في إطار علاقات تفاعلية، متراضية، تبحث عن الاستكشاف، أو التواصل، أو الحميمية، أو العاطفة، أو الاستمتاع بالحياة. ومجمل التّيارات الدّينية الأصولية تُجرّم العلاقات الجنسية الخارجة عن الزواج، لأنها لا تـقدر على أن تفهم، أن كل مجتمعات العالم، لا تستطيع الاستغناء عن علاقات جنسية من صنف آخر. وهؤلاء المتعصّبون، لا يحرمون أنفسهم فقط من تلك العلاقات الجنسية من صنف آخر، ولكنهم يريدون، زيّادة على ذلك، منع كل المواطنين الآخرين من اللّجوء إلى تلك العلاقات الجنسية من صنف آخر. وهذا الميول المتطرّف نحو فرض أخلاق متعصّبة، مثالية، ومستحيلة، يشكّل تطاولاً على حقوق الغير وحرّياته. ولا يدرك المتديّنون المتشدّدون أنهم إذا كانوا يقبلون، هم شخصيا، هذا التعفّـف الجنسي، الذي قد يختفي وراءه نفاق معروف، فإن فئات مجتمعية واسعة ترفض هذا النّفاق، أو الاستلاب، وتفضّل الشفافية، والحرّية، والمسئولية، والتسامج، والإشفاق، والتعاطف».

8) هل يجوز تجريم شرب الخمر؟

تتناول الموادُّ 286-1 إلى 286-3 «السّكرَ العلني». وتعاقب المادة 286–1 بالحبس من شهر واحد إلى 3 أسهر، وغرامة من ألفين إلى عشرة آلاف درهم، «كل شخص ضُبط في حالة سكر علني بيّن، في الأزقّة، أو الطّرق، أو في أماكن عمومية أخرى، وتسبّب في إحداث الضّوضاء، أو الفوضى، أو مضايقة العموم».

وقال بعض التـقدّميين: «تبقى هذه المادة 286-1 مُقلقة، بل مرفوضة في شكلها الحالي. أوّلاً، لأن غموضها يفتح المجال للشّطط في استعمال السلطة. وثانيًّا، لأنها تظهر كأنها تُجرّم ”السّكر العلني“، بينما مضمونها يُجرّم ”إحداث الفوضى“، أو ”مضايقة العموم“. وثالثًا، لأنها تنبني على مفاهيم غامضة، مثل مفهوم ”الفوضى“، أو ”مضايقة العموم“. ورابعًا، كان على هذه المادّة، بدلاً من استعمال عبارة ”… وتسبّب في إحداث …“، كان عليها أن تقول: ”… إذا تسبّب في إحداث ضرر بالغير، أو تسبّب في عرقلة السّير على الطّرقات، أو ترهيب المارّة، أو الاعتداء على راحتهم“».

وأضاف بعض التقدّميين: «نعرف أن شرب الخمر يهلك أجسام القاصرين. ونقبل منع بيع الكحول إلى القاصرين البالغين أقل من 21 سنة. ونقبل منع سياقة السيارات أو الآلات تحت تأثير شرب الكحول. (والنسبة القانونية المعمول بها في بعض بلدان أوروبا هي: 0،5 غرام من الكحول في اللّتر من الدّم، أو 0،25 ميلّيغرام من الكحول في اللّتر من الهواء الخارج من الرّئتين). ونعرف أن شرب الكحول يتسبّب في نقصان التحكّم في النفس، أو يتسبّب في الإدمان، أو في اضطراب وظائف بعض أعضاء الجسم (مثل الدّماغ، أو العين، أو الأذن، إلى آخره). ونعرف أن وجود الكحول في الدّم يُحدث مثلاً: نقصًا في الرّؤية، أو بُطءًا في ردّ الفعل، أو سوء تقدير المسافات، أو المبالغة في تقدير الإمكانات الشخصية، إلى آخره. ورغم ذلك، نؤكّد أنه لا يحقّ للقانون الجنائي أن يعاقب على شرب الخمر، ولا على السّكر العلني. لأن شرب هذه المشروبات الكحولية يدخل ضمن الحريات الشّخصية، ولا يشكّل شُربها جريمةً. وما يحقّ للقانون أن يُجرّمه هو إحداث ضرر للغير، مثل عرقلة السّير، أو تخريب ممتلكات الغير، أو ترهيب المارّة، أو الاعتداء على راحة السّكان، سواءً كان فاعل هذه المخالفات في حالة سُكر، أم في حالة صَحْو. وكل شخص يشرب الخمر، دون أن يُحدث أيّ أذى للغير، لا يحقّ لنا أن نعتبره مُذنبا، أو مجرما، ولو بلغ درجة السّكر العلني. وبعبارة أخرى، القانون العادل، لا يُجرّم شرب الخمر، أو السّكر، وإنما يُجرّم التسبّب في إحداث أضرار للغير. لأن أصل الجريمة ليس هو مخالفة الدّين، أو الأخلاق، أو العادات، وإنما هو التسبّب في إحداث أضرار للغير».

وأضاف بعض التقدّميين: «إذا أراد القانون تجريم شرب الخمر، فإن هذا القانون يتحوّل إلى دِين أو أخلاق متشدّدة. ولو أننا نعرف أن الدّيانات لا تمنع شرب الخمر، وإنّما تكرهه، أو تنبذ الافراط فيه».

9) هل ينصف القانون الجنائي حقوق المرأة؟

تُجرّم المادة 479 الزّوج الذي «يترك عمدا، … ودون موجب قاهر، زوجه، مخلاّ بواجباته الزوجية… لأكثر من 4 أشهر». وتعتبر الجمعيات النسائية أن هذه المدة كبيرة جدا، ومجحفة في حق الزوجة، حيث لا تستطيع الزوجة أن تصبر بلا نفقة خلال 4 شهور.

وتـقول المادة 418: «يتوفّر عذر مخفّض للعقوبة، في جرائم القتل أو الجرح، أو الضرب، إذا ارتكبها أحد الزوجين ضد الزّوج الآخر وشريكه، عند مفاجأتهما متلبّسين بجريمة الخيانة الزوجية». وتضيف المادة 420: «يتوفّر عذر مخفّض للعقوبة في جرائم الجرح، أو الضرب، دون نيّة القتل، حتى ولو نتج عنها موت، إذا ارتكبها أحد أفراد الأسرة على أشخاص فاجأهم بمنزله وهم في حالة اتصال جنسي غير مشروع». كما أن المادة 421 تمنح هي أيضا عذرا مُخفّضا للعقوبة لمرتكب الضّرب والجرح، في حالة التلبّس باغتصاب، أو بمحاولة هتك عرض.

وقال بعض التـقدّميين: «بصدد المادة 418، أوّلاً، هذه المادة تشجّع الزوج على قتل زوجته في حالة اتّهامها بالخيانة الزوجية، حيث تضمن هذه المادة ظروفَ التّخفيف للزّوج القاتل! وهذا تمييز ظالم ومرفوض ضدّ المرأة. ورغم أن المادة تـقول ”إذا ارتكبها أحد الزوجين“، فإن المقصود الأعم هو قتل الزوج لزوجته. ثانيًّا، تشجّع هذه المادة الزوج على أخذ حقّه بيده، بالضرب، أو الجرح، أو القتل، بدلاً من اللّجوء الهاديء إلى القضاء، والقبول بأحكامه. ثالثًا، هذه المادة تُساير وتشجّع التـقاليد العتيقة السيّئة المنتشرة داخل بعض الشعوب، خاصة في المشرق، ومنها عادة ”جريمة الشّرف“، وذلك بدلاً من مقاومة تلك العادات، أو مناهضتها. رابعًا، هذه المواد 418 و 420، و 421، هي هدية مجانية للزوج الهائج، أو الوحشي، أو القاتل، وليس لها أي مبرّر معقول. خامسًا، تزكي هذه المواد الاعتـقاد الشعبي السائد الذي يعتبر أن العلاقات الجنسية الخارجة عن إطار الزواج هي ”خطيرة جدا“ إلى درجة أنها تبيح القتل. وهذه التّزكية مرفوضة».

وأضاف هؤلاء التـقدّميين: «الغريب هو أن المادة السابقة تتبعها فورًا المادة 419، التي تـقول: ”يتوفر عذر مخفّض للعقوبة في جناية الخِصَاء، إذا ارتُكبت فورًا نتيجة اغتصاب أو هتك عرض بالقوة“. ويقول القاموس: ”الخِصَاء هو نزع الخِصْيَتين. والخُصية هي البيضة من أعضاء التناسل، وهما خصيتان“. فلماذا يدخل القانون في هذه الاعتبارات الحمقاء (في المادة 419، والمادة 412)؟ ولماذا شرط ”إذا ارتُكبت فورًا“؟ وهل حقّا جريمة الخِصاء ترتكب في كل أسبوع؟ وما هو مبرّر منح ”عذر التخفيض“ لمرتكب هذه الجريمة؟ وما علاقة هتك العرض بالخِصاء؟ وهل سنضع مادة ضدّ قطع الخصيتين، ومادة ضدّ قطع الأنف، ومادة ضدّ قطع الأذن، إلى آخره؟ لماذا لا نكتفي بتجريم كل من شوّه جسم شخص، أو تسبّب في قطع أيّ طرف منه؟ فالمادة 419 وما شابهها، هي موادّ حمقاء، ويجب حذفها».

وتشتكي الجمعيات النسائية من كثير من المظالم التي تعاني منها الزوجات أو النساء. وتحتجّ على خضوع القانون الجنائي لِطُغيان رؤية ذكورية ناقصة لحقوق النساء وحرّياتهم. وتتذمّر من ضعف حماية النساء من العنف، وتمكين الزوج العنيف من الافلات من العقاب، وغياب تجريم العنف الاقتصادي، أو النفسي، والتهاون أو التماطل في معاقبة الامساك عن الواجبات الزوجية، أو عن دفع نفقة الزوجة (المواد من 479 إلى 481)، ومنح ظروف التخفيف لجرائم الشرف، والتعامل مع الجرائم المُرتكبة ضد النساء بخلفيات أيديولوجية دينية محافظة، وتناول مظالم النساء برؤية أخلاقية وليس برؤية عقلانية، وتجاهل الاغتصاب الزوجي، وتجريم الإجهاض (ولو كان منعه ساحقا بالنسبة للفتاة العازبة، أو المرأة)، واستعمال أداء اليمين الدّيني كوسيلة للإثبات، إلى آخره. وتوجد بعض التناقضات بين القانون الجنائي (المواد 479 و 480) ومدوّنة الأسرة (المادة 180). وكثير من هذه البنود القانونية، حتّى ولو كانت إيجابية، لا يمكن أن تكون فعّالة إذا لم يتم تدقيق التفاصيل الإجرائية لتنفيذها. ومعظم هذه المظالم، لا تمكن معالجتها بالقانون فقط، وإنما تقتضي أيضا تصحيح عادات، أو معتـقدات، مرتبطة بفهم سائد وخاطئ للدّين. وعليه، فإن تقويم المظالم التي تُعاني منها النساء يقتضي أيضًا، وفي نفس الوقت، تصحيح تعامل الشعب مع الدّين([3]).

وقال بعض التقدّميين: «تحرّر المرأة ليس مشكلا قانونيا فحسب، وإنما هو أيضا مسألة ثقافية، ودينة، وسياسية، ومجتمعية. والسّر الذي يشرح أصل التمييز السلبي ضدّ النساء، يعود إلى أن مُجمل الدّيانات التي ظهرت في الشرق الأوسط (بما فيها اليهودية، والمسيحية، والاسلام)، تعتبر المرأة أقل قيمةً (أو أقلّ إنسانية) من الرّجل([4])، أو تضطهد المرأة، أو تنظر إليها كمصدر لأخطار شتّى، أو تكره العلاقات الجنسية، أو تحرّمها، أو تكبتها. وإعادة الاعتبار للأنثى يتطلّب تقويم وعقلنة تعامل الشعب مع الدّين».

وأضاف بعض التقدّميين: «ما دامت نسبة هامة من الشعب تحتكم إلى مراجع دينية، مقدّسة، أو مطلقة، فإن المظالم التي تعاني منها المرأة ستبقى موجودة. والصراحة هي أن التمييز غير العادل ضد المرأة يرجع سببه إلى الرّؤية الدونية للمرأة القائمة في مجمل الديانات التي نشأت في الشرق الأوسط. بمعنى أن تحرير المرأة ممّا تعانيه من اضطهاد يستوجب الفصل بين الدّين والقانون، والفصل بين الدين والدولة».

((لم يكتمل بعدُ التحليل في هذا الجزء من المقال، ويجب الرجوع إليه في صيغة لاحقة)).

10) هل يجوز تجريم الرغبة في تغيير النظام السياسي؟

تُجرّم المادّة 169 الفعل الذي «يكون الغرض منه القضاء على النظام الملكي، أو إقامة نظام آخر مكانه». وتُعاقب عليه بالسجن المؤبّد. وتضيف المادة 170 أن هذا الفعل يتحقّق «بمجرد وجود محاولة معاقب عليها». وتـقول أن العقوبة «تُطبق بدون تمييز على جميع الأفراد الذين انخرطوا فيها (أي المحاولة)». لكن هذه المواد لم توضّح المعنى الملموس لمفهوم ”الانخراط“ أو تجلّياته. الشيء الذي يسمح بالشّطط. وتضيف المادة 174: أن هذا الفعل (المنصوص عليه في المادة 169) يُعاقب عليه بالحبس من 5 إلى 10 سنوات «إذا لم يتبعه القيام بعمل أو البدء فيه».

فيقول بعض التـقدّميين: «لماذا لا يحقّ للشعب أن يغيّر النظام السياسي القائم؟ هل النظام السياسي القائم مقدّس؟ وهل يحق للمواطنين أن ينتـقدوا النظام السياسي القائم، أم أن هذا النقد يُعتبر بداية ”لِجريمة“ محاولة القضاء على هذا النظام؟ وهل يحقّ لأفراد الشعب أن يفكّروا في تطوير النظام السياسي القائم، أو إصلاحه،أو ترشيده، أو تغييره، لكي يستجيب لتطوّرات المجتمع، ولحاجيات الشعب؟ وحينما يشارك الشعب في انتخاب هيئات تمثيلية، أو تشريعية، أو تنفيذية، أو حينما يصوّت على مشروع دستور، ألاَ تُعبّر هذه المشاركة عن طموح هذا الشعب إلى تغيير، أو تطوير، النظام السياسي القائم في البلاد؟ وهل يلزم أن يكون النظام السياسي في خدمة الشعب، وخاضعا لإرادته، أم أن الشعب هو الذي ينبغي أن يكون خاضعا للنظام السياسي، ومسخّرًا لخدمته؟ وهل غاية النظام السياسي هي خدمة الشعب، أم أن هذا النظام السياسي هو غاية في حدّ ذاتها؟ وحتّى إذا كان هذا النظام جيّدًا في وقت مَا، هل هذا النظام السياسي يبقى دائمًا وأبدًا سليما، وحكيما، وعادلا، وبناءًا، ومشروعا؟ ألاَ تُوضّح كثير من التجاريب التاريخية عبر العالم أنه يمكن أن يتطوّر، أو أن ينحرف، أيّ نظام سياسي، أو أن يصبح عتيقًا، أو متجاوزًا، أو استبداديا، أو فاسدا، أو مستلبًا، فيتحوّل إلى وحش يضطهد الشعب؟ وفي حالة إذا مَا أصبح النظام فاسدا، ألاَ يحقّ للشعب أن يحاول تغيير هذا النظام؟ والشعب الذي يكون محرومًا من حقوقه في مجالات نقد وتغيير النظام السياسي، أليس هذا الشعب فاقدًا لحرّياته، ولاستـقلاله، ولسيادته؟ وإذا كان مبرّر حرمان الشعب من هذا الحق هو الجهل أو التخلّف، فلماذا يعوق، أو يرفض، هذا النظام، كل ما يمكن أن يُساعد هذا الشعب على التخلّص من الجهل أو التخلّف؟ وهل يكفي لنظام سياسي أن يكتب في القانون ”ممنوع تغيير النظام السياسي“ لكي يصبح هذا المنع مشروعًا؟ ولماذا في بلدان أوروبّا، وأمريكا، وآسيا، وأستراليا، تتمتّع في كلّ يوم شعوب هذه البلدان بحرّيات نقد أنظمتها السياسية، وبحرية نقد رؤسائها، أو ملوكها، أو حكوماتها، أو وزرائها، بينما تُحرم شعوب البلدان المسلمة وحدها من هذه الحرّيات؟ وهل مثلاً شعوب تونس، أو مصر، أو اليمن، أو ليبيا، أو سوريا، التي حاولت تغيير النظام السياسي الفاسد، بين سنوات 2011 و 2013، ولو أنها لم تنجح بعدُ، هل هذه الشعوب هي شعوب ”مجرمة”، أم أنها، على عكس ذلك، شعوب متـقدّمة، ومحقّة في طموحها»؟

وردّ بعض المحافظين: «السّماح بالعمل من أجل تغيير النظام السياسي القائم يؤدّي إلى الفوضى، أو التمرّد، أو العصيان المدني. والغلوّ في الحرّيات ينمّي الطموحات الانتهازية أو الأنانية. وانهيار الدولة يفتح الباب على المجهول. وكل شعب لا يحظى إلاّ بالنظام السياسي الذي يستحق. وما يحتاجه الشعب حاليا، ليس هو المغامرات السياسية، وإنما هو تـقوية الأمن والاستـقرار».

وأجاب بعض التـقدميين: «الاستـقرار بشكل مطلق غير معقول، كما أن التغيير بشكل مطلق مرفوض. وعلى خلاف ما يقوله المحافظون، فإن السبب الذي يُحدث غياب الاستـقرار، ليس هو التوسّع في الحرّيات، وإنما هو عدم احترام الدولة لمبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان. وبعض الفترات التاريخية تتطلب التركيز على الاستـقرار، وبعض الفترات التاريخية الأخرى تستوجب التركير على التّقويم أو التغيير. فإذا كان مثلاً النظام السياسي استبداديا، أو فاسدًا، فإن الطموح إلى تغييره يصبح محبّذا ومشروعا. والمواطنون الذين يطمحون إلى تغيير النظام السياسي القائم ليسوا بالضرورة مجرمين، أو مغامرين، أو عنيفين. ولا يحملون بالضرورة عداءً ضد أعضاء الأسر الحاكمة. وتغيير النظام السياسي الذي يكون بالانقلاب، أو بالغشّ، أو بالتّآمر، أو بالعنف، هو فعلاً غير مشروع. لكن تغيير النظام السياسي الذي ينتج عن تحرّك شعبي واضح، مثلما حدث في تونس، أو مصر، أو اليمن، بين سنتي 2011 و 2012، هو تغيير مشروع، ولو تخلّلته بعض الصدامات المؤسفة. لأن أصل المشروعية والسيادة هو الشعب، وليس النظام السياسي».

وقال بعض المحافظين: «دور الدولة هو وضع القوانين التي تضمن الاستتـقرار، وحماية ثوابت الأمّة ومقدّساتها. ومن واجب كل المواطنين أن يحترموا الخطوط الحمراء الشرعية. ألم تـقل الآية: ”يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم“؟ وأولي الأمر هم الحاكمون»!

وقال بعض التـقدّميين: «بقدر ما أن تَدَخّلُ الدولة في الدّين هو مرفوض، بقدر ما أن تدخّلُ الدّين في الدولة هو غير مؤهّل. وفي ”مسودة مشروع القانون الجنائي” الحالية، يُوجد ميل واضح إلى إعطاء الدولة وسائل قانونية متعدّدة، تمكّنها من تحييد، أو تهميش، الأشخاص الذين ينتـقدون، أو يعارضون، أو يقاومون، النظام السياسي القائم. والغريب في مجالات ”المس بأمن الدولة الداخلي أو الخارجي“ (المواد من 201 إلى 207)، أو ”الخيانة“، أو ”المؤامرة“ (المادة 201)، أو ”العصابة الثائرة“ (المواد من 203 إلى 204)، أو ”التجمع الثوري“ (المادة 205)، هو أن هذا القانون يستعمل عمدا عبارات غامضة أو مبهمة، إلى درجة أنه يمكن بسهولة تلفيق هذه التّهم إلى أي ناشط، أو مناضل، أو معارض، أو حركي، أو نقابي، أو جمعوي. وكل متمرّس في القانون، أو كل خبير بما يجري عادةً في المحاكمات السياسية، ويقرأ بنود هذا القانون، سَيُحسّ كأنها أفخاخ معدّة عمدا لاصطياد المعارضين، والمناضلين، والثائرين، والثوريين، بهدف إقبارهم في السجون».

وقال بعض التقدميين: «كمثال من بين عدّة حالات، تُعاقب المادة 201 بالسجن المؤبد ”من ارتكب اعتداء الغرض منه إثارة حرب أهلية…“. ونلاحظ هنا أن هذه المادة لا تعاقب ”من أشعل حربا أهلية“ فعلية، واضحة وملموسة، عبر تكوين وتسليح فريق ضد آخر، وسقوط قتلى وجرحى، وإنما تعاقب ”من ارتكب (مجرّد) اعتداء“، إذا أمكن تأويل هذا ”الاعتداء“ على أنه يمكن أن يهدف في المستقبل إلى ”إثارة حرب أهلية“. والفرق بين الصيغتين شاسع، ويسمح بالظّلم، أو بالشّطط. حيث لا يُعاقب هذا القانون الجريمة المرتكبة في الماضي، وإنما يُعاقب الجريمة المحتملة في المستـقبل. وهذا الغلوّ في استباق الجرائم مرفوض وخطير»!

وأضاف بعض التقدّميين: «تُعاقب المادة 203 بالسجن الؤبد ”من تولّى تسيير عصابة ثائرة، أو تأليفها، أو أمر بتأليفها، أو قام بتنظيمها، أو أمر بتنظيمها، … أو بعث لها بإمدادات من المؤن، أو قدّم مساعدة بأي وسيلة أخرى إلى مسيّري العصابة أو قُوادها“. وترك هذا القانون مفهوم ”عصابة ثائرة»“ غامضا، ومبهما، إلى درجة أنه يمكن تلفيق هذه التهمة إلى أية جماعة من المضربين، أو المتظاهرين، أو المحتجّين، أو المعتصمين. فيصبح الشّطط سهلا. بل المادة 205 تُعاقب بِ 15 سنة سجنا كل من ”قُبض عليهم في مكان التجمّع الثوري“! فهل المقصود هو منع أي مواطن من أن يكون ”ثوريًا“، أو ”ثائرًا“!؟ وما معنى ”التجمّع الثوري“؟ وما معنى أن تكون ”ثوريًا“، أو ”ثائرًا“؟ القانون لم يجب، ولم يوضّح. وفي حالة غياب الوضوح، يصبح الشطط سهلا»!

وقال بعض التقدّميين: «تُعاقب المادة 206 بِالحبس من سنة واحدة إلى 10 سنوات، وغرامة يمكن أن تصل إلى مئة ألف درهم، ”من تسلّم … من أجانب … بأية صورة من الصور، هبات، أو هدايا، أو قروضا … لتسيير، أو تمويل، نشاط، أو دعاية، من شأنها … زعزعة ولاء المواطن للدولة المغربية“. والغريب هنا، هو أن الجُرم الرئيسي المستهدف في هذه المادة، ليس هو تسلّم أموال من أجانب، وإنما هو ”زعزعة ولاء المواطنين للدولة المغربية“! ونلاحظ أوّلاً، أن القانون لم يوضّح معنى هذا ”الولاء“ المقصود، ولا ما هو مضمونه، ولا أين يوجد، ولا كيف نلمسه، ولا كيف نقيسه، ولا كيف نُـثْـبِـته بدقّة؛ وثانيّا، لم يوضّح لنا هذا القانون ما معنى ”الزعزعة“، ولا ما هي تجليّاتها، ولا كيف نتأكّد من حدوث هذه ”الزعزعة“ في الولاء؛ وثالثًا، لم يُقنعنا هذا القانون بأن ”زعزعة ولاء المواطنين تجاه الدولة“ هي حقّا جريمة تستوجب العقاب».

وأضاف بعض التقدميين: «كمثال على ”زعزعة ولاء مواطن تجاه الدولة“، لنتصوّر شخصين يتحدثان في مقهى. ولنفترض أن الشخص الأول منهما يعتـقد أن النظام السياسي القائم بالمغرب هو نظام جميل، ديموقراطي، ومحبوب. وبعد قرابة وقت معيّن من الحوار، وتبادل الحجج، أقنع الشخص الثانيُّ الأولَ بأن هذا النظام هو نظام استبدادي، أو فاسد، وتستوجب مصلحة الشعب إصلاحه، أو تغييره، أو تطويره. فتلاشى، أو زال، أو تبدّد، ”ولاء“ الشخص الأول تجاه الدولة. ماذا نفعل في هذه الحالة؟ هل نرمي الشخص الثاني في السجن خلال 10 سنوات؟ هذا السلوك سيكون، ليس فقط ظالما، أو استبداديا، وإنما أحمقًا»!

وزاد بعض التقدميين: «كمثال ثان على ”زعزعة ولاء مواطن تجاه الدولة“، لنتصوّر عاطلين مُزمنين. الأول منهما يعتـقد أن البطالة هي ظاهرة اقتصادية طبيعية، أو قدر محتوم، ويستحيل التخلّص منه. وبعد نقاش طويل، أقنع العاطل الثانيُّ العاطلَ الأولَ أن البطالة هي ناتجة عن سياسة حكومية مقصودة، ومُرادة، وهدفها هو تخفيض أجور اليد العاملة، وتنشيط الاستثمارات الداخلية، أو جلب الاستثمارات الأجنبية. فكانت نتيجة هذا الحوار هي زوال ”ولاء“ العاطل الأول تجاه الدولة. حيث أصبح العاطل الأول يحمل مواقف سياسية مناهضا للحكومة، أو للدولة. فماذا نفعل في هذه الحالة؟ هل نحكم بِ 10 سنوات على العاطل الثاني»؟

وأضاف هؤلاء التقدميين: «يتّضح من هذه الأمثلة أن تجريم ”زعزعة ولاء مواطن تجاه الدولة“ يهدف، في العمق، إلى إلغاء حرّية التفكير، وحرّية التعبير. والنتبجة العملية هي تجريم نقد الدولة أو سياساتها. ويمكن أيضا أن تُستعمل هذه المادة لمنع نشر المعلومات التي تفضح سوء تدبير السلطة السياسية. وهذا هو الاستبداد بعينه. كأن غاية الدولة هي أن لا يعرف الشعب شيئًا عن الخروقات أو الجرائم التي تُرتكَب في مجالات تسيير الدولة. زيادةً على أن ”ولاء المواطن تجاه الدولة“ الذي ”يتزعزع“ بسهولة، هو أصلاً ”ولاء“ هشّ، ومبني على أساس دعايات مُغَلِّطة، أو كاذبة، أو مُخادعة. كأن الدولة تـقول لنا: ”لقد سوّقتُ صورةً جميلة عن الدولة لدى الرأي العام الداخلي والخارجي، وكلّ من خدش هذه الصورة، سأعاقبه بالسجن“! أي أن المشكل، لا يكمن في ”زعزعة الولاء“، وإنما يكمن في كون هذا ”الولاء“ مبنيًّا على دعاية مخادعة».

((تُتبع القراءة في الجزء الثالث)).



* الهاوامش:

(12) Charles Darwin, De l’origine des espèces , publié en 1859.

(13) سبق للكاتب أن أقترح حلاّ لمعالجة مسألة العلاقات الجنسية، الناتجة عن التفاوت الكبير بين سنّ البلوغ المبكر، وسنّ الزواج المتأخّر. أنظر كتابه:

Abderrahman Nouda, L’Ethique politique, Chapitre: La sexualité, p.160. Ce livre peut être téléchargé à partir du site : http://LivresChauds.Wordpress.Com.

(14) أنظر كتاب عبد الرحمان النوضة بعنوان: ”نقد الشعب والأصولية واليسار والدولة”.

(15) الآية «الرجال قوّامون على النساء» (النساء، 34).

[1] ِCharles Darwin, ‘De l’origine des espèces’, publié en 1859.

[2] سبق للكاتب أن أقترح حلاّ لمعالجة مسألة العلاقات الجنسية، الناتجة عن الـتّـفاوت الكبير بين سنّ البلوغ المبكر، وسنّ الزواج المتأخّر. أنظر كتابه:

Abderrahman Nouda, L’Ethique politique, Chapitre: La sexualité, p.160. Ce livre peut être téléchargé à partir du site de l’auteur : http://LivresChauds.Wordpress.Com.

[3] أنظر كتاب عبد الرحمان النوضة بعنوان: ”نقد الشعب والأصولية واليسار والدولة”.

[4] الآية «الرجال قوّامون على النساء» (النساء، 34).



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن