والقلب يعشق سراً. ( الجزء الحادي عشر)

فاتن واصل
fatenwassel@gmail.com

2015 / 9 / 1

في ليلة ربيعية، كان واحداً من أهم المعارض الفنية التي أقيمت لمجموعة من الفنانين بمسرح الهناجر، أحدهم الدكتور مختار كامل .. وفي ركن منزوٍ وقفت شاردة أمام إحدى لوحاته، فترك مجموعة النقاد الملتفين حوله، وجاء فوقف خلفها تماماً، فشعرت بحرارة أنفاسه تسري فى أوصالها. كانت شديدة التألق في هذه الليلة، رفعت شعرها الذهبي إلى أعلى، وقد تدلّتْ منه خصلات رفيعة لولبية كخيوط كريستالية لامعة على جيدها الطويل، وارتدت فستاناً من الساتان البنفسجي الداكن، ينسدل عند كتفين ناصعي البياض ، مبرزاً جمالهما الذي يشبه قطعة نحت رخامية لإحدى ربات الإغريق تحت الضوء. مد كفيه الدافئتين فاحتوى كتفيها وضغط عليهما ضغطة خفيفة أصابتها برجفة سرت من كفّيه إلى سائر أوصالها، تسمرت في مكانها مستمتعة بهذا الشعور، لفّها لتصبح في مواجهته، ثم مد سبابته تحت ذقنها ورفع وجهها، فأصبحت شفتاها القرمزيتان تحت ناظريه، ظل يدور بعينيه محدقاً في ملامحها الجميلة، وكأنه يلتقط لها الصور، اقترب أكثر، وظل يتشمم أنفاسها دون أن يلمسها، فأغمضت عينيها مستسلمة كما لو كانت في حلم، ثم قال لها:
في يوم من الأيام هاعمل للجمال ده ..
ثم صمت، ففتحت عينيها متسائلة وقالت :
فى يوم من الأيام هتعمل إيه ؟
فرد مبتسماً:
مش ترجعي البيت بقى الوقت إتأخر، وأكيد هم قلقانين عليكي.
ثم برقة لم تتوقعها:
متشكر على اهتمامك بالمعرض، تحبي أوصلك ؟.
لا ميرسي، في عربية ومعايا سواق.

***
بدأ محمود يتغيب خارج المنزل طويلاً وسلوكياته صارت أكثر غرابة . يدخن ، يعود متأخراً بإعياء واضح، يأكل بشراهة ثم ينام، يقص شعره ويصففه بصور غريبة، يهتمّ باختيار ملابسه، وينمّي عضلاته رياضياً ، يقف بالساعات أمام المرآة وهو يدهن جسده بالزيوت، ثم يأخذ أوضاعاً مختلفة كأنه أمام كاميرا.. مظهر جسده أصبح أقرب للرجال منه للفتيان في مثل سنه، السادسة عشرة.
كان رد فعل الأم الغضب والاندهاش من سلوكياته المعوجة، أما جدته التي رأت الجانب الآخر من الصورة ،فكانت لا تكفّ عن تدليله بإسماعه كلمات الإعجاب " طالع لأبوك" ، مع البسملة والحوقلة والصلاة على النبي، وهو يقف أمام المرآة مرتدياً سروالاً ضيقاً يستعرض عضلاته، وترى أن البنات سوف ينتّفْن شعرهن لو رأيْن وسامته وجماله، ولن يستطعن مقاومة هذه الفتوة والرجولة
لم يمضْ الكثير من الوقت لمعرفة سبب توقف الشجار بينه وبين أمه على النقود !!
كان الحدث الأهم في ذلك المساء، عندما فتشت أمه جيوب سرواله خلال نومه ، فوجدت عشر أوراق نقدية من فئة الخمسين جنيه، وورقتين من عملة أجنبية، أعادت النقود وكظمت غيظها وهي تنوي أن تراقبه من بعيد.

وجاءت النتائج أسرع مما توقعت. ففي ظهيرةٍ، كانت الست نبوية في البيت ولم تخرج للعمل، ولم يكن محمود قد استيقظ بعد . جاء رجل ضخم الجثة يرتدي ملابس رياضية، يسأل عن محمود، وطلب من الست نبوية أن توقظه قائلاً:

قولي له القرش مستنيك في العربية.

لم تدعه للدخول وساورها الشك، فهو ليس أحد مدرّسي المدرسة، ولأول مرة ترى هذا الوجه .. فما معنى أن يسأل عن محمود رجل في سن والده ؟ حاولت وهي توقظ محمود، أن تجعل نبرة صوتها خالية من القلق حتى تستجوبه وهو نصف نائم فلا يكذب عليها، هي التى ربته على يديها وتعرفه أكثر من أمه، فقالت:
قوم يا قلبي صحي النوم يا عينيا، كفاية كده.. قوم يا واد.
ثم دغدغته، فتملص من بين يديها وتمتم بكلمات مبهمة، وحين ألحّت عليه جاوبها متذمراً :-
يووه ، سيبيني شوية ياسيتي عاوز أنام.
فوقفت تتأمله للحظات ثم انقضت عليه بالسؤال:
مين القرش ده يا واد يا محمود ؟
فتح عينيه بفزع دون أن يستدير، وقد كان مستلقياً على جنبه يواجهها بظهره، بينما كانت جدته واقفة بجوار السرير بتحفز، أكمل نومه واعتدل بعصبية محتضناً الوسادة، مسنداً عليها فخذه، في محاولة لاستعادة النوم.. وردّ :
ما أعرفش.
لكزته بقبضة يدها في كتفه وزعقت:
قوم قامت قيامتك.. قوم رد علي.. مين القرش ده يا وله؟ ثم لكزته مرة أخرى: إنطق.
فجلس في الفراش غاضباً ورد بعصبية وبصوت مرتفع:
إنتي عايزة ايه دلوقتي؟؟ قلت لك ماعرفوش.
إذا كان واقف عالباب وقاللي أصحيك وهو مستنيك برة يا متعوس.. هيسأل عليك من غير سبب..!! إنت بتستهبل عليا يا واد؟ ده انا أفرمك.. إنت فاكر إني نايمة على وداني.. علشان ما أمك وأبوك مش داريانين بيك؟ لا إصحي انا فاهماك كويس.
ردّ محمود محاولاً إقناعها بنبرة تبين أنه يقول الصدق:
عاوزة إيه بس يا سيتي؟ ده واحد كنت سالف منه فلوس. ومامعييش دلوقت.
_ طيب قوم.. قوم إلهي تنضرب في قلبك، ربنا يدوَّخَك زي ما أنت مدوَّخنا كده، قوم شوف هتقول له إيه.
خرج محمود مرتدياً بيجامته يهرش في رأسه طارداً بقايا النعاس، ثم وقف على باب البيت متلفتاً يبحث عن القرش حتى لمحه، فاقترب منه، تحدث إليه، ثم دخل مرة أخرى بعد انصرافه. ذهب ليستحم، ووقف بعدها أمام المرآة يصفف شعره، ثم أخرج من دولابه زجاجة عطر رخيص رشها على كل أنحاء جسده، والست نبوية جالسة تراقبه في تحفز خفيّ كي لا يأخذ حذره منها، وبعينين تسجّلان كل شيء دون أن تنطق بكلمة. نظر إليها في المرآة وقال لها مستعطفاً:
طب مافيش كوباية شاي والا لقمة بجبنة!!
ردت وفي عينيها نظرة عدم ثقة :
وعلى فين العزم ان شاء الله؟ الظهر قرب يدن ولا فيش مدرسة الساعة دي، يبقى رايح على فين ؟ ناوي تقضيها صياعة؟
يوووه ماكانتش لقمة حتذليني عشان تعمليها لي، خلاص مش عايز أطفح حاجة.

ارتدى ملابس جديدة أخرجها من شنطة مدسوسة في قاع الدولاب، بطريقة تبدو كأنه يريد إخفاءها خاصة عن نظر أمه التي تعبث بكل شيء.. فأردفت جدته:
إش إش إش ؟ إيه الهدوم دي؟ جبتها منين ؟ أنت بتشتغل من ورانا يا وله؟
فهرب من النظر في عينيها وقال :
إنتي هتتبلي عليّا !! خليكي في حالك.. سلام.
ثم صفق الباب خلفه وخرج دون أن يخبرها إلى أين فزعقت عليه:
رايح فين يا وله؟ واد يا محمود.. ثم همست حين لم تستطع اللحاق به :
إلهي تنقرص يا بعيد.
بعد أيام عادت ناهد وفتشت سروال محمود أثناء نومه، وفي هذه المرة أيضاً وجدت عملات أجنبية، فسحبت النقود من جيبه، وخرجت متربصةً تنتظر اكتشافه اختفاء النقود عند استيقاظه.

تغيب الدكتور مختار عن الكلية لعدة أيام، وحين سألوا عنه تبيّن أنه مريض. سارعت شيرين إلى الاتصال به، وكانت علاقتهما كطالبة وأستاذ، توطدت إلى درجة تسمح بأن تتصل به تليفونياً، وخاصة بعد اهتمامها بالمَعارض التي كان يقيمها لأعماله، فقد كانت تنقل اللوحات معه بسيارتها، وتقف لتشارك في تعليقها وتنسيقها داخل المعرض، وتساهم بكافة الأنشطة التي يزاولها فيالكلية، فعرفها عن قرب واختارها من بين زملائها لتكون مساعِدة مباشرة له.
انتابها القلق بجنون وهي تسأل عنه حين سمعت صوته الواهن عبر التليفون.
فضحك ودعاها لتزوره في منزله، وقال لها:
طيب مادام قلقانة عليا كده إيه رأيك تيجي تزوريني، تأكليني وتديني الدوا وتغطيني وتطبطبي عليا عشان أنام.!! قلتي ايه؟
صمتت لحظة ثم قالت بلا تردد:
أوكيه جاية لك.
وذهبت في حلم جميل..تصورت أنها في بيته، يرتدي بدلة سوداء اللون، وهي ترتدي فستانها الشيفون الأبيض وتضع على رأسها تاجاً من زهور الفل، وذهب حلمها إلى أن رأته يدعوها للرقص، يحتضنها، يأخذها بين ذراعيه ويدوران في بهو كبير على نغمات الموسيقى، يرفعها من تحت ذراعيها ويدور بها عدة دورات، ثم ينزلها إلى الأرض بخفة ويقبل جبينها..

في اليوم التالي استيقظت منذ الفجر، ولعلّها لم تنم لحظة، ثم في الصباح أخرجت من الدولاب كل ما فيه من ملابس وألقت بها على السرير، وظلت تجربها قطعة بعد الأخرى.. لا~ هذا طويل.. وهذا؟ مقفول .. وهذا قاتم .. وهذا موضة قديمة.. أخيراً ارتدت بلوزة حريرية جديدة خضراء كلون حبات البازلاء، وتنورة قصيرة ضيقة وصندال ثم رفعت شعرها على هيئة ذيل حصان ذهبي اللون.
استقلت سيارتها الجيب وذهبت للعنوان كما وصفه لها مختار. شقة على النيل في حيّ الزمالك في إحدى العمارات الفاخرة.
صعدت، ووقفت أمام باب الشقة، ترددت قليلاً قبل أن تدق جرس الباب.. فتح لها مختار مرتدياً شورت وتيشيرت، شعره الأجعد منسدل بحرية وقد ظهرت الشعرات البيضاء بوضوح أكثر، أشار لها بيده أن تدخل، فمدّت يدها بباقة صغيرة من الورود الحمراء والبيضاء، أخذها منها ممتناً، وابتسامة خفيفة تعلو وجهه، مسد شعره بأصابعه ثم أغلق الباب. انسل إلى فراغ المطبخ المجاور للباب، ووضع الورد في فازة وهي تنتظره في الردهة، وعندما خرج من المطبخ حاملاً الورود يقربها من أنفه ليستنشق رائحتها، فوجئ بها لاتزال واقفة بخجل، فوضع ذراعه على ظهرها بحماس ودفء يدفعها برقة لتدخل قائلاً:

إتفضلي يا شيري.. معلش البيت فوضى شوية.
شقته ذات طراز حديث، بأثاثات مريحة، ومقاعد وثيرة، ذات ألوان صاخبة برتقالية وصفراء وخضراء، بار فيه كل أنواع المشروبات الكحولية، الزجاجات مرصوصة بذوق راقٍ، والكاسات مصطفة بأناقة، ستائر خفيفة بيضاء وأخرى ذات نسيج مخملي بني اللون ضارب للحمرة، حائط تحتله مكتبة كبيرة تعج بالكتب والأسطوانات، وجهاز لبث الموسيقى، وتليفزيون حديث بشاشة كبيرة وسماعات موزعة في كل مكان.
على الحائط المواجه للمكتبة والمطلي باللون البرتقالي، عُلقت نسخ من لوحات لرينوار وديجا وجوجان وبيكاسو بأطـُر غاية في الأناقة، تتوسطهم لوحة الموناليزا ضخمة بحجم كبير.
سألها بود:
إيه رأيــك في البيت؟ عجبك؟
لم تجلس شيرين بل دارت حول نفسها دورة كاملة تتأمل الصالة بإعجاب ، ثم ردت قائلة:
بيتك جميل، ذوقك حلو جدا.
_ تشربي إيه؟
_ المفروض إنك ترتاح وانا اللى أجيب لك حاجة تشربها.. إيه سلامتك.
لم يردّ وجلس على الأريكة بعد أن سحبها من يدها لتجلس بجواره، اختل توازنها، فأحاطها بذراعه، فوجدت نفسها في حضنه وهمس في أذنها:
وحشتيني يا شيري
حدّقت في عينيه غير مصدقة .. ماذا ؟ وحشته ؟؟
هذه وحشة تخالطها رائحة عطر مثير تفوح منه، إنها وحشة رجل لإمرأة..
لا لا .. هاتان العينان لا تدلان على وحشة أستاذ لتلميذته.. بم سترد الآن ؟ وانت كمان وحشتني يا أستاذ ؟؟ يا مختار ؟؟
اُنظري إلى يده التي تحيط بظهرك، والأخرى توجه رأسك ليقابل وجهه المتلوّن رغبة وشبقاً، تداعب خصلات شعرك وتفكّه، أهي تلك.. يده التي أمسكت يوماً بيدك تعلمك كيف تخلقين الجمال بريشتك على اللوحات؟
فتحت عينيها ونظرت في عينيه الزائغتين.
ارتجفت وشعرت بالخوف للحظة، أهذا ما كانت تريده؟ شبق عنيف حيث انتظرت الدفء والحنان ؟ لم تمهلها يداه وهما تعتصران صدرها لتستكمل حلم الأمير والأميرة يتراقصان، فحاولت التملص، لكن الصدر النافر كان الأسبق لتلبية شهوته المفزعة، فانقض عليه يقبّله فتوسلت له : لا لا من فضلك يا دكتور ..................
نظر لها وقد تهوش شعره واحمر وجهه ثم حاول تهدئتها فقال:
ايه رأيك تشربي كاس!! حاجة كده ترخي أعصابك شوية لأنك مشدودة. أنا هاجيب لك المشروب اللى هايشـَــرَّبوه للناس في الجنة.
تركها ودخل إلى غرفة نومه.. وقفت حائرة بعد أن أصلحت من وضع ثيابها، واستدارت تنظر من خلال الزجاج العريض المطل على صفحة النيل، ثم نظرت في مرآة مثبتة على الحائط، وضبطت خصلات شعرها ومسحت خديها من آثار لعابه، اقتربت أكثر من المرآة وكأنها لمحت شيئاً وأحبت ان تدقق النظر فيه، فرأت علامات حمراء داكنة تميل للون الأزرق في وجهها، وبالذات حول شفتيها وعلى عنقها، فتحت أزرار بلوزتها وتأملت مساحة صدرها، فإذا بآثار أصابعه وبعض الخربشات بسبب مقاومتها.
ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجهها وهمست تحدث نفسها:
إنتي مجنونة..!! إيه اللى بتعمليه ده؟ طب حتقولي لنديم ايه؟
أنا حرة نديم مالوش دعوة، هو انا بقول له كلّمْ دي وسيب دي.. هو كمان مالوش دعوة بيا وبعلاقاتي.
نودي ؟ مش ده نديم حبيب قلبك!!
يوه .. مش عاوزة أفكر في كده دلوقتي.
ناداها مختار من الداخل .. اتجهت نحو الصوت بحذر، وحين دخلت الغرفة، وجدته ممدداً على السرير، فارتجفت وهي ترى لأول مرة جسد رجل عارياً تماماً، تسمّرت قدماها عند باب الغرفة، لم تتحرك، مد ذراعيه لها قائلاً:
تعالي، تعالي هنا أريَّح.
ذهبت شيرين بخطوات مترددة نحو الفراش وجلست عند طرفه البعيد فقال لها:
قربي شوية.. انتى مش عارفة اني عيان ومحتاج حد يطبطب عليا !!
حاولت أن تتمالك نفسها وألا تظهر ارتباكها:
_ طيب ما انا قريبة أهو.
_ لا قربي أكثر وأكثر.
ثم أمسك بيدها وسحبها بقوة نحوه، فاندفع جسدها الرقيق وأصبحت تقريباً تنام فوقه، احتضنها بقوة وأخذ يقبلها، ثم نزع عنها ملابسها بعنف، فأصبح الجسد الأبيض الرخامي عارياً بين ذراعيه بارداً خائفاً مرتجفاً.. فأخذ يقبـَّلها في كل أجزائه، ثم فاجأها بسؤال لم يكن في حسبانها:
إنتي بنت ياشيرين؟ فيرجن يعني؟
فردت شيرين بقلق وهي تشعر بجفاف شديد في حلقها:
أيوة.
فتوقف للحظة كمن يتخذ خلالها قراراً مصيرياً، ثم اعتدل جالساً مسنداً ظهره إلى وسادة، وأشعل سيجارة بعد أن حشاها بشيء بني اللون يشبه الصلصال محفوظ في لفافة من ورق السيلوفان، أخرجه من درج الكومودينو بجوار الفراش، عجنه بين أصابعه وبرمه، ثم زج به داخل السيجارة بمسمار غليظ بعد أن أفرغ جزءاً من التبغ.. سحب نفساً عميقاً وهو ضاغط بإصبعيه على السيجارة، ثم مدّ يده مقرباً إياها من فم شيرين التي اعتدلت بدورها جالسة، وسحبت الملاءة غطت بها جسدها العاري، ولكن حين اقتربت بفمها لتسحب نفساً من السيجارة، سعلت بشدة من مجرد رائحة الدخان فضحك بسخرية وقال:
هو انتي لسة عملتي حاجة !!
نهض من الفراش تاركاً إياها، ارتدى الشورت ثم استدار خارجاً من الغرفة.
تناوبتها مشاعر مختلطة، هل تستطيع الاحتفاظ به دون إقامة علاقة كاملة بينهما، كتلك السيدة الناعمة التي زارته في المعرض؟
سلوكه في التعبير عن رغبته أيقظت مشاعر الأنثى في داخلها..
ما المقابل لئلا تفقده إن لم يكن منحه كامل جسدها ؟

حين خرجت إلى البهو، وجدته جالسا يحتسي كأساً من النبيذ، مبتسماً ابتسامة باردة ليس فيها أي تعبير.. بادرته بقولها:
انت زعلت ؟
فقال على الفور:
لا .. على الاطلاق.
فسألته بتردد :
طيب تحب أستنى معاك شوية والا أمشي.
فقال بهدوء:
زي ما انتي عاوزة.
فقالت وهى تحاول إخفاء قلقها:
تحب آجي أزورك تاني؟
طبعا طبعا أهلا وسهلا.
***
في صباح اليوم التالي لاكتشاف ناهد عملات أجنبية بجيب ابنها، انتظرت أن يأتي ليسألها عن اختفاء نقوده، لكنه لم يفعل. وأحضر حقيبة ظهر صغيرة، وعبأ بداخلها بعض الملابس، ثم أخرج من شنطة بلاستيكية لباساً للبحر مزركشاً، ووقف يتأمله على نصفه الأسفل، وأخيراً دسه في الحقيبة، ثم حملها على ظهره، ومسد شعره بأصابعه وهو يأتي بحركة استعراضية ناظراً في المرآة، ثم ذهب إليها في المطبخ وقال :
أنا طالع الغردقة دلوقتي.
فنظرت ناهد بدهشة وكان رضا يقف على مقربة منها، يأكل من البطاطس التى تخرجها من المقلاة، ودعاء تقف عند حوض غسيل الصحون، التفتوا كلهم مندهشين، فهبَّت ناهد في وجهه قائلة:
غردقة !! والمدرسة يا عين أمك والا عاوز تسقط السنة دي كمان؟
رد عليها بضجر:
إنتي ما عندكيش الا السقوط السقوط !! ما تشوفي لك نغمة تانية بقى.
فواجهته بسؤال كانت تتصور أنه سيتفاجأ :
وحتجيب منين فلوس ؟ والا برضه هاتي يا ماما!
فقال لها ببرود :
مش عايز منك حاجة.. سلام.
فقالت له بغضب وهي تخرج من صدرها العملات الأجنبية:
طب مش عاوز شوية من دول ؟
استدار ليرى ماذا تعني، فلمح النقود في يدها وبحركة تلقائية مد يده متحسسا موضع جيبه الخلفي، فشهق بعد أن تأكد من خلوّه من النقود وزعق:
يا بنت الــ...
فإذا بها تخلع شبشبها وتنقض به على رأسه، دون أن تعطيه فرصة للرد، فأمسك بذراعيها مقيداً، وخطف النقود، وجرى نحو الباب مسرعاً، ثم خرج وصفقه خلفه بقوة.
جلست على الأرض وشرعت في العويل:
قوم ياشوقي.. قوم يا منيل شوف ابنك باين عليه بيتاجر في المخدرات.. قوم إجري وراه بدل ما يضيع مننا.
قالت لها دعاء بأسى وكانت قد أصبحت في الثامنة عشرة من عمرها:
قومي ما تعيطيش، لو كان بيتاجر في المخدرات كان زمانه اتدهوّل، لكن أنا شايفاه عايق عالآخر.. قومي ما تقهريش نفسك، صحتك مش هتتعوض.. أما البغل اللى بتندهي عليه ده فمافيش منه أمل.
نظرت لها ناهد بدهشة وقالت مستنكرة:
جرى ايه يابت ماتنسيش انه أبوكي.
فانتفضت دعاء وكأن عقرباً لدغها:
أبويا ؟؟ حوش يابويا ؟ منين ياختي؟ هو انتِ هتستعبطي.. من إمتى وهو أبويا!
لم تستطع السيطرة على بكائها ، وقالت بحزن:
والنبي تسيبيني في حالي، قومي خلينا نعمل اللقمة عشان عندي كلية الساعة تلاتة.. وعشان تلحقي تروحي المستشفى النهاردة بدري شوية، ونظرت لرضا ووجهت كلامها له:
وانت ياللا روح خلص الواجب اللى إديتهولك عشان إمتحان بكرة خليك تنفع كفاية علينا صايع واحد.
خرج رضا بهدوء، ثم عادت دعاء لتكمل غسيل الصحون، وتمسح دموعها بظهر رسغها دون أن تصدر صوتاً.
استدارت ناهد لها متسائلة:
بتعيطي ليه يابت؟؟
كزّت دعاء على أسنانها ودموعها تنهمر، حدقت ناهد في وجه ابنتها وهي تتوقع شراً وقالت:

ما تتكلمي يابت يا دعاء مالك؟
فردت دعاء بصوت منخفض ذليل:
ما تبقيش تسيبيني مع الراجل جوزك ده في البيت لوحدي..
كل يوم وانتِ في الشغل يفضل يعمل حركات كده مش فاهمة عاوز ايه، وديك النهار نده عليّ وكنت باذاكر وطلب مني أعمله حاجة يطفحها ولما قلت له بذاكر، قام عليا بالضرب وفضل يمد إيده على جسمي بطريقة ما يعملهاش أب مع بنته.. شوفي لك حل بدل ما اوَلــَّع لكم في نفسي.

سيطر الذهول على ناهد وهي تكاد لا تصدق، وتملّكها الغيظ، ولكنها تعلم جيداً أن الكلام معه لن يأتي بنتيجة. وأخذت تفكر شاردة بطريقة تحمي بها ابنتها، خاصة أنها لن تستطيع التوقف عن العمل، فمن أين ستأكل هذه الأسرة لو تفرّغت لمراقبة هذا العاطل الحشاش؟

يتبع غداً



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن