نظرة في عمق المآساة العراقية

خليل الزبيدي
khalil.alzubaidy@yahoo.co

2015 / 8 / 23

في ظل الكوارث المتنوعة التي لا يمكن لشعب على وجه المعمورة ان يعيشها او يتخيل نتائجها المستقبلية يرزخ أهل العراق، فما إن ينفضوا أيديهم من غبار مصيبة حتى يخط القدر الأحمق لهم مصيبة اخرى أدهى وأمر من سابقتها ،فهذا هو ديدن تاريخ العراق منذ نشأته ، دوامة لا تتوقف من حالة اللا إستقرار يدفع ثمنها مساكين هذا الشعب وهُم الأعم الأغلب . لا أريد الخوض في الحقب الزمنية التي سبقت عام 2003 ، لما تتطلبه من إسهاب وإطالة وسرد قد يصل الى حد الملل ، لكن دعونا نركز على أشد الصفحات ظلاماً وعتمةً في سجل حياة العراقيين وعلى مر تاريخهم المُشبع باليأس والإحباط والفوضى وإنهيار القيم وبشاعة الحياة الملونة بالدم دائماً. هذه الصفحة التي ولدّت حالة من الغيبوبة الوطنية لدى المجتمع ونسيج اجتماعي متهتك ، فالإنهيارات في هذا الجانب أصبحت حاضرة في نفوسنا وقابلةً لأن تطلق نفسها من أعماق واقعنا الفاسد لتصبح طافية على سطح المجتمع ، وبقينا نتغنى بماضينا السخيف وحلاوة أيامه وهي ليست بحلوة ، وهي حقيقة نضمرها في نفوسنا لكن لشدة ما آلت إليه الأمور الآن من قتل وفساد وتشريد وفوضى وإستهتار بكل المعاني والقيم الإنسانية ،صرنا نترحم على ماضينا المر ونرى فيه حلاوة لازال طعمها لصيقاً بألسنتنا . لقد خلقت الزعامات السياسية الكسيحة وطبيعة الحكم والنظام السياسي في ظل الإنقسام والتشرذم الطائفي والقومي تغييباً واضحاً للوعي الوطني بل إلغاءً تاماً للحالة الوطنية وترسخت عوضاً عنها حالة أسمها (المكونات الثلاث الرئيسة) وهي حالة غريبة عن الواقع العراقي كونها سلخت روح المواطنة الحقيقية من كل فرد يرافقها غسل للأدمغة الساذجة والهشة .فمن المؤسف أن يكون جميع الذين أتوا الى السلطة في عراق الفوضى الجديد ليست لديهم تجارب ولا معرفة ولا أية مصداقية أخلاقية او قدرات سياسية او حتى إبداعات فكرية ، ولم نجد أي صُناع أذكياء للقرارات ولا خبراء في إدارة الأزمات ، بل حفنة من الطائفيين والإنتهازيين والسراق والجهلة جلبوا لنا معهم داء المحاصصة المذهبية والقومية والعشائرية فضلاً عن المحسوبية ، فقتلوا القوى المستنيرة الفاعلة في مجتمعنا ، والمتبقي منها يموت موتاً بطيئاً كل يوم بل كل لحظة خصوصاً وقد غادر البلاد خيرة ابناءه من الكفاءات وأصحاب التخصصات النادرة ، فكيف لنا أن ننهض ببلدنا وقد قدمنا أسوأ ما عندنا من شخوص للكابينة الوزارية .... جميعاً لا أستثني منهم أحدا ،كيف لوزير ان يدير وزارته وهو عاجز عن سوق حمار الى معلفه كيف لنا أن نتباهى بنائب في البرلمان يُفترض أن يمثل شعبه تمثيلاً حقيقياً وإذا به سارق أو محتال أو قاتل أو عميل أو إمعة جاهل لا لا يجيد سوى صُنع الفلافل في دكان صغير ، كيف لنا أن نبني علاقات دبلوماسية مع دول العالم المتحضر وقد أرسلنا لهم بسفير أعور لا يفقه من الدبلوماسية والعلاقات الخارجية إلا متعة السفر والعيش على شواطي العراة ، هذا إن لم تكن شهادته مزورة. إن ما حصل من محاصصة ملعونة قد أودت بحياة الوطن وسمعته يشكل فجيعة تأريخية بكل المقاييس، فالخطأ الذي وقع فيه ساسة الإسلام السياسي هو أنهم ما زالوا يؤمنون بمواريث وبقايا قديمة بالية يرونها صائبة وإنها أقوى من أية حضارة معاصرة مما قاد الى تفاقم حالة اللا وعي وغياب الإدراك الحقيقي والفهم جراء ترسيخ مفاهيم منحرفة وثقافات ضالة ،الأمر الذي سوف يسبب امراضاً مزمنة تتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل ، كونها تركبت وترسخت في ذهنية المجتمع دون الشعور بمخاطرها ، فقد تجذر الحقد والكراهية في النفوس وتعلمت كيف تخفيها وتدفنها في كل الظروف ، لكنها تنتهز الفرص لإظهارها والإعلان عنها بكل بشاعة متى ما أطمئنت للظرف الذي يخدمها . وبالرغم من كل ما حصل ويحصل للأسف فما زلنا أسرى مكبلين في سجون ماضينا الغابر بأحداثه ومروياته والتي لم نعالجها بشجاعة وجرأة وإن كان هناك ثمة متصدي لها فالتهم جاهزة له (ماسوني ،كافر ،بعثي ، طائفي،مُلحد) مما أدى الى إسكات أصوات حرة كثيرة تارة بالقتل وأخرى بالتهجير لذا أصبح عامل المقاومة رخواً لا قدرة له على مجاراة حيتان العصر وخفافيش الظلام ممن يدعون الإسلام ويرفعونه شعاراً زوراً وبهتاناً . عشنا ولا زلنا على أوهام وخرافات وخطابات كاذبة لا يمكن تحقيقها ونحن نعيش القرن الحادي والعشرين ، فتم عمداً قتل الإنسان ثقافياً بعيداً عن أية صيغ علمية او مكاشفات نقدية من خلال وسائل إعلامها الموجه وسياساتها الواضحة في ترسيخ الطائفية ودق أسفينها في نعش المجتمع . وبرغم المظاهرات التي تجوب ساحات العراق بكل مدنه التي لم تدنسها داعش بأنجاسها ، وبصرف النظر عن حُزم الإصلاحات الموعودة من قبل السيد العبادي والتي ننتظر نتائجها بفارغ الصبر ، إلا إننا ما زلنا خائفين مترقبين لنتائج تلك الإصلاحات وما ستؤول إليه ، مؤكدين تحذيرنا للنفعيين والإنتهازيين من ركوب موجة تلك المظاهرات، وأن لايقوم السيد العبادي بالالتفاف على أصوات الجماهير الغاضبة وإستبدال الوجوه التي سئمنا رؤيتها بأخرى تختلف في الشكل فقط ولتعلم كل الزعامات السياسية العرجاء إن الهيروين الذي أرُيد لنا أن لا نستفيق منه قد نفذ مفعوله فقد إستفاق الشعب وتعب من نومته العميقة، وآن الآوان لمسح صفحة المحاصصة من سجل النظام السياسي القائم ، تلك المحاصصة الخائبة التي جعلت من السُراق والأغبياء والجهلة يطمعون في تقلد المناصب العليا في الدولة في عملية سياسة هزيلة منذ اكثر من عشرة أعوام....ولله در أبو فراس الحمداني رحمه الله حينما قال (حتى اذا صارت في غير موضعها تنازعتها الذؤبان والرخم ) وهذا سهم في كبد مشكلتنا التي نعاني منها لأكثر من عقد من السنين العجاف ، فكانت النتيجة إن الدولة والمجتمع أصبحتا رهينتين بيد زعامات شعبوية فارغة تفرعنت من خلال أتباعها من الجهلة وتشيطنت بأسم الدين، فتفاقمت قوى ظلامية جاهلة طغت على القوى الفاعلة المستنيرة.فأصبح العداء سافراً وواضحاً بين المتعلمين والجهلة وبين المثقفين وبين الأشباه الذين ازداد عددهم بشكل يُنذر بالخوف على مستقبل هذا الوطن، مستفيدين من سذاجة وقلة وعي المجتمع ومستوى الضحالة لدى الكثيرين من خلال ترسيخ الخطاب الذي يستميل العواطف ويُحرك باكورة الأحاسيس البشرية التي تنطلق بفطرة وعفوية عالية خصوصاً لدينا نحن العراقيين ، حتى اصبح الإستبداد صفة ملازمة لبعض رجال الدين الذين وجدوا أنفسهم يتمتعون بسلطات أكبر من حجمهم كثيراً ، ففقدوا توازنهم وجُن جنونهم وبدأوا يضطهدون من يخالفهم حتى في أبسط الأشياء مما أدى الى خلق كوارث متتالية قادت الى جملة إنهيارات يأتي في مقدمتها إنهيار القوى الحداثوية الفاعلة في المجتمع . وما يدعم رأينا هو رأي الشيخ العلامة محمد حسين النائيني رحمه الله الذي كان يرى بأن أخطر أنواع الإستبداد الذي تبُتلى به المجتمعات هو الإستبداد الديني الذي يعتمد على الإستثمار في التخلف المجتمعي وعلى الإيمان الممزوج بغباوة المجتمع . وهذا لب المشكلة وجوهرها فالأمة العاجزة عن تشخيص المشاكل التي تعاني منها سوف تكون عاجزة عن سلوك طريق التقدم والإزدهار. بقي ان نقول إن الديمقراطية ضرورة مُلحة لبناء المجتمعات والأمم لكنها في ظل ظروف عرجاء كالتي نعيشها فإنها وباء فتاك لشدة خطورة إفرازاتها النتنة ، تلك الإفرازات التي تجعلك مضطراً لسماع الرعاع من الطارئين على السلطة ورؤية مناظرهم المقززة يومياً على شاشات التلفاز . اذن ما الحل وكيف السبيل لبناء مجتمع رصين يتطلع للأمام دون النظر الى الخلف يستشرف المستقبل دون التقليب في سجلات الماضي السحيق التي كُتبت بأيادي نجهل مدى نقائها، ونتطلع الى مجتمع يحمل دينه إيماناً وإعتقاداً راسخاً لوحده دون وصاية أو إملاءات من أحد ، وأن يجعل علاقته بربه كعلاقة العاشق بمن يحب (سراً دفيناً لا يعلمه أحد) خيط رفيع ممدود من الأرض الى عنان السماء ، وأن نبتعد بعقائدنا عن طقوس هي أقرب الى الجنون منها الى العقل وأن ننُقي تأريخنا من أدران الماضي بكل ما يحمله من تناقضات وبذور من شأنها أن تستهدف وحدة مجتمعنا ، وأن ندع مسلسل الماضي لأبطاله ، ولنا الحاضر الذي يُملي علينا فريضة العمل الدؤوب كي نصنع مستقبلاً تتغنى به أجيالنا القادمة وعلينا ان لا نتباكى على أمجاد ومواريث ماضينا فالأمم الحقيقية هي تلك الأمم التي تعمل ليل نهار لتصنع أمجاداً لأجيالها، فيكفي عقولنا ما مُلئت به من تفاهات أكل عليها الدهر وشرب وأن نؤمن بأن الحل يكمن في صناعة دولة مدنية مبنية على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات وأن لا يخضع فيها أي فرد لإنتهاك حقوقه من قبل فرد آخر او طرف آخر فهناك دوماً سلطة عليا هي سلطة الدولة المدنية التي لاتعلو فوقها أية سلطة ولنا حديث قريب عنها.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن